الطبيب مادس ورئيس قسم الطوارئ علي خلال عملهما في مستشفى النجدة الشعبيّة في النبطية (المفكّرة، 10 تشرين الأول 2024)
يجلس الطبيب النرويجيّ مادس غيلبرت اليوم، في مستشفى محلّي متواضع في النبطية، جنوب لبنان، بصوت هادئ ولكنه واثق، يصف في حديثه لـ”المفكّرة” ما يحدث حوله: “تتحدث إسرائيل عن عملية عسكرية محدودة ومحدّدة الأهداف، لكن ما أشهده هو غزو غير قانوني وقصف بلا رحمة لدولة ذات سيادة”.
ويروي الطبيب الاختصاصي في التخدير وطبّ الطوارئ مشاهد الدمار: القصف المتواصل، وقتل المدنيين من دون تمييز، وامتناع الشمال العالميّ عن التدخل. “إن القوة الوحيدة القادرة على إيقاف إسرائيل هي الولايات المتحدة، ولن تفعل ذلك، لأن مصالحها الجيوسياسية تتوافق مع مصالح إسرائيل الاستعمارية”. تحمل كلماته ثقل عقود من الخبرة كشاهد على هذه الجرائم بشكل مباشر – من لبنان في عامي 1981 و1982 والاجتياح الإسرائيلي، إلى حروب غزة المتعاقبة، والآن العودة إلى لبنان مرة أخرى.
حطّ غيلبرت رحاله في مستشفى النجدة الشعبية في النبطيّة قبل نحو أسبوعين، يلاحق الجريمة الإسرائيليّة المتوسّعة، مطبّبًا ضحاياها، وموثّقًا أثرها وعمقها. هو طبيب، وأيضًا أكاديمي وسياسيّ وناشط إنساني، وتشكّل مسيرته مزيجًا نادرًا من التعاطف والخبرة والالتزام الثابت بالعدالة.
لعقود، وقف جنبًا إلى جنب مع الذين يعانون تحت الاحتلال الإسرائيليّ، وبخاصة الفلسطينيين واللبنانيّين، ولم يقدّم الدعم الطبي فحسب، بل رفع صوته أيضًا ضدّ الصمت العالمي الذي يحيط غالبًا بمحنتهم.
ولد مادس غيلبرت في مدينة بورسغرون في جنوب النرويج في 2 حزيران 1947، ونشأ في عائلة متجذرة بعمق في التيارات الفكرية والثقافية. كانت والدته ممرّضة، وكان والده فنانًا. مثل العديد من العائلات الأوروبية في ذلك الوقت، كانت أسرته منغمسة في السرديّة الصهيونيّة. كانت والدته تتحدث بإيجابية عن إسرائيل وأسلوب حياة الكيبوتس الذي يتنكّر برداء الاشتراكيّة، الأمر الذي شكل وجهة نظر غيلبرت المبكرة عن الشرق الأوسط. ولكن في عام 1967، بينما كان يستعدّ للتطوع لدعم إسرائيل خلال حرب الأيام الستة، من خلال التطوّع مع جيش الاحتلال في أحد الكيبوتسات، غيّرت محادثة مع صديقة أخته نظرته للعالم. كانت هذه اللحظة محورية. فقد سحب دعمه للصهيونيّة، وتراجع عن طلب قدّمه بالفعل للتطوّع في الكيبوتس مع الجيش الإسرائيليّ، مما شكل بداية تضامن سيمتدّ لمدى الحياة مع ضحايا الصهيونيّة عينها، وهي الرحلة التي تجاوزت الآن أكثر من نصف قرن.
بدأت رحلة غيلبرت الطبية في جامعة أوسلو، حيث درس الطب العامّ وتخرّج عام 1973، ليتخصّص بعدها في التخدير وطبّ الطوارئ. خلال اجتياح بيروت عام 1982، كان متطوّعًا في مستشفيات الهلال الأحمر في العاصمة اللبنانيّة، وقاده التزامه بالتضامن العالميّ إلى أفغانستان وكمبوديا وميانمار، ثمّ الضفة الغربية المحتلّة في زمن الانتفاضة. لكن غزة أصبحت النقطة المحورية لنشاطه الطبي، بعد أن جاءها أوّل مرّة في العام 2006. وعمل إلى جانب الأطباء الفلسطينيين في مستشفى الشفاء خلال عدوان عام 2008، وعدوان عام 2012، وعدوان عام 2014، حين بعث للرئيس الأمريكيّ الأسبق باراك أوباما برسالة دعاه فيها لقضاء ليلة في الشفاء.
في عام 2023، عندما شنّت إسرائيل حربها الإباديّة الكبرى، والأخطر على القطاع الساحليّ، منعت تل أبيب غيلبرت من دخول القطاع، فعمل على رفع الصوت من الخارج، وجدّد نفيه مزاعم الاحتلال بشأن النشاط العسكري داخل مستشفى الشفاء، وأكّد أن استهداف المرافق الصحية هو ركن من أركان الإبادة الجماعيّة. وأدان غيلبرت ليس فقط الاحتلال الإسرائيليّ، ولكن أيضًا صمت القوى العالمية التي مكّنته من ذلك، وبخاصة الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن.
بالنسبة للكثيرين، ما يجعل مادس غيلبرت مقنعًا للغاية ليس فقط دوره كطبيب ولكن موقفه الأخلاقي الثابت. فهو لا يعالج الجرحى فحسب، بل يتحدّث ضد أنظمة الاستعمار المسؤولة عن جراحهم. وكتاباه “عيون في غزة” (تأليف مشترك مع الجراح النرويجي إريك فوس، صدر عام 2010) و”ليلة غزة” (عن تجربته في مستشفى الشفاء، صدر عام 2014) ليسا مجرد وقائع حرب؛ بل شهادتين على وحشية الاحتلال وصرخة حاشدة ضد الظلم. وفي عالم حيث قد يعني الصمت التواطؤ، يأبى غيلبرت أن يظل صامتًا.
وعندما نسأله عن دوافعه، غالبًا ما يتحدث عن التضامن، وضرورة كسر هذا الصمت، ويقول: “الصمت جريمة”. ولا تقتصر مهمته على معالجة جرحى الحرب فحسب، بل تشمل أيضا كشف ومواجهة وتحدي الروايات التي تحمي مجرمي الحرب وتطمس أفعالهم. ولا تشكّل تجارب اللبنانيّين والفلسطينيّين بالنسبة لغيلبرت مجرد ساحة معركة، بل رمزا قويا للمقاومة يتطلّب تضامن العالم.
المفكّرة القانونية: عرفت كأحد أبرز الأطباء الأوروبيين في دعم غزة والشعب الفلسطينيّ. ما دافعك اليوم لأن تأتي إلى لبنان؟ وما الدور الذي تأمل تأديته فيه انطلاقا من تجاربك السابقة؟
مادس غيلبرت: أنا الآن في مستشفى محلّيّ في النبطية، وأسمع إسرائيل تتحدث عن “عملية عسكرية محددة الأهداف”، لكن ما أراه في الحقيقة هو غزو غير مشروع للبنان، ولبنان دولة ذات سيادة ولها حدود، على عكس إسرائيل التي ليس لها حدود واضحة، وهي تحرك حدودها باستمرار كقوة استعمارية.
إسرائيل تنتهك الأراضي اللبنانية في الجنوب بلا رحمة، وتضرب العاصمة ليلاً ونهارًا بقنابل تزن طناً لكل منها، وتقتل المدنيين بلا حدود. ولا توجد قوة دولية قوية بما يكفي لوقفها، والقوة الدوليّة الوحيدة القادرة على ذلك هي الولايات المتحدة، التي تدعم إسرائيل لمصالحها الجيوسياسية التي تتلاقى مع مصالح إسرائيل الاستعماريّة في المنطقة.
هذا وضع خطير. وأنا هنا لأبدي تضامني في وجهه، لأنه إذا استمر، سيعيش أطفالي وأحفادي في عالم تحدد فيه قوّة الدول الاستعمارية الصواب والخطأ، وليس حقوق الإنسان الأساسية، وليس التعطش الذي نشعر به جميعًا للسلام والمساواة والعدالة والعالم غير العنصري.
المفكّرة: بالعودة إلى عملك كطبيب في مستشفى في الجنوب اليوم، ما هي أنواع الإصابات التي تراها تتكرّر؟
غيلبرت: نحن نشهد حروقًا وبترًا للأطراف، وكل ما قد تتوقعه من هذه الهجمات التي تنفّذها طائرات مسيّرة وطائرات إف -35 على مدنيّين عزّل. يصل إلينا كبار سنّ وأطفال يحملون حروقًا في أنحاء جسمهم، أو إصابات بليغة في الأطراف ما يضطرّنا إلى بترها، وهناك حالات الاختناق التي تحدث بسبب القصف بمختلف أنواع الأسلحة.
المفكّرة: كيف تتشابه أو تختلف أنواع الإصابات بين غزة وجنوب لبنان؟
غيلبرت: الإصابات هنا مشابهة لما رأيناه في غزة، مع فارق وحيد. في غزّة، كما في بيروت أو صيدا، الكثافة السكانية أعلى، لذا قد نرى المزيد من الإصابات المرتبطة بالصدمات العنيفة جرّاء انهيار المباني العالية على رؤوس السكّان. في جنوب لبنان (حيث الحياة القرويّة والمنازل الصغيرة والمساحات المفتوحة) الناس غالبًا ما يكونون في الخارج عند وقوع الهجمات، مما يؤدي إلى جروح شظايا وحروق وإصابات استنشاق. الإصابات تعتمد على الأسلحة المستخدمة، والإسرائيليون يستخدمون جميع الأنواع، مما يؤدي إلى ظهور جميع أنواع الإصابات.
المفكّرة: ما هي أنواع الانتهاكات التي أمكنك توثيقها بناءً على ما تراه بحكم عملك؟
غيلبرت: إسرائيل تنتهك المبادئ القانونيّة الثلاثة: التناسب (من خلال استخدام القوة المفرطة مقارنة بالتهديد) والتمييز (من خلال عدم التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية) والحذر (من خلال عدم الاكتراث لسلامة المدنيين).
استغرق الأمر من الغرب أيامًا فقط لفرض عقوبات على روسيا بعد غزو أوكرانيا. لكن مرت 75 عامًا، ولم يفرضوا أي عقوبات على إسرائيل. نحن بحاجة إلى حظر الأسلحة، والعقوبات الاقتصادية، والعزلة السياسية – على الفور – من أجلنا جميعًا، وحتى يتمكن أطفالنا من العيش في عالم يتم فيه احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي.
المفكّرة: كيف تشهد كطبيب على تمادي القتل ضدّ المدنيّين؟
غيلبرت: هناك أمثلة واضحة. في غزة، تشير الأرقام إلى أن جيش الاحتلال قتل أكثر من 1000 عامل في مجال الرعاية الصحية. وفي لبنان، وفقًا لوزير الصحة، قتلوا أكثر من 100 عامل في هذا المجال. منذ وصولي إلى النبطيّة، قُتل 16 مسعفًا في هذه المنطقة في استهدافات إسرائيليّة مباشرة. اليوم، عالجنا زوجين مسنين في السبعينيات من عمرهما، كانا يجلسان خارج منزلهما يشربان القهوة عندما أصيبا بصاروخ من طائرة من دون طيار. الأغلبية العظمى من المرضى الذين نعالجهم هم نساء وأطفال يأتون من القرى المجاورة.
المفكّرة: هل من حالة معيّنة أثّرت بك؟
غيلبرت: قبل يومين فقط، شهدت على حالة شخصين من مرجعيون، هند وحبيب. كانت هند، وهي سيّدة أربعينيّة، تسير في طريقها لزيارة أحد الأصدقاء عندما رأت سائق دراجة نارية مصابًا. من دون تردد، ركضت نحوه لتقديم المساعدة. في تلك اللحظة، أطلقت طائرة إسرائيلية بدون طيار النار عليها. الرجل الآخر، حبيب، كان شرطيًا في أواخر الثلاثينيات من عمره، وهو أيضًا لم يسلم من الهجوم، إذ استهدفته الطائرة نفسها.
بسبب الهجمات الإسرائيليّة، أغلقت جميع المستشفيات الخمس جنوب نهر الليطاني، مما أدى إلى تأخير وصول هند وحبيب إلى المستشفى لمدة ساعة إضافية بسبب طول الطريق. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ. فقد تعرضت سيارة الإسعاف لتهديد مباشر من قبل قوات الاحتلال، مما أجبر المسعفين على الانتظار لأكثر من ساعة قبل أن يتمكنّوا من نقل المصابين إلى المستشفى. هذا التأخير المأساويّ أضاف ساعتين إضافيتين إلى وقت النزيف، ما يعني أنهما استمرا في النزيف لساعات أطول مما ينبغي.
عندما وصلا إلى المستشفى، حاولنا جاهدين إنقاذهما. لكن هند كانت قد فارقت الحياة قبل وصولها بسبب جروحها البالغة، إذ لم تصمد أكثر من ساعة بقليل. أما حبيب، فقد تمكنّا من تثبيت حالته ووضعه تحت التخدير، ثم نقلناه إلى صيدا، ولكنه فارق الحياة هناك بعد وقت قصير من وصوله.
المفكّرة: لا شكّ أن استهداف القطاع الصحّي والإغاثيّ لا يهدّد فقط المسعفين والكوادر الطبّيّة، أو الجرحى في الميدان، بل جميع السكّان. لمَ هذا الاستهداف برأيك؟
غيلبرت: هند وحبيب، كان كلاهما مدنيين ــ هند مدرِّسة وحبيب شرطي ــ وكان من المفترض أن يحظيا بالحماية وفقًا للقانون الدولي. لكن أنماط الإصابات والتكتيكات التي يتبعها الجيش الإسرائيلي تكشف عن نيته الواضحة في ترهيب المدنيين واستهدافهم وتشويههم وقتلهم. في النهاية، المقاومة ليست مجرد قوة عسكرية، بل هي إرادة الشعب في مقاومة الاحتلال. ومن خلال حرمان المدنيين من الرعاية الصحية، يحاول الاحتلال كسر تلك الإرادة.
المفكّرة: بين اجتياح بيروت وثلاثة حروب على غزّة، ثمّ إبادة غزّة وبعده عدوان متصاعد هنا، ما هو المشترك بين هذه الحروب الإسرائيليّة المتكرّرة؟
غيلبرت: أرى في لبنان اليوم ما كنت أراه في غزة. ورأيت في غزة ما رأيته في لبنان في عامي 1981 و1982. والآن، بعد 42 عامًا، لا يزال الوضع هو نفسه تقريبًا: تستطيع إسرائيل أن تفعل ما تريد بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
المفكّرة: هل يمكن توضيح ما تعنيه بهذا الدعم؟
غيلبرت: تقول إسرائيل إنها لا تهاجم المدنيين، لكنها تفعل ذلك. إنها تستهدف السكان، المدارس، الجامعات، الكنائس، والمساجد، وتهاجم نظام الرعاية الصحية، بل وتقتل المسعفين في سيارات الإسعاف. كل ما هو محظور في القانون الدولي مسموح به لإسرائيل بسبب هذا الدعم. وتستمرّ إسرائيل بالإفلات من العقاب.
والسبب وراء رؤية هذا القتل الإسرائيليّ بأعداد لم نكن نعتقد أبدًا أنها ممكنة والمستمرّ بوتيرة أو بأخرى منذ 75 عامًا، هو هذا الدعم الدوليّ المستمرّ، وأنه لا يوجد نظام عدالة دولي لديه القدرة على منع الدول من انتهاك القانون الدولي بالطريقة التي تفعلها إسرائيل. هذه مشكلة أخلاقية وسياسية وأمنية كبرى في العالم اليوم.
المفكّرة: ماذا اختلف إذًا على هذا الصعيد بين عام 1982 وعام 2024؟
غيلبرت: الفرق بين عام 1982 وعام 2024 هو ثلاثة أشياء: أوّلًا، المساءلة القانونية. إذ أخيرًا، تم أخذ إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية من قبل جنوب إفريقيا بشجاعة. ثانيًا، قوّة المقاومة: المقاومة ضد السيّاسات الاستعمارية الإسرائيلية أصبحت أقوى بكثير، سواء في فلسطين أو في لبنان. ثالثًا، تغيّر في التوجه الدولي: دول الجنوب العالمي بدأت تأخذ موقفًا أقوى تجاه إسرائيل في المحافل الدولية.
لكن، هذا لا يساعد كثيرًا عندما تكون قوة الجيش الإسرائيلي ووحشية القادة الإسرائيليين تواصل قتل المدنيين بلا قيود. انظر إلى غزة الآن: بين 45 ألفًا و145 ألف إنسان قتلوا أو سيموتون بسبب إصابات أو أمراض نتيجة الحرب. في غزة، أصيب 90 ألف إنسان خلال عام، وفي لبنان حتى الآن، خلال فترة قصيرة، قُتل أكثر من 2000 إنسان وبلغ عدد الجرحى حوالي 9000.
المفكّرة: هل تتعاون مع الجهود القانونيّة التي أشرت لها لمحاسبة إسرائيل؟ وهل لديك رأي بشأن تأخير المحكمة الجنائيّة في الرد على طلب المدعي العام خان بإصدار مذكرة اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي؟
غيلبرت: لقد وثّقت الكثير في غزّة، وقدّمت سابقًا أدلة إلى لجان مختلفة، وكتبت أوراقًا علمية وكتبًا حول الوضع. وكما تعلم، لم يُسمح لي بالدخول إلى غزة خلال الهجوم الأخير، رغم أنني ذهبت إلى هناك مرّات عديدة في السابق. وكانت آخر مهمة لي في أواخر حزيران من العام الماضي، لكنهم منعوني بشكل خاصّ من الدخول بعد الهجوم الأخير على القطاع.
ليس لدي رأي محدد بشأن تأخير المحكمة الجنائية الدولية، سوى أنني أعتقد أن النظام القانوني للأمم المتحدة يتعرض للتآكل والتقويض من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل وحلف الناتو، مما يؤثر على معايير القانون الدولي في النزاعات المسلحة.
المفكّرة: كيف يمكن مواجهة استمرار الوحشيّة الإسرائيليّة بل وتصاعدها؟
غيلبرت: هذا وضع خطير للغاية بالنسبة للعالم بأسره. إذا انتصرت إسرائيل أو استمرّت بالإفلات من عقاب المجتمع الدولي، فإننا نعود إلى قانون الغاب، حيث القوة هي الحق وليس الحق هو الحق.
كطبيب، تم تدريبي للبحث عن السبب الجذري للألم. السبب الجذري لكل البؤس الذي أراه، سواء كان طفلاً مقتولاً في غزة أو امرأة محترقة في جنوب لبنان، هو احتلال فلسطين الذي يتوسّع مع الضم غير القانوني للضفة الغربية، والطموحات المستمرة لإسرائيل في “أرض إسرائيل”، للتوسّع حتّى خارج فلسطين التاريخية ولاحتلال أجزاء من لبنان، وربما سوريا، وربما الأردن، وربما مصر، من يدري؟
من وجهة نظر قانونية، أشعر بقلق شديد للغاية من تمتّع إسرائيل بهذه الحصانة. هناك ضوء في نهاية النفق مع محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وانضمام المزيد والمزيد من الدول إلى هذه المعركة القانونية ضد إسرائيل. الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان اللتان دعمتا المطالبة الجنوب أفريقية في محكمة العدل الدولية هما إيرلندا وإسبانيا. ولم تدعم أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي هذه المطالبة، حتى بلدي النرويج.
لذا، هناك حركة، ولكنها بطيئة للغاية. والقوة الأكثر أهمية في هذه الحركة نحو محاسبة إسرائيل هي في الواقع القاعدة الشعبية، وحركة التضامن الواسعة في جميع أنحاء العالم. لم يسبق قط أن كان التضامن مع فلسطين ولبنان أكبر أو أقوى أو أكثر انتشارًا على مستوى العالم. لكننا لسنا منظّمين بشكل جيد. ليس لدينا أسلحة. ليس لدينا القوة السياسية لوقفهم. لكنني متفائل.
على المستوى الشخصيّ، أنا أقوم بعملي كطبيب، وأنا أدافع عن حق الشعب المحتل في مقاومة الاحتلال بالسلاح، وهو ما ينص عليه القانون الدولي. وكما أن الغرب والولايات المتحدة يدعمون الشعب الأوكراني في نضاله ضدّ الاحتلال الروسي، فأنا أدعم الشعبين الفلسطيني واللبناني في مقاومتهما المسلّحة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، سواء في غزة أو الضفة الغربية أو لبنان.
المفكّرة: بوجودك اليوم في لبنان، ومع كلامك عن حركة التضامن وتوسّعها، ما هو الدور الذي تأمل أن تلعبه هنا؟
غيلبرت: دوري هو أن أكون طبيبًا عاديًا أعمل مع الطاقم الطبي المحلّي في مستشفى النجدة الشعبية. لدي احترام كبير لزملائي الأطباء والممرضات والمسعفين، وأرغب في إظهار التضامن مع المضطهدين. اخترت أن أكون في صفهم، فأنا لست محايدًا. أريد أن أؤدي عملاً طبيًا جيدًا كجزء من فريق العمل.
أرتدي زي المستشفى، وليس زي منظمة غير حكومية، لأنّني أعتقد أن ظهور الفرق الغربية لإنقاذ شعوب الجنوب يعكس هيكلًا استعماريًا، وهذا جزء من المشكلة. جئت هنا كطبيب واحد يرغب في إحداث فرق.
أريد أن أظهر للناس هنا في لبنان، ولأهل غزة، أنهم ليسوا وحيدين، فنحن إلى جانبهم، ونحن بالملايين، ونحن الأغلبية، والأغلبية بحاجة إلى أن تكون مرئيّة وتُظهر وجودها من أجل تشجيع وتعزيز الأشخاص الذين يقاومون الاستعمار. عندما تكون في موقف صعب، من الجيد دائمًا أن يظهر شخصٌ ما لدعمك. إنه مفهوم بسيط؛ يُسمى التضامن، وهو في صميم نضال الطبقة العاملة من أجل مجتمع أفضل.
المفكّرة” لكنّك بتضامنك وبرفعك للصوت وكتابتك للكتب، وكما ذكرت، أنت تتعدّى دورك كمجرّد طبيب يقوم بواجباته الطبيّة بصمت أو بحياديّة.
غيلبرت: التضامن هو مفهوم بسيط لكنه جوهري. أؤمن بالنضال المنظّم لتحقيق هذا الهدف. ولكن يجب على الجميع أن يلعبوا دورهم، وأن يتخذوا خطوات عملية، بدلًا من الاستسلام للإحباط. عندما نشعر بالعجز، فإنهم يربحون. وأنا أرفع الصوت لأنّه لا بد من مقاومة هيمنتهم على وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي. ونحن نحتاج إلى إيجاد مساحتنا للعمل، سواء كان ذلك من خلال كتابة الشعر أو الرسم أو تنظيم المظاهرات أو حتى مناقشة القضايا في محافلنا المحلية. نحن نعيش في لحظة تاريخية، ويجب على الجميع أن يختاروا موقعهم: أين تقف؟
في حالة القمع، فإنّ الحياد يعني الوقوف مع الظالم. وقد أكّد هذا أيضًا الأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو. لا يوجد حياد تجاه القمع. في فلسطين ولبنان، لا يمكنك أن تكون محايدًا. عليك أن تختار: إما أن تكون مع الصهاينة والسياسات الاستعمارية الأمريكية أو مع الشعب الفلسطيني واللبناني. وأنا أخترت موقعي مع الفلسطينيّين واللبنانيّين.
وأنا أرغب أيضًا في توثيق ما يحدث، لهذا أكتب. ولقد كتبت ورقة مهمة عن غزة في مجلة “لانسيت” حديثًا. وبصفتي طبيبًا أوروبيًا بعيون زرقاء وشعر أشقر -فللأسف- يمنحني هذا منصة للتحدث لفئات لا تصل إليها الأصوات الفلسطينية أو اللبنانية لأنها تُصوَّر على أنها إرهابية. لذا، أستخدم هذه المنصة بشكل منهجي للغاية لنقل الحقيقة حول ما يحدث، وأنتج مقاطع فيديو كل يوم تقريبًا لحسابيّ على إنستغرام وX، ربما تكون رأيتها.