يعتبر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، المنتمي لما يسمّى بتيار المؤرخين الجدد في إسرائيل، أفضل من كتب عن التطهير العرقي في فلسطين، بل وأغزر المؤرخين الجدد إنتاجا[1]. يحلّل هذا المؤرخ عبر عدد من الأعمال نواة الفكرة الصهيونيّة بوصفها فكرة عنصرية استيطانية منصهرة في تراث الاستعمار الأوروبي للقرن التاسع عشر، تقوم بالأساس على الاعتقاد في نوع من التفوق العرقي والحضاري الذي يبرّر إبادة “الشعوب غير المتحضّرة”. اهتمّ بابي في بداية مسيرته الأكاديمية بالتاريخ العام لفلسطين، وبالسياسة البريطانية في منطقة المشرق العربي، وبالأرستقراطية الفلسطينية[2]، قبل أن يتوجه للتدقيق في مسائل تركيز الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية، وصناعة الصراع الصهيوني الفلسطيني. تعرّض بابي لموضوع الإيديولوجيا والدعاية الصهيونية، ولقضيّة صناعة المعرفة والسلطة، وللقمع الأكاديمي في الجامعات الإسرائيلية، لكنه خصّص أيضا بعض أهمّ كتبه لموضوع التطهير العرقي في فلسطين. نتناول في هذا النصّ كتابين رئيسيّين لإيلان بابي، وهما “التطهير العرقيّ في فلسطين” و”أكبر سجن على الأرض. سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة”[3].
يهتمّ بابي، كأيّ مختص جادّ في تاريخ الأفكار، بقضايا السردية وصناعتها. وهو، عبر أعماله التي استفادت من إتاحة الأرشيفات البريطانية وحتى الإسرائيلية بعد انقضاء المدد اللازمة قانونيا، وبالانفتاح على مختلف العلوم الإنسانية الأخرى، يقترح سردية جديدة بالكامل لما وقع في فلسطين ومنطقتها، من تحضيرات لتركيز المشروع الصهيوني في سياق الحركة القومية والاستعمارية الأوروبية، إلى “الحروب” التي يفترض أنّ إسرائيل قد خاضتها ضد الجيوش العربية بدءا من 1948. تقترب سردية بابي كثيرا من السردية الوطنية الفلسطينية، عبر تأكيد علميّ لمضامينها يستند إلى الوثائق البريطانية والإسرائيلية نفسها. مثل شلومو ساند تماما، يعتبر إيلان بابي أنّ الصهيونية مجرّد حركة استيطانية عنصرية تعتمد الإبادة ضد الشعوب الضعيفة، تسندها في ذلك دعاية مكثفة ومدعومة من الثقافة الغربية وتحديدًا أفكار “الصهيونية المسيحية”، وكذلك من الصناعة والرأسمالية الأمريكية والأوروبية. لا يخفي بابي تعاطفه مع حركة المقاومة الفلسطينية، ويعتبرها حركة تحرّر مسندة أخلاقيا، وهذه المواقف هي التي أدّت إلى شنّ هجمات ضارية عليه من الأكاديميا الصهيونية الرسمية[4] .
إنّ كتابات إيلان بابي التي نتناولها هنا، بالإضافة إلى ما جاء في كتاباته الأخرى حول فلسطين، هامّة من ناحيتين: فهو يعتبر أنّ المشروع الصهيوني في فلسطين هو جينيّا مشروع للإبادة، وهو لا يستنتج ذلك من مصادر معادية للصهيونية، بل من المصادر الإسرائيلية ذاتها. أما الفكرة الثانية الهامة والرئيسية فهي اعتباره أن المقاومة الفلسطينية هي نتيجة حتمية لتعرض الفلسطينيين الذين يعتبرهم أصحاب الأرض الحقيقيين، لتلك الإبادة.
الإبادة الصهيونية وارتباطها جينيا بمشروع دولة إسرائيل
في البداية كانت الخطة “دالت” (د). هذه الخطة التي وضعها قادة الحركة الاستيطانية الصهيونية الذين قدموا إلى فلسطين لا تعود إلى ما بعد “حرب 1948″، بل إلى ما قبلها، وحتى إلى ما قبل إعلان قرار التقسيم. هذا تدقيق ضروري جدا. ذلك أنّ السردية الإسرائيلية التي تنكر إلى حدّ الآن حصول تطهير عرقي في 1948، لا تنفكّ تشير إلى أنّ “ردود الفعل” الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين قد جاءتْ لمواجهة أحاسيس التهديد الذي شكلته “الجيوش العربية” بإعلانها الحرب على إسرائيل، ورفض الفلسطينيين قرار التقسيم. يفرد إيلان بابي جزءا هاما من كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” لتحليل كل شيء انطلاقا من هذه الخطة “د”، ولإيضاح أنّ كلّ شيء كان محددا سلفا، بل وأنّ ما وقع يتطابق مع أحدث التعريفات التي يتبناها المجتمع الدولي اليوم للتطهير. يضع إيلان بابي مقارنات مستمرة مع أحداث التطهير العرقي في يوغسلافيا في التسعينات، ليُبيّن تناقض العالم المتحضر. ففي حين يرفض هذا العالم مبدأ التطهير العرقي نظريا، فإنه يرتكب في الوقت ذاته جريمتيْن ضدّ الإنسانية: توفير السياق الملائم لحدوثه في يوغسلافيا نفسها تحت شعار الفصل بين المتنازعين، وغضّ النظر عن مراجعة ما حصل في فلسطين في 1948 أو الاعتراف به، وبالتالي عدم تحمّل المسؤولية المرتبطة بالاعتراف تجاه عملية اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم التي تظهر اليوم في شكل قضية لاجئين ونزاعات دامية بلا أفق.
يتبنّى بابي، من منطلق المقارنة مع التجربة الإنسانية المعاصرة والقانون الدولي التعريف العلمي للتطهير العرقي بوصفه “جهدا يرمي إلى تحويل بلد مختلط عرقيا إلى بلد متجانس من خلال طرد جماعة من الناس وتحويلهم إلى لاجئين مع هدم البيوت ومجازر تستعمل كتكتيك هدفه تسريع هروب السكان المطرودين من تاريخ البلد الرسمي والشعبي واستئصالهم من الذاكرة الجماعية”. من وجهة نظر بابي، تمثل فلسطين أوضح مثال واقعي عن تطبيق التطهير العرقي، وهو ما يتطلب تجذيره في الذاكرة الإنسانية كجريمة ضد الإنسانية، فاعلوها هم “أبطال حرب الاستقلال اليهودية” وكل قادة إسرائيل الذين يواصلون اليوم إما تجاهل الجريمة، أو تبريرها، أو ارتكابها.
إن شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” الدعائي الذي ابتدعته الصهيونية لم يكن يعني، من وجهة النظر الصهيونية، شيئا وَقعَ في الماضي، أي قبل نشأة كيان إسرائيل في منتصف القرن الماضي، بل مهمّة للإنجاز. لم تكن فلسطين كذلك، ولكن توجب ببساطة جعلها كذلك. لقد طرح ليو متوسكين، أحد منظري الصهيونية العملية الأكثر ليبرالية، الأمر منذ 1917 بهذه المفردات: “فكرتنا أنّ استعمار فلسطين يجب أن يسير في اتجاهين: استيطان يهودي في أرض إسرائيل، وإعادة توطين عرب أرض إسرائيل في أراض خارج البلد”. الأمر بنفس الوضوح لدى بابي: هذا مشروع استيطان استعماري لا يمكن أن ينجح دون التخلّص العنيف أو الطوعي من السكان الأصليين. وبما أنه يجب دائما مساعدة التاريخ للسير في طريقه بشكل طوعي، فإنّ عمليات الإبادة تأخذ هنا شرعيتها العملية كاملة. حصل الشيء ذاته، أو على الأقلّ وقعت محاولة أو سعي لذلك، عبر كل عمليات الاستعمار الاستيطاني المستند إلى فكرة التفوق العرقي الأوروبي، في عصر الدولة القومية الأوروبية، بحضور مصالح استراتيجية واقتصادية معقدة، وباتباع خطط موضوعة سلفا. يتساءل بابي كيف استطاعت جريمة بمثل هذه القسوة أن تحصل في زمن نشطت فيه الصحافة وتطورت وسائل الاتّصال، وكيف أنّ كارثة بمثل هذا المدى الإنساني الضخم الذي تمثله قضية اللاجئين، “يقع مع ذلك اقتلاعها تماما من الذاكرة العالمية الجماعية، ومحوها من ضمير العالم… أن تتلافاها كل الجهود الدبلوماسية لحلّ النزاع، ألاّ تجد طريقها لكتب التاريخ”. لم يحدث مثيل لذلك أبدا منذ الحرب العالمية الثانية. بلدٌ بأكمله يتمّ محوه من خارطة العالم، حضارة عريقة مزدهرة يتمّ وأدها في رمال المصالح، وملايين من البشر أضحوا في غضون أسابيع معدودة، بلا وطن أو دار أو جنسية. تخيّل أن ذلك قد وقع فعلا، وأنه مسح من ذاكرة البشرية، وأن المجرمين ظلوا طلقاء دون محاسبة، وأنّ كل العالم تآمر من أجل إخفاء ذلك أو إنكاره أو نسيانه.
في “البيت الأحمر” على مشارف تل أبيب وضعت إذا الخطة “د”. لقد تم ضبطها نهائيا في مارس من سنة 1948، بما يعني أنّ قرار المضي فيها قد اتخذ قبل أن يجتاز متطوع عربي واحد الحدود إلى فلسطين. وضعَ هذه الخطة مجلسٌ من أحد عشر “مستشارا” يمثلون قيادات صهيونيّة قديمة وضباطا في المنظمات الإرهابية الصهيونية، قادهُ دافيد بن غوريون. يحلل بابي الجهد الضخم الذي استندت إليه “حكومة البيت الأحمر” قبل أن تبدأ تنفيذ الخطة “د”، أي خطة التطهير العرقي. لقد استغرق جمع المعلومات عن القرى والقيادات، بل عن العادات والتقاليد والزراعات والمواشي وأسماء الأنهج والقرى، سنوات قبل مارس 1948، وهذه المعطيات هي التي سمحت بإنجاح عمليات التطهير لاحقا، تلك العمليات التي استغرقت ستة أشهر وأدت إلى طرد ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من قراهم ومن وطنهم القديم وتحويلهم إلى لاجئين، وتدمير 531 قرية فلسطينية وادعة، وأحد عشر حيّا حضريا في المدن المختلفة. عملٌ بعيدُ المدى لم يكن يحتاج إذا إلى مبررات من نوع ردّ الفعل على هجمات القرويين العرب على المستوطنات، ولا حتى دخول قوات عربية لفلسطين، ولا أيضا رفض الفلسطينيين لقرار تقسيم أنتجته منظمة الأمم المتحدة الناشئة حديثا والتي تصرفت باستهانة كبيرة تجاه الحقوق التاريخية للفلسطينيين في بلدهم. لقد أشرف “العالم الحرّ” بنفسه على الهولوكوست الجديد، نفس ذلك الهولوكوست التي وعدَ بأنه لن يسمح بحدوثه مجددا.
في نهاية الأمر، وقبل الحرب العالمية الثانية نفسها، كانت للمجموعات الإرهابية الصهيونية في فلسطين قاعدة بيانات ديمغرافية واجتماعية وطوبوغرافية لكلّ قرى فلسطين. وعندما بدأ التطهير في 1948، كانت الأمم المتحدة قد أقرّت منح نصف فلسطين لسكان وافدين حديثا إليها لم يكونوا يمثلون سوى 30% من سكانها. لقد سمحت لمشروع استيطاني عنصري بأن يفعل ما يريد، بما في ذلك إفراغ الأرض من سكانها بالقتل والتهجير وتدمير وجودها وثقافتها. لقد كانت الأمم المتحدة ببساطة عراب التطهير العرقي الذي أذن له أن يبدأ.
استخدمت إسرائيل مصطلح الحرب عوضا عن مصطلح التطهير العرقي. تاريخيا، لم يكن الأمر يتعلق بحرب، وهو ما سيتكرر لاحقا في 1967. لم تخضْ إسرائيل حتى سنة 1973 حروبا، بل قادت عمليات تطهير واحتلال غاشم، وبعد 1973 أيضا، تجاه لبنان، لم يكن الأمر يتعلق بحرب، بل أيضا باجتياح عدواني. إنّ في الحرب قواعد تجعلها حربا، والتطهير العرقي الناتج عن التوسع الصهيوني لا ينتمي إلى هذه القواعد. بطريقة أوضح، فإنّ استيلاء الجيوش المنتصرة على أراض انسحبت منها الجيوش المقابلة أمر اعتيادي في الحروب، لكن أن تكون الخطة احتلال الأرض عن طريق خطة موضوعة سلفا بإثارة ذعر المدنيين وطردهم وقتلهم، حتى من دون وجود جيوش، فالأمر لا يتعلق هنا بتاتا بحرب، بل بعملية تطهير وإبادة.
المشروع الصهيوني هو مشروع استيطاني على الشاكلة الأوروبيّة، لكنه في الحقيقة أكثر تعقيدا. يتعلّق الأمر حتما بالاستيلاء على الأرض، ولكنّ الأرض ليست رهانه الوحيد. الصهيونية حركة استيطانيّة استعمارية تستند إلى حقوق تاريخية متخيلة مستمدة من شرعية لا يفترض أن تراعيها قوانين “العالم الحر” العقلانية. من الضروري، في حالة الحركة الاستعمارية الصهيونية، ملاحظة تطوّر هام: هناك ارتباط بتمثيل الحضارة الأوروبية في “الأرض المتخلفة” مثلما حصل في الحركة الاستعمارية الغربية الكلاسيكية منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، لكن في مثال الصهيونية وفلسطين، يدخل الساحة عامل آخر يفترض أنه غير عقلاني من جهة فكر الأنوار الأوروبي ذاته: العنصر الديني. دفعت أوروبا بهذه الحركة الاستيطانية الاستعمارية إلى الأمام لتبيد شعبا ضعيفا وتطهّر منه أرضه التي سكنها منذ قرون، بالاستناد إلى نبوءات دينية، إلى نوع من الحق الإلهي المتناقض مع فكر الأنوار نفسه. كان هناك باستمرار إذا تلك الرغبة في استعمار أراضي الآخرين وطرد سكانها منها، أما المبررات فكانت مجرد حيلة دعائية تتغير من النقيض إلى النقيض من دون أن يرفّ لعقلانية أصحابها من ذلك جفن.
سجن مفتوح: غزة والضفة في خطة التطهير العرقي الصهيونية
يحلل إيلان بابي باستفاضة إستراتيجية التطهير العرقي باعتبارها تقوم على حاجتيْن متلازمتين: السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي وتغيير التوازن الديمغرافي بطريقة تضمن وجود أغلبية يهودية إذا لم يتسنّ أن يكون جميع سكان الأراضي المستولى عليها من اليهود. تضيفُ الصهيونية إلى كل ذلك عنصر الجريمة الثقافية بالإصرار على مسح أيّ أثر للقرى الفلسطينية المهجّر سكانها ولتقاليد وثقافة الشعب الفلسطيني، وتهويد أسماء الأماكن ومحاصرة التعبيرات الثقافية الفلسطينية من أجل مسح ماضي الأرض تماما. كان الأوروبيون ولاحقا الأمريكيون، بتشجيعهم للمشروع الصهيوني، يعلمون جيدا النتائج المتوقعة لهكذا مشروع، بل إنهم لم يكتفوا بذلك حيث قدموا كل ما يكفي من أجل أن تُتمّ الصهيونية إنجاز خطتها. لقد أنتج ذلك الغول الذي تمثله دولة إسرائيل اليوم. دولة بلا التزامات أخلاقية، مسلحة جيدا وبلا حدود من أجل الاعتداء على سكان فلسطين وعلى جيرانها في المنطقة، وغير قابلة للمحاسبة في أي مؤسّسة دولية.
هناك ارتباط شديد بين فكرة الإبادة وفكرة السجن، حيث يأتي هذا الأخير لتحقيق عملية المحاصرة للشعب المستهدف بالإبادة في انتظار توفر ظروف إتمام عملية التطهير. في سنة 1948، لم يتسنّ للقادة الصهيونيين الانتهاء من تطهير الضفة بسبب المعارضة الأردنية. كان “الجيش العربي”، أي الأردني، قد تصدى بنجاح لمحاولة احتلال الضفة بناء على اتفاق سابق مع “قادة إسرائيل” يقضي بتوسع الأردن فيها وإضافتها إلى أراضيه، ما دعا إلى تأجيل خطة الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة. حصل نفس الشيء بالنسبة لغزة، حيث عارض المصريون ضمّها لإسرائيل بشدة. مع ذلك فإنّ الخطة الأصلية بقيتْ قيد الإعداد. كان التحوير الوحيد فيها هو إتقان محاصرة المنطقتيْن في انتظار توفر ظروف إقليمية أفضل، وكانت الخطة تهدف ببساطة إلى طرد الفلسطينيين المتكدسين فيهما إلى الدولتين المجاورتين، الأردن ومصر.
يحلل إيلان بابي تقنيات السجن المفتوح التي اتبعتها إسرائيل تجاه الفلسطينيين، بما في ذلك استراتيجيا قضم الأراضي عن طريق بناء المستوطنات بطريقة تحاصر سكان البلاد في الجيبين المتبقيين وتفكك مناطق سكنهم وتخترقها بطرقات تربط المستوطنات بعضها ببعض، وهي التقنية التي وقع اعتمادها منذ ما قبل 1914 كتوجه مركزي للاستيطان الصهيوني. في سنة 1967، كان الأمر يتعلق بمجرد 48 جديدة: لم يكن هناك ما يستدعي ميدانيا أن تشنّ إسرائيل عدوانها على الدول العربية، إذا ما استثنينا منطق التوسع الصهيوني نفسه. هذا ما لا يجعل تلك الحرب، مثل الحروب الأخرى التي ستشنّها إسرائيل على لبنان أيضا، حربا حقيقية، بل مجرد عدوان غير مبرر بالقانون الدولي والعسكري دعمته مرة أخرى أوروبا بلا مواربة.
في الوقت نفسه، كانت أوروبا ثمّ الولايات المتحدة انطلاقا من 1968، تقدّم لإسرائيل أكثر من السلاح والأموال: المبررات والتفهم والحماية الدولية. إن فكرة التعويض لليهود عن المآسي التي عاشوها بتشجيع دولتهم في فلسطين، مثل فكرة أنّ الهدف هو فرض السلام على جيرانهم، ليسا سوى حيل دعائية لإنجاح مشروع استعمار استيطاني نشأ في رحم الفكر الغربي وتبنّته السياسات الغربية بغض النظر عن أي أخلاق أو وقائع، ما يجعل الغرب شريكا ليس في إنشاء مشروع إسرائيل فحسب، بل في التغطية على عمليات الإبادة والتطهير العرقي. بالنسبة لمن لم يعيشوا تلك المرحلة، أو لم يقرؤوا عنها، فإن الحرب الحالية على غزة يمكن أن تقدم صورة قريبة جدا لواقع ما جرى مرات ومرات في فلسطين.
احتاجت إسرائيل إلى العمال العرب، يدا عاملة بخسة تمكن اقتصادها من تحقيق أعلى قيمة مضافة ممكنة، مثلما احتاجت إليهم أولى المستوطنات قبل أزيدِ من قرن: توفير الظروف لبناء اقتصاد قابل للدوام بمنطق الرأسمالية نفسه. لم يكن هناك أفضل من نزلاء السجنيْن الكبيرين في الضفة والقطاع ليمدّاها بهذه اليد العاملة المتاحة بكثرة. في المقابل، كانت “عملية السلام” التي توجت باتفاقيات أوسلو تحقق هدفا آخر: تفويض بعض أبناء الأرض من أجل إنجاز العمل المكلف وغير الضروري، أي إدارة السجنيْن الكبيرين، بأقلّ تكاليف ممكنة، وإعطاء الانطباع بأن إسرائيل راغبة بجدية في السلام. ينبغي التذكير بأنّ اتفاقيات أوسلو قد جاءت بعد انتفاضة فلسطينية عارمة، وأنها كانت حلاّ لإسرائيل وليس للفلسطينيين: الالتفاف على المطالب الفلسطينية بانتداب متعاونين يقومون بالجزء السيء من المهمة. لقد وقع نفس الشيء في كل مرة تواجه فيها إسرائيل أزمة وجودية بفعل المقاومة الفلسطينية، وهو ما يحصل اليوم أيضا عبر العودة للحديث عن “دولة فلسطينية” بعد أزيد من مائة يوم من المجازر في قطاع غزة.
يعتنق إيلان بابي فكرة عادلة، وهي أنّ المقاومة هي الجواب المنطقي الوحيد على سياسة الإبادة والتطهير التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، وأنّ الأمر لا يتعلق بالنسبة للفلسطينيين بمجرّد اختيار، بل بحرب من أجل البقاء. يواجه ذلك فكرة أخرى لا ينفكّ الأوروبيون والأمريكيون اليوم يدافعون عنها، وهي أنّ إسرائيل هي التي تواجه الخطر الوجودي الحقيقي والوحيد. يعطي ذلك مشهدا يجعل الغرب معنيّا باستمرار بمشروع إسرائيل ليس ليهوديته، ولكن بسبب أنه صهيوني يستمد جذوره من المنطق القومي والاستعماري الأوروبي، وبسبب أنه يخدم مصالح الهيمنة على المنطقة التي تعج بالثروات والتحديات. لذلك فإنّ مشاريع “السلام” و”حلّ الدولتين” التي تعود للتداول بعد كل أزمة يمرّ بها الكيان ليست إلا تراجعات تكتيكية مهمتها الأولى إعداد الظروف لاستعادة المبادرة، أي استئناف التطهير والإبادة.
يسخر إيلان بابي من مشاريع السلام ومن حل الدولتين. بالنسبة إليه لا يتعلق الأمر إلاّ بجزء من الدعاية الصهيونية المروجة غربيا. لا مستقبل لدولتين في فلسطين، فالمشروعَان اللذان يفترض أن تمثلهما الدولتان متناقضان بصفة نهائية: مشروع استيطان وتطهير وإبادة، في مقابل مشروع حفظ البقاء. هناك مشروع واحد قابل للتنفيذ، وهو دولة واحدة يعيش فيها العرب واليهود على قدم المساواة، لكن شرط هذا المشروع هو هزيمة الصهيونية، وهذه مهمة صعبة يقع معظمها على عاتق المقاومة الفلسطينية. حرب غزة الحالية مع كل انعكاساتها ليست في نظر بابي إلا تكرارا لما حصل في الحلقات السابقة من مشروع التطهير العرقي. كذلك فإنّ ما يسمون بـ”الصهاينة المتطرفين” ليسوا متطرفين بالقدر المراد تصويره حتى في الإعلام والسياسة الغربيين: نتنياهو وحكومته الحالية هما أبلغ تعبير عن العقيدة الصهيونية التي يصعب التمييز داخلها بين معتدلين ومتطرفين.
– من مواليد 1954 في حيفا لأبوين من يهود ألمانيا هاجرا لفلسطين هربا من القمع النازي. حاصل على دكتوراه في التاريخ من جامعة أوكسفورد في 1984 بأطروحته حول بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي. قام بتدريس العلوم السياسية بجامعة حيفا من 1984 إلى 2007 قبل أن يهاجر لبريطانيا تحت ضغط الهجمات والتهديدات عليه بسبب أبحاثه ومواقفه الأكاديمية، حيث يعمل الآن أستاذا باحثا بجامعة إكستر البريطانية. مناضل في الحزب الشيوعي الإسرائيلي وأحد مرشحيه للكنيست سابقا. ↑
Britain and the Arab-Israeli Conflict, 1948–1951 (Londres, St. Antony’s College Series, Macmillan Press; New York: StMartin’s Press, 1988).
– The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1947–1951 (Londres et New York, I.B. Tauris, 1992; 1994).
– The Israel-Palestine Question (Londres et New York: Routledge, 1999; 2006).
-The Aristocracy: The Husaynis; A Political Biography (Jérusalem; Mossad Byalik, (hébreu), 2003).
– The Rise and Fall of a Palestinian Dynasty: The Husaynis, 1700–1948, Londres, Saqi Books. 2010.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.