إنجاز الترسيم لحدود البلوكات اللبنانية الجنوبية استدعى سريعاً إزالة المجلس النيابي للغبار المتراكم على اقتراحات قوانين الصندوق السيادي المتعلق بإدارة عائدات النفط. ليس واضحاً الربط بين الأمرين، خاصة أن لبنان سبق أن حفر بئراً في الرقعة رقم 4 من دون تفعيل عملية إنشاء الصندوق، خاصة أن الاقتراحات الثلاثة المطروحة للنقاش ليست جديدة، بل يعود أحدها إلى العام 2017 وإثنان إلى العام 2019. لكن في مطلق الأحوال، فإن عرض الأمر على النقاش إنما تم إبرازه على أنه يرمي إلى طمأنة الناس من أن الثروة المفترضة لن تُحرق كما حرقت أموالهم، خاصة أن توتال ستقدم، نهاية الشهر، خطتها لمرحلة الاستكشاف، مع توقعات بأن تبدأ الحفر في النصف الثاني من العام المقبل.
بدأ مشوار البحث في آلية إنشاء الصندوق وهيكليته ودوره، بعدما ثبّت القانون رقم 132/2010 (قانون الموارد البترولية في المياه البحرية) مبدأ وجود الصندوق. فالمادة الثالثة من القانون تنصّ على إيداع العائدات الناتجة عن الأنشطة البترولية أو الحقوق البترولية في صندوق سيادي، على أن “يحدد نظام الصندوق ونظام إدارته الخاصة، ووجهة استثمار وتوظيف واستعمال العائدات بموجب قانون خاص بالاستناد إلى مبادئ وأسس واضحة وشفافة للتوظيف والاستعمال، تحتفظ من خلالها الدولة برأس المال وبجزء من عائداته بمثابة صندوق استثماري للأجيال المقبلة، وتصرف الجزء الآخر وفقا لمعايير تضمن حقوق الدولة”.
وعليه، فإن أي قانون سيخرج من المجلس النيابي يفترض أن يراعي الشفافية في التوظيف، كما يفترض أن يضمن استفادة الأجيال المقبلة من عائداته. وهذا يعني نظرياً استبعاد المحاصصة والسعي إلى السيطرة السياسية على الصندوق، فهل هذا ممكن؟
نظريا كل الاقتراحات المطروحة، أي المقدّمة من كل سيزار أبي خليل وتيمور جنبلاط وعلي حسن خليل (وقد شارك في التوقيع على اقتراح هذا الأخير النائبان السابقان من كتلته ياسين جابر وأنور الخليل أيضاً) تراعي مبادئ الشفافية، لكنها تختلف فيما بينها في السياسة. فكل طرف يسعى إلى جذب الصندوق إلى الجهة التي يفترض أنه يملك النفوذ فيها: فاقتراح أبي خليل يضع الصندوق تحت إشراف رئاسة الجمهورية واقتراح خليل يضعه تحت سلطة وزير المالية، فيما جنبلاط يدعو إلى جعله مؤسسة عامة ذات طابع خاص تحت وصاية وزارة المالية.
وهذا الخلاف أسوة بما درجت عليه العادة، سيشكل مبرراً كافياً لتعثّر النقاشات ويصعّب إمكانية الوصول إلى حلّ معزول عن المصالح السياسية، بحيث يفترض أن تشكل استقلالية الصندوق الضمانة الأبرز لمستقبل أفضل.
في لجنة المال أمس، أوحى النواب كافة أنّهم حريصون على تبديد كل المخاوف، حتى وصلوا إلى الدعوة إلى أن يكون الصندوق “جزيرة معزولة”، بمعنى أن يتمتع باستقلالية فعلية عن الإدارة المالية للدولة وسياستها وعجز موازناتها. كما دعوا إلى ضرورة “الإطلالة على العالم واللبنانيين بشيء مختلف عن المحاصصة ومنطق الـ6 و6 مكرر، إذ أن المطلوب الإتيان بالكفاءة واحترام المعايير الدولية والإشراف الدولي وفق مبادئ صندوق النقد”، كما أعلن رئيس اللجنة بعد الجلسة.
وفيما اكتفى النواب أمس بالنقاش بالخطوط العريضة لمبدأ إنشاء الصندوق، فقد تقرّر تشكيل لجنة فرعية برئاسة النائب ابراهيم كنعان وتضمّ ممثلين عن مختلف الكتل، على أن تجتمع الأربعاء المقبل، بحضور خبراء مختصين ووزراء المالية والطاقة والاقتصاد، لإعداد دراسة مقارنة مع عدد من الدول التي اعتمدت صيغة الصندوق السيادي”.
يذكر في هذا الصدد أن هيئة إدارة البترول كانت قد أعدّت مسودة اقتراح بالتعاون مع الدولة النرويجية، وسلم لوزارة الطاقة، التي لم تقدمه بشكل رسمي. علماً أن اقتراح أبي خليل يبدو الأقرب إلى تلك المسودة، مع تعديلات أساسية تجعل الصندوق تحت إشراف رئاسة الجمهورية.
أما مشكلة اقتراح حركة أمل، فهي إضافة إلى إلحاقه “مباشرة” بوزير المالية، تتمثل في إثقال الصندوق بمئات الموظفين، بحيث يتألف من مجلس إدارة يضم ثمانية أعضاء، على أن يتضمن ثماني وحدات إدارية، ويعاونه ستّ لجان متخصصة، مع تضمين الاقتراح تفاصيل دقيقة لكيفية استثمار الثروة المفترضة. أما اقتراح الحزب الاشتراكي فيُشكّل الحلقة الأضعف بين الاقتراحات المعروضة، مع تأكيده على مراعاة التوزيع الطائفي لإدارة الصندوق، بحيث يتألف من ستة أعضاء، يفترض أن يمثل كل منهم طائفة. علماً أن الحزب نفسه قدّم مؤخراً اقتراحاً قد يسمح بطمأنة اللبنانيين إلى أن الثروة المفترضة لن تُستعمل في تغطية الخسائر والديون التي تكبدتها السلطة الراهنة. إذ ينص الاقتراح على أن “يمنع منعاً باتاً التصرف بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سواء بالرهن أو الاقتراض عليه، بأموال تتأتى من عائدات الثروة النفطية أو الغازية أو أي من الثروات الطبيعية الموجودة في باطن الأرض اللبنانية كما في المنطقة الاقتصادية الخالصة، إلا من خلال صندوق سيادي ينشأ بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب، وتكون مهمة هذا الصندوق حفظ وإدارة العائدات المذكورة واستثمارها. في الأسباب الموجبة للقانون إشارة واضحة إلى أن الهدف هو “بعث الثقة والاطمئنان لدى اللبنانيين بشأن تلك العائدات”، خاصة أنه من غير المنتظر أن تتأتى هذه العائدات خلال وقت قصير ما يتيح المجال لإصدار قانون إنشاء صندوق سيادي…”.
وعليه، فإن أمام اللجنة إمكانية البحث في هذا القانون إذا تعثر النقاش في الاقتراحات الثلاثة المتعلقة بالصندوق في ظلّ الصراعات السياسية الحالية. لكن في المقابل، يشير عدد من النواب في حديثهم للمفكرة أنّ الإصرار على إصدار قانون لإنشاء الصندوق سيكون مفيداً، لناحية طمأنة الناس إلى أن أموال البترول لن تنهب، لكن المشكلة تتعلق بالتفاصيل المملّة التي تتضمنها القوانين الثلاثة. كما يستشفّ من الحديث عن إنشائه أنّ الحصول على العائدات بات قريبا فيما أن السيناريوات الأكثر تفاؤلا تتحدث عن فترة سنوات قبل تلقي أي منها. فيما المطلوب التأني في إعداد قانون رشيق، يضمن إنشاء الصندوق، مع إنشاء ملاك من 3 أو 4 موظفين يبدأون التحضيرات المطلوبة، بدل مئات الموظفين، الذين سيكلفون الدولة أموالاً طائلة لسنوات تسبق بدء مرحلة التنقيب، على أن يتضمّن القانون تحديداً: علاقة الصندوق بالوزارات، قواعد الإفصاح، الحوكمة، والاستثمار، من دون تحديد استراتيجية الاستثمار منذ اليوم. أما مرجعية الصندوق، فيفترض لتحديدها الاستعانة بالتجارب الدولية بعيداً عن المصالح السياسية، بمعنى إذا كانت الحوكمة تفترض أن يكون مجلس الوزراء مسؤولاً عن الصندوق فليكن، أو حتى إذا كان المصرف المركزي، بغض النظر عن الواقع الحالي للمصرف أو للحكومة. كما يشير بعض النواب إلى ضرورة الاستفادة من المساعدة التقنية التي تقدمها النروج إلى لبنان، لتأسيس الصندوق، خاصة أنّ النروج كانت من أول دولة أنشأت صندوقاً لإدارة واستثمار عائدات النفط، وهو اليوم يدير 1.3 تريليون دولار. ويدرك أعضاء اللجنة أن التجربة اللبنانية تسمح بالتشكيك الواسع بتشكيل لجنة مستقلة لإدارة الصندوق السيادي في ظلّ انتشار ثقافة المحاصصة في تعيين أعضاء اللجان والهيئات المستقلة. لذلك، فإن المطلوب تطمينات جدية للالتزام بقواعد ومعايير الحوكمة الرشيدة والشفافية عند إنشاء الصندوق، على الرغم من أن ذلك قد يبدو صعباً، في ظل الواقع الحالي، حيث ثقافة الفساد والسرّية هي السائدة، في ظل فقدان الثقة العامة بمؤسسات الدولة.
لكن قبل الدخول في تفاصيل القانون يوم الأربعاء القادم، سيكون على اللجنة الإجابة على أسئلة شائكة. أهم هذه الأسئلة هو مدى ملاءمة إنشاء صندوق للأجيال القادمة في ظلّ نقص موارد الدولة والذي يجعلها عاجزة عن ضمان استمرار الحد الأدنى من عمل المرافق العامة ويمنعها من تأمين الحدّ الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأجيال الحاضرة. فمبدأ الصندوق السيادي كما نشأ في النروج هو أن الجيل الحاضر يضع في صندوق الموارد التي تفوض عن حاجاته لضمان الأجيال القادمة، وهذا ما ليس متوفرا قط في حالتنا. علاوة على ذلك، ستكون اللجنة مطالبة بالإجابة على سؤال أكثر خطورة يتعلق بمدى إمكانية الحجز على عائدات النفط قبل تلقيها وعلى أموال الصندوق من قبل الدائنين في الخارج. وكلها اسئلة يخشى أن يتحول “الصندوق السيادي” في حال عدم تقديم إجابات مقنعة عنها إلى مجرد أداة لتخصيص موارده بطريقة أو بأخرى، وأيا كانت مسمياته، لتسديد الخسائر الماضية من دون استخدام أي منها في مشاريع إنقاذ الاقتصاد أو إعادة العمل الطبيعي لعجلات الدولة.