تعتبر المصلحة الشرط الأوّل لإقامة دعوى، فهي التي تثبت أنّ المدّعي معنيّ بما يطلبه من القاضي. وإذا لم تتوفّر المصلحة، تُرفض المراجعة من دون النظر في أساسها. فالقاضي غير مضطّر لتسوية مسألة أو نزاع لا يمسّ مباشرة بالمدّعي. وقد عبّرت عن ذلك ببساطة مقولة قانونية: “لا دعوى حيث لا مصلحة”. وبالتالي فإنّ المسألة أساسية لوجود دعوى من الأساس.
في السياق الإداري، تطرح المسألة إشكالات خاصة وبليغة تنبع من طبيعة الدعوى الإدارية التي تختلف بشكل جذري عن الدعوى المدنية أو التجارية. فأمام القاضي الإداري، لا تدور مواجهة بين وجهتي نظر فرديّتين. السجال يحصل على مستوى آخر تماماً، أكثر جوهرية وسياسية. فالمدّعي يعترض، على الأقل في حالة تجاوز حد السلطة، على قرارات إدارية مستنداً إلى القانون أو إلى الدستور أو حتى إلى معاهدات دولية وقعها لبنان. وبالتالي فإن الدعوى هنا لا تضع فردين في مواجهة بعضهما البعض بل سلطتين: تنفيذية وتشريعية. فالمواطن يطعن في الأولى لأنها لم تحترم الثانية.
فيكتور هوغو عبّر عن ذلك بشكل مثالي، وبحماسة ووضوح أكثر من فقهاء القانون أنفسهم: “لا أخشى أبداً أن أواجه وزيراً وجهاً لوجه والمحاكم (ضمناً: المحاكم الإدارية) هي الحكَم الطبيعي لهذه المبارزات الشريفة (…) مبارزات ليست غير متكافئة بالقدر الذي نعتقده، لأنّ هناك من جهة الحكومة بكاملها ومن جهة أخرى مواطن عادي. ولكن المواطن العادي قوي عندما يلجأ إلى قوسكم للطعن في إجراء غير قانوني ومن المخجل فضحه على الملأ ولدحض مشروعيته أمامكم، كما أفعل الآن، إستناداً لأربع مواد من الميثاق”.[1] أي أنّ المواطن “يطعن” في عمل إداري أمام القاضي ويطلب إبطاله استناداً إلى القانون (الميثاق).
وحين يكون مثل هذا الرهان معقوداً على المحاكمة، ما هي المصلحة التي يقتضي توفّرها لدى المدّعي لقبول دعواه؟ في دولة القانون الديمقراطية، تبدو هذه المصلحة بديهية: أليس لدى كل مواطن مصلحة بضمان فصل السلطات؟ وضمان تفوّق السلطة التشريعية، كتعبير عن سيادة الأمة، على السلطة التنفيذية؟ وكما قال موريس هوريو، البروفيسور الفرنسي في القانون العام في بداية القرن العشرين: الدعوى الإدارية تصبّ “في مصلحة الجميع” وليس فقط المصلحة الشخصية للمدّعي[2]. وفي بداية القرن الجاري، أجرى رينيه شابو التحليل ذاته حيث خلص إلى أن الدعوى الإدارية لديها “فائدة عامة” و”هدفها حماية الشرعية”[3].
بالتالي، تقليدياً، ينظر القضاة إلى المصلحة بشكل تحرري ويفتحون أبواب قاعاتهم على مصراعيها للمدّعين. وعلى هؤلاء بالتأكيد أن يثبتوا أنّ لديهم مصلحة شخصية في الدعوى في ظل شروط فضفاضة: فالمصلحة البسيطة “المزمومة”intérêt «froissé» تكفي (على حد تعبير هوريو أيضاً). فصفة المكلّف المحلّي وحدها كافية لتتيح له الطعن في مقررات البلدية المتعلقة بالمالية، ولتتيح للموظف، بدوره، الطعن في أي تعيين في الخدمة يؤثر عليه. فأن تكون مكلّفاً أو دافع ضرائب وأن تكون موظفاً: هذه صفات وحدها كافية لتثبت أنّ لديك مصلحة في الطعن أمام المحكمة بما تفعله الإدارة. ولا يهم ما إذا كانت هذه المصلحة معنوية أو مادية أو مالية؛ ويمكنها أن تكون فردية أو جماعية.
مما لا شكّ فيه أنّه لا يجب فتح التقاضي الإداري أمام الجميع من دون فرض وجود مصلحة شخصية ما لدى المستدعي. فثمة عقيدة مسيطرة تستند إلى أسباب عملية ومالية، تعتبر أنّ جعل مراجعة الإبطال مراجعة شعبية سوف يثقل كاهل المحاكم ويطيل أمد المحاكمات كثيراً. كما أنّ ذلك سيعيق الإدارة والمرافق العامة بشكل مستمر. وهذا النوع من الإعتبارات هو مصدر لرفض الكثير من المراجعات. في لبنان مثلاً، تمّ ردّ مراجعة مقدّمة من شربل نحاس بصفته مواطناً ومكلّفاً، يطلب فيها “الإشراف والرقابة على التصرّف بالأموال العامة” والإعتراض على تقاعس الحكومة عن إقرار موازنة عامة للبلاد[4]، باعتبار المراجعة واسعة جداً ومبهمة ولانتفاء المصلحة المباشرة والشخصية.
لا يمكن فهم هذا التوجّه القضائي إلّا في حال احتوائه. في الواقع، لا يجب مصادرة الدعوى الإدارية: فهي عنصر ضروري لضمان احترام القانون. ويبدو لنا أن النظام الحالي لمجلس شورى الدولة اللبناني، في مواده المتعلقة بالمصلحة في الإبطال لتجاوز حد السلطة، يخطئ عبر مبالغته في الحذر، حيث تنص المادة 106 على ألّا يقبل طلب الإبطال إلّا ممن يثبت أن له “مصلحة شخصية مباشرة مشروعة”. وبالتالي فإنّ الإجتهاد يبقى مطلق اليدين في تضييق مفهوم المصلحة، وإغلاق باب اللجوء للقاضي وفق الحالات والأبعاد المرتبطة بها.
من وجهة النظر هذه، يتمتّع مشروع “المفكرة القانونية” الإصلاحي بميزة هائلة بإعلان مصلحة التقاضي حقاً مكتسباً، من حيث المبدأ، لبعض الفئات من المتقاضين، من دون أن يكون للقاضي أيّ هامش للتدخّل. وبالتالي فإنّ “أيّ مكلّف” لديه مصلحة في الإعتراض على “أي تدبير يمسّ بسكّان منطقته أو له آثار على ماليّتها” وكذلك الأمر بالنسبة لـ”كل مسؤول محلّي منتخب أو عضو في هيئة تقريرية ضد مداولات الهيئة التي ينتمي إليها” و”كل برلماني ضد أي إجراء يمسّ بامتيازاته” و”كل موظف عام ضد أي إجراء يمس بالمصالح العامة للخدمة العامة التي ينتمي إليها” و”كل مستفيد من المنشأ العام ضد أي إجراء يتعلّق بتنظيم المنشأ أو أدائه” وأيضاً “كل ناخب أو مرشح ضد أي إجراء يمسّ بتنظيم الإقتراع ومجرياته”.
وتبعاً لذلك، يقدّم المقترح ضمانات قانونية شديدة الوضوح. وقد يثني ذلك لبنان عن سلوك الطريق التي تسلكها فرنسا حالياً، حيث يشهد التحرّر التاريخي للإجراء الإداري المفتوح على مصراعيه للمواطنين، تراجعاً نسبياً. فقد اختار المشرّع بالنسبة لبعض النزاعات، خصوصاً في مجال التخطيط المدني، تعريفاً ضيقاً للمصلحة بهدف تجنّب الإختناق القضائي وضمان الأمان القضائي للحائزين على تراخيص بناء. وبالتالي تتقلّص احتمالات المحاكمات ومعها ضمانات احترام القانون.
قد يحث مقترح “المفكرة” مجلس شورى الدولة اللبناني على إعادة النظر في اجتهاده الذي يفاجئ من حيث مدى تضييقه لمفهوم المصلحة، مستبعداً أية إمكانية للإعتراض على أعمال الإدارة. وهذا مثلاً ما نلحظه بشأن تدابير مصرف لبنان. فهل لدى المواطن الحق في الإعتراض على إجراءات حاكم المصرف المركزي؟ هذا أمر يرفضه القضاة اللبنانيون: فهذه الإجراءات المتخذة بموجب امتيازاته كسلطة عامة، لا يمكن الإعتراض عليها[5]. اجتهاد صادم بما أنّه يستثني مصرف لبنان من المساءلة القضائية، وإن لقي أحياناً دعم بعض فقهاء القانون[6].
ومن أجل مواجهة هذا النوع من المنطق الذي يميل كثيراً إلى حماية الإدارة وتقليص سيادة القانون، فإنّ مقترح “المفكرة القانونية” محطّ ترحيب خاص.
*ترجمة: لمياء الساحلي
- نشر هذا المقال في العدد | 65 | حزيران 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟
[1] مرافعة في العام 1832، خلال محاكمة تتعلّق بكتابه “الملك يلهو”.
[2] Note sous l’arrêt Chabot, rendu par le conseil d’État français en 1903
[3] Droit du contentieux administratif, Montchrestien, 2002, p. 204
[4] مجلس الشورى اللبناني، 12 كانون الثاني 2016، شربل نحاس مراجعة رقم 238/2016.
[5] مجلس شورى الدولة اللبناني، 24 شباط 2004، شركة اللبنانية السويسرية للضمان، الإجتهاد الإداري، 2004، المجلّد الأول، ص 445.
, au Recueil de jurisprudence administrative, 2004, tome 1, p. 445
[6] Sur ce point, cf. Nsouli, Recherche sur les critères d’une banque centrale moderne, LGDJ, 2003