"غياب سياسة وطنية للصحة النفسية في لبنان يؤدي إلى تكريس الإنقسام بين الطبقات الإجتماعية". تتطرق الطبيبة المتخصصة في الأمراض العقلية والنفسية هلا كرباج في مقال منشور لها في المفكرة القانونية[1] لهذه المسألة كواحدة من الإشكاليات المركزية التي تستدعي إقرار قانون معني بالصحة النفسية في لبنان. والواقع أن صياغة النسخة الاولى لمشروع القانون الخاص بعلاج الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الصحة النفسية تمت منذ عام 2009، إلا أنه لم يقر حتى اللحظة. عام 2014، راجعت المفكرة القانونية المشروع، وإقترحت بعض التعديلات عليه، بما يتوافق مع التوصيات الدولية. وقد تم إعتماد نسخة جديدة من المشروع من قبل البرنامج الوطني للصحة النفسية التابع لوزارة الصحة العامة اللبنانية، دُمجت فيه مقترحات المفكرة القانونية، وتتم مناقشته حالياً في البرلمان داخل اللجان المشتركة.
في الإطار عينه، تستمر المفكرة القانونية بالعمل على إخراج النقاش حول هذا القانون إلى الحيز العام. وفي هذا الصدد، يؤكد مديرها التنفيذي نزار صاغية خلال جلسة نقاش نظمتها في 4/11/2017 تحت عنوان "الصحة النفسية في لبنان" على أهمية "أن لا يكون العمل على هذا القانون مجرّد عمل تشريعيّ خارج النقاش العام". يضيف صاغية أنه "لا بد أن تلعب وزارة الصحة دوراً بالدعوة الى جلسات دورية للبحث بالمستجدات المهمة في القانون وتغطيتها صحفياً، والإستفادة من تجربة قانون الحماية من العنف الأسري، الذي لاقى تفاعلاً من قبل القضاء بمجرد صدوره كونه بقي لسنوات محلاً للنقاش العام". وفيما كان من المفترض أن يتمحور النقاش حول أربعة محاور أساسية هي "المسائل التقنية واللوجستية المتعلقة بآلية الإستشفاء الإجباري، المهلة قبل تدخل الإشراف القضائي، كيفية نقل المريض الى المؤسسات الإستشفائية، تبعيات صدور القانون على الأشخاص المحجوزين حالياً في المؤسسات الإستشفائية"، إلا ان مداخلات الحاضرين عبرّت عن مجموعة من الإهتمامات الإضافية التي وجّهت حيزا من النقاش إلى عناوين مختلفة.
حول القانون
تشرح كرباج، أبرز الإشكاليات التي لا بد للقانون أن يأخذها بعين الإعتبار، وعلى رأسها الإلتزام بالمعايير الدولية لا سيما المتعلقة بتشخيص الحالات المرضية. فمن المهم جداً "ألا تستخدم وسيلة الطب النفسي للسيطرة على السلوك الإجتماعي وفقاً لنسق معين، بل على أساس معايير دولية لتوصيف الأمراض العقلية والنفسية وتصنيفها، لا سيما الأمراض التي تؤدي إلى علاج إجباري". أما في التفاصيل المتعلقة بالعلاج، فتشير كرباج إلى ضرورة "تحديد آلية للإشراف على الإستشفاء الإجباري، الأمر الذي يصب في مصلحة كل من المريض والطبيب على حد سواء". هذا بالإضافة إلى "تعزيز فكرة العلاج ضمن بيئة أقل تقييداً، أي خارج المؤسسة الإستشفائية، من خلال خلق مراكز للعلاج من قبل وزارة الصحة". بإتجاه مشابه، لا بد من العمل على "إستبعاد حلّ فصل الأشخاص الذين يؤدّي مرضهم العقلي إلى إعاقة دائمة عن عائلاتهم". بالتالي تغيير النمط العلاجي المعتمد حالياً، حيث يعزل المرضى النفسيين عن المجتمع داخل مؤسسات رعاية، الأمر الذي يؤدي إلى فقدانهم التدريجي للشعور بالهوية وخضوعهم بشكل كامل للمؤسسة وبالتالي تدني الدافعية والإستقلالية لديهم.[2] تكمل كرباج، معددةً الإشكاليات المتوقع أن تلتفت اليها اللجان المشتركة بعناية خلال عملها على القانون، فتتطرق إلى حقوق المريض النفسي، "وهي المشابهة لحقوق أي مريض آخر، لاسيما لناحية تمكنه من الإطلاع على ملفه الطبي". كما أنه لا بدّ من إحتواء القانون على "شق جزائي يحدد عقوبات الأشخاص المعنيين بالتعامل مع المرضى من خلاله، وآلية لتقديم الشكاوى، وتمكن المريض من المثول أمام القاضي والتشكي لديه". وقد انتهت كرباج إلى التأكيد على أن "هذا القانون لا يشمل المدمنين على المخدرات، إلا في الحالة التي يكون فيها المدمن يعاني من مرض عقلي أو نفسي عصبي".
من جهته، يوضح مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية الدكتور ربيع شماعي، بعض التطورات التي طرأت على القانون خلال المناقشات: "إنطلاقاً من نقاشات حصلت مع المفكرة القانونية، تقدمنا بمجموعة من التعديلات أولها توسيع مفهوم الأسرة، بالتالي الأفراد الذين تنطبق عليهم أحكام القانون، ومفهوم الممثل القانوني". وفقاً لشماعي، المقصود بتوسيع هذا المفهوم هو إعتبار الشريك/ة بفعل المساكنة أيضاً من أفراد الأسرة، كذا الخطيب/ة، والطفل الطبيعي (أي الطفل من خارج الزواج). من جهة ثانية، يشير شماعي الى أن القانون يلحظ العاملات الأجنبيات كفئة تواجه صعوبات في الوصول إلى العلاج في ظل خضوعهن لنظام الكفالة.
إشكاليات محورية
آليات المحاسبة، نقل المرضى إلى مراكز العلاج، مدى صحة ذكر العاملات في الخدمة المنزلية، واللاجئين السوريين ضمن هذا القانون، وتكلفة العلاج شكلت مركزاً لمداخلات المشاركين في جلسة النقاش.
تتحدث زينة ع.، والتي عانت من أحد الامراض النفسية سابقاً، عن "النقص الكبير في المحاسبة للأطباء النفسيين، وللعاملين في المجال من غير الأطباء". وتجد زينة أن "هناك حالة من تضارب المصالح تعيق المحاسبة عندما تتشكل لجان المراقبة من أطباء أيضاً، فزملاء المهنة سيغضون النظر عن أخطاء بعضهم البعض". لهذه الناحية، تؤكد كرباج على عمق هذه المشكلة. لذلك تجد أنه من الضروري "التشجيع على أن تتضمن اللجنة أشخاصا ممثلين عن ذوي المرضى أو عن جمعية تضم أشخاصا من غير الأطباء تعنى بهذا الموضوع". ومن الإقتراحات في هذا المجال أيضاً أن "يتم العمل على إنشاء جمعية لذوي المرضى أو للمرضى أنفسهم تشارك العمل على هذا الموضوع".
من جهته يحذر صاغية من خطورة منح الكفيل مكانة "الأسرة" بالنسبة للعامل/ة وما يستتبعه ذلك من تضخيم لسلطته تجاهها. كما أنه لا بد من الحرص على عدم ذكر عبارة "كفيل أو كفالة" ضمن القانون لكي لا تكون سابقة تكرس هذا النظام الذي لا يزال مجرد نظام تفرضه المديرية العامة للأمن العام بموجب تعليمات داخلية من دون أي سند تشريعي. لهذه الناحية، توضح المستشارة في البرنامج الوطني للصحة النفسية المحامية نائلة جعجع أن القانون "يلحظ بعض البنود التي تطبق على واقع العاملات الأجنبيات من دون ذكر "الكفالة" صراحة. ومن نتائجها منع صاحب العمل من وضع حدّ لعلاج العاملة ما دام الطبيب يرى أنها بحاجة اليه، عدم القدرة على ترحيلها قبل الإنتهاء من العلاج، كذلك الأمر يعاقب القانون أي شخص يستخدم نصوصه كوسيلة لممارسة الاحتجاز تعسفي، كما يشير إلى موضوع المترجم والجمعيات والكلفة".
لناحية اللاجئين، فقد برز تخوّف من قبل عدد من الحاضرين من تحويل القانون الى أداة لإحتجازهم تعسفياً في حال تسميتهم ضمن القانون. في هذا الإطار، تطمئن جعجع إلى تضمين القانون عقوبة جراء إستخدامه كأداة إحتجاز تعسفية. بالمقابل تشير إلى وجود توجه للإبتعاد عن تمييز اللاجئين إيجابياً بموجب القانون تخوفاً من عرقلة إقراره. والحال أنه "تم الإكتفاء بذكر الأجانب".
اما عن آليات النقل وتكلفة العلاج، فقد إتفق الحضور على الأثر السلبي للإبقاء على الدرك كجهة مختصة بنقل المريض النفسي، لما يسببه له الأمر من صدمة نفسية قد تؤدي لتفاقم حالته. لكن، يظهر أنه لم يتم حتى اللحظة التوصل الى صيغة نهائية على هذا الصعيد. ولا يزال عالقاً في النقاشات الدائرة داخل اللجان المشتركة. هذا ما تؤكده جعجع موضحةً أنه "يجري العمل داخل اللجان حالياً لإيجاد صيغة للفريق المتخصص تسمح بعدم اللجوء الى الدرك أو الى شركات خاصة عند نقل المريض الى المستشفى أو مركز العلاج". اما لجهة التكلفة، وهي المسألة التي تجعل طبقات إجتماعية قادرة دون غيرها من الوصول الى العلاج وما يستتبعه من إندماج وتكيف إجتماعي لأفرادها، مقابل حرمان أفراد طبقات أخرى من هذا التكيف، يقول شماعي أن وزارة الصحة تغطي حالياً تكاليف علاج مجموعة من الحالات في العديد من المستشفيات، وأن التعاقد مع مستشفيات إضافية ما يزال جارياً. مع الإشارة الى أن هذا الشق لا يبدو أنه واضح من منظار القانون حتى اللحظة. إلى ذلك تقول جعجع أن العمل جارٍ "لتحديد المهلة اللاحقة لإصدار القانون والتي يصبح بعدها نافذاً، بهدف إفساح المجال أمام المؤسسات لتحضير نفسها لتطبيقه".
[1] – هلا كرباج، كيف نعالج مرض النفسي في لبنان؟ إشكاليات وتناقضات، 30/ 9/ 2013. [2] – هلا كرباج، المقال السابق نفسه.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.