استدعى النائب العامّ الاستئنافي في بيروت القاضي زاهر حمادة رئيس تحرير منصّة “درج” حازم الأمين والصحافية جنى بركات للتحقيق معهما أمام مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية، في الشكوى التي رفعها رئيس مجلس إدارة بنك سوسيتيه جنرال لبنان (SGBL) أنطوان الصحناوي ضدّهما بجرائم القدح والذم.
جاء الاستدعاء على خلفية تحقيق نشرته “درج” في كانون الأول 2023 أعدته الصحافية جنى بركات، كشفت فيه عن تحرير مصرف لبنان وديعة للصحناوي بقيمة 169 مليون دولار في أيلول 2019 قبل أسابيع قليلة من ظهور الأزمة المصرفية في حين كان موعد استحقاقها في عام 2047. وأعلن الأمين وبركات رفضهما المثول أمام مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية، وذلك “لعدم اختصاص المكتب في القضايا الصحافية” وفقًا لما نشرته منصّة “درج” على وسائل التواصل الاجتماعي.
تطرح هذه القضية مسألتين خطيرتين: أوّلًا، استمرار النيابات العامّة بالاستعانة بالأجهزة الأمنيّة خلافًا لقانون المطبوعات كأداة لتقييد العمل الصحافي، بناء على شكاوى يقدّمها سياسيون ورجال أعمال نافذون على خلفية تحقيقات صحافية أو شبهات فساد تطالهم.
والمسألة الثانية ترتبط باستمرار استهداف الصحافيين الذين كشفوا عن شبهات الفساد وعمليات تهريب الأموال بعد عام 2019، حيث يستمرّ مصرفيون في مقاضاة منتقديهم من صحافيين وناشطين وتستمرّ النيابات العامّة في استدعاء هؤلاء للتحقيق معهم، من دون أن نشهد ملاحقات مماثلة لمصرفيين تناولتهم تحقيقات صحافية من الّذين تورطوا في جرائم مالية أدّت إلى الانهيار المالي.
استدعاء “درج”: استمرار لنهج المصارف في قمع الصحافيين
في قضية “درج”، توجّه اليوم الإثنين وكيل المؤسسة المحامي عمر فخر الدين إلى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية لتقديم طلب إحالة القضية إلى المرجع المختص، أي إلى قاضي التحقيق أو محكمة المطبوعات كونهما الجهتين الوحيدتين المخوّلتين التحقيق مع الصحافيين. وعلم فخر الدين أنّ الدعوى تقدّم بها الصحناوي في 21 آذار 2024، أمام النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي زاهر حمادة الذي أحالها في 26 آذار 2024 إلى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية، ولم يتمّ استدعاء الأمين وبركات إلّا بعد نحو عام من الادعاء.
ويوضح المحامي فخر الدين لـ “المفكرة القانونية” أنّه تقدّم صباح اليوم “بطلب إحالة الشكوى إلى محكمة المطبوعات، فتواصل مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية مع النائب العام الذي طلب أخذ إفادتي وبيان هويّة المدعى عليهما الأمين وبركات، ثمّ قرر ختم التحقيق”. ويُضيف “نتوقع أن يُصدر حمادة قراره خلال أسبوع”.
ويذكر أنّ الصحافية حياة مرشاد من منصّة “شريكة ولكن” كانت أيضًا تمسّكت بحماية قانون المطبوعات للصحافة الإلكترونية ورفضت تلبية استدعاء القاضي حمادة للتحقيق معها لدى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية.
وكان الأمين قد تلقّى يوم الثلاثاء الماضي في 11 شباط 2025 اتصالًا من مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية يستدعيه للمثول إلى التحقيق، فرفض الأمين مباشرةً الاستدعاء وأوضح بأنّه لا يمثل سوى أمام محكمة المطبوعات. ويوضح الأمين لـ “المفكرة” أنّ “فضح الفساد المصرفي مستمرّ، وبخاصّة أنّّنا اليوم أمام مرحلة جديدة سيتمّ فيها إعادة فتح قضية المصارف وإعادة الهيكلة، وهذا هو الوقت المناسب للاستمرار في فضح الفساد المصرفي”.
ويتوقّع الأمين استمرار استهداف المصرفيين للصحافيين ولمنصة “درج” التي تواصل فضح الفساد وتسليط الضوء على مسؤوليات المصارف في الأزمة الاقتصادية. ويؤكدّ الأمين أنّها “ليست المرّة الأولى التي تتعرّض فيها درج للاستدعاء على خلفية التحقيقات الصحافية التي تنشرها، إذ سبق أن تبلّغت إنذارات عدّة، من بينها إنذار من رجل الأعمال نبيل عون، وذلك بعدما نشرت “درج” وثيقة تكشف “مراسلة قضائية بين دولتين أوروبيتين معنيتين بالتحقيقات في ملف المصارف اللبنانية، تحوي الوثيقة تفاصيل عن علاقة نبيل عون بمساعدة حاكم مصرف لبنان ماريان الحويك، ووالدها وشقتها الباريسية”.
الصحافية جنى بركات التي أعدّت التحقيق حول صحناوي تؤكد في اتصال مع “المفكرة” أنّ هذا الاستدعاء لن يُثنيها عن عملها الصحافي الذي تمارسه والذي تقوم عبره بفضح قضايا فساد، وتؤكّد أنّ “درج” التزمت بكافة المعايير المهنية خلال العمل على التحقيق المذكور، إذ توضح أنّنا “اطلعنا على وثائق وتأكدنا من صحّتها وراسلنا الصحناوي أيضًا بخصوص حق الرد لكنّه لم يُجب على رسائلنا”. وتتابع: “كان بإمكانه إرسال رد ونفي ما يُريد من المعلومات التي وردت في التحقيق إلّا أنّه استعاض عن ذلك بالادعاء علينا”. وتؤكد بركات على أنّ هذه “الدعوى تزيدنا من الإصرار على المضي في العمل الذي نقوم به، ونحن لسنا قلقين ومستمرين بعملنا بكشف الفساد”. وتشدد على موقفها من “عدم مثول الصحافيين أمام الأجهزة الأمنيّة وأنّ الجهة الوحيدة المختصة هي محكمة المطبوعات”.
مواقف مندّدة: المثول فقط أمام محكمة المطبوعات
وأصدر تجمّع نقابة الصحافة البدلية بيانًا أكدّ فيه تضامنه مع “درج”، ودعمه لقرار “رفضه المثول أمام جهاز أمني وإصراره على المثول فقط أمام أمام محكمة المطبوعات”. وأكدّ التجمّع على “استنكاره تكريس مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية كجهاز ضدّ حرّية الصحافة بدل القيام بعمله الأساسي”. واستغرب “أن يتمّ استدعاء صحافيين للتحقيق معهم على خلفية تقرير صحافي يتناول شبهات فساد بدلًا من التحقيق في الشبهات التي يطرحها التقرير الصحافي”. ودعا “إلى اعتبار مضمون تقرير درج بمثابة إخبار إلى القضاء”.
وذكّر التجمّع بأساليب المصارف في ملاحقة الصحافيين الّذين يصوبون النقاش تجاه المصارف إن كان عبر
“تحقيقات أو اتهامات بالفساد”، وذكّر بحادثة “الاعتداء على الزميل محمد زبيب بإيعاز من صاحب بنك الموارد مروان خير الدين انتقامًا منه على مواقفه من المصارف وانتقاده للسياسات المصرفية”، وكذلك الادعاء على الصحافي الاقتصادي منير يونس وشن حملة ضدّه على خلفية كشفه فضيحة عمولات شركة “أوبتيموم” الناتجة عن عمليات بينها وبين مصرف لبنان”. وعليه دعا “التجمّع الحكومة الجديدة إلى وضع حرّية الصحافيين وحرّية عملهم في صلب اهتماماتها، ووزارة الإعلام للقيام بدورها الأساسي في الدفاع عن حرّية الإعلام لا سيّما في مسألة أساسية كمسألة الاستدعاءات التي تتعارض بشكل صارخ مع مبدأ حرّية العمل الصحافي”.
وذكرت منسقة التجمّع الصحافية إلسي مفرّج في منشور على “إكس”، بأنّ وزير الإعلام الجديد بول مرقص أكدّ أنه سيتابع قضية “درج” وتعهّد بأنّه “سيقف دائمًا بوجه مثول الصحافيين أمام الضابطة العدلية وأنّه سيدافع عنهم وعن حقوقهم كالعادة”.
كما دان “تحالف حرّية التعبير في لبنان” استدعاء “درج” والأمين وبركات وأثنى على موقف “درج” برفض المثول أمام الأجهزة الأمنية، وأكدّ أنّ “الموقع الإخباري يقع تحت حماية قانون المطبوعات وفقًا للاجتهاد المستقرّ لمحكمة التمييز، ممّا يمنع إخضاع صحافييه للتحقيق من قبل النيابات العامة والأجهزة الأمنية”. كما شدّد التحالف على “ضرورة توفير أوسع حماية للعمل الصحافي الذي يُسهم في كشف شبهات الفساد، لا سيّما تلك المتعلّقة بالممارسات غير القانونية التي اتّبعتها المصارف ومصرف لبنان والتي ساهمت في الانهيار المالي”. وطالب التحالف النيابة العامّة “بالرجوع عن هذا الاستدعاء غير القانوني الذي يتجاوز صلاحياتها، والالتزام بالموجب القانوني بإحالة جميع الشكاوى المماثلة إلى قضاة التحقيق أو محاكم المطبوعات”.
المصارف: تاريخ حافل في قمع معارضيها
يعود اليوم الحديث عن إعادة هيكلة المصارف مع تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة نوّاف سلام، بعد إعلان وزير المالية العامّة ياسين جابر أنّ “أولوية الوزارة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وذلك يتم بالتعاون مع مصرف لبنان بعد تعيين حاكم جديد، وإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي”. الأمر الذي يستدعي بحسب حازم الأمين “الاستمرار بفضح فساد المصارف”. وعلى مدى أكثر من أربع سنوات، لم يتحمّل أي مصرف مسؤولية في سرقة أموال المودعين. وحال لوبي المصارف دون محاسبتها، مستخدمًا نفوذه للضغط على الحكومة ومجلس النواب لمنع تحميلها أي مسؤولية عن الانهيار المالي.
في المقابل، جُرجر عشرات الصحافيين والناشطين أمام الأجهزة الأمنية، لمجرّد أنّهم وضعوا المصارف أمام مسؤوليتها عبر نشر وثائق ومعلومات أو آراء. أمّا محكمة المطبوعات، الجهة المخوّلة بمحاكمة الصحافيين، فلم يُلجأ إليها إلّا في حالات نادرة. حتّى أنّ بعض المصرفيين استخدم “البلطجة” كأداة لمعاقبة الصحافيين كما حصل مع الصحافي الاقتصادي محمد زبيب الذي اعتدى عليه مرافقو رئيس مجلس بنك الموارد مروان خير الدين في شباط 2020 ولا تزال قضيته قيد النظر أمام القاضي المنفرد الجزائي في بيروت، كما ادّعى قبلها خير الدين على الناشط ربيع الأمين على خلفية انتقاده له عام 2020. خير الدين نفسه كان قد أنذر الصحافية هلا ناصر الدين في 6 آذار 2023 على خلفية تحقيق نشرته في “درج” ضمن سلسلة “وثائق باندورا” الذي يعتمد على وثائق مسرّبة تكشف عن صفقات وتحويلات وأصول سريّة لخير الدين في شركات “أوف شور”.
كذلك، قامت النيابة العامة التمييزية بالتحقيق مع الصحافي الاقتصادي منير يونس لدى المباحث الجنائية في بيروت في تشرين الثاني 2024 بسبب آرائه حول القضايا المالية والمصرفية. بالتوازي، تعرّض لحملة تشويه سمعة شنّها موقع إلكتروني، هو نفسه الموقع الذي تقدّم بالادعاء ضدّه، رغم أنّ يونس لم يأتِ على ذكره في انتقاداته، التي كانت موجّهة إلى مصرفيين ونافذين، الأمر الذي عزّز فرضية وجود جهة أرادت معاقبته، لكنها فضّلت البقاء في الظل. كما طالت الاستدعاءات الإعلامية ديما صادق، ففي عام 2020، إذ ادّعى حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة ضدّ صادق وتم استدعاؤها للتحقيق أمام المباحث الجنائية على خلفية تقرير أعدّته في “درج” حول ثروة رياض سلامة، علمًا أنّ سلامة موقوف حاليًا بجرائم الإثراء غير المشروع والاختلاس وسرقة أموال مصرف لبنان منذ أيلول 2024.
“ميغافون” أيضًا تمسّكت بحماية قانون المطبوعات
في شهر كانون الثاني وحده، تلقت “ميغافون” استدعاءين إلى الأجهزة الأمنية على خلفيات تحقيقات ومقالات نشرتها. إحداها شكوى تقدّم بها النائب فؤاد مخزومي ضدّ “ميغافون” والصحافي جان قصير أمام مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية في 20 كانون الثاني 2025، وذلك على خلفية تقرير حول تسمية القاضي نوّاف سلام رئيسًا للحكومة وردت فيه معلومات عن مخزومي. ولم يمثل قصير أمام مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية من منطلق رفض مثول الصحافيين أمام جهاز أمني، وتقدّم عبر وكيلة “ميغافون” المحامية ديالا شحادة بمذكرة تطلب إحالة الدعوى أمام محكمة المطبوعات، بحسب ما أوضح لـ “المفكرة”. ثمّ عاد مخزومي وتقدّم بطلب أمام محكمة الأمور المستعجلة في بيروت لحذف تقرير “ميغافون” التي ردّت بمذكرة مرفقة بالأدلة تدعم منشوراتها التي تناولت مخزومي، وفقًا لقصير.
كذلك، تلقّت “ميغافون” في 13 كانون الثاني استدعاء من النيابة العامّة التمييزية للمثول أمام المباحث الجنائية بدعوى من هشام عيتاني، صاحب شركة “سيرتا” على خلفية نشر خبر يتناول تفجير أجهزة النداء “البيجرز” التي انفجرت بشكل متزامن في 17 أيلول 2024 في أيادي آلاف الأشخاص في لبنان، من ضمنهم مدنيون وعناصر من حزب الله، في عملية نفذتها إسرائيل وأدت إلى مقتل العشرات، من ضمنهم طفلين، وجرح الآلاف. ورفضت “ميغافون” تلبية الاستدعاء لـ “جهة مخالفته أصول التبليغ المنصوص عنها في المادة 147 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، أو لجهة مخالفته للمادّتين 28 و29 من قانون المطبوعات اللتين وسّع اجتهاد القضاء تفسيرهما ليشمل الصحافة الإلكترونية، واللتين تحصران ملاحقة الصحافيين في معرض عملهم بقضاء التحقيق ومحكمة المطبوعات”.
وكان هشام عيتاني قد ادّعى على الصحافيّين فراس حاطوم ونانسي السبع في إطار القضية نفسها على خلفية تقرير مصوّر أعدّه حاطوم ونشره على منصة “تفاصيل” بعنوان “غزوة البيجرز”، وتضمّن معلومات تتّصل بشبهات حول علاقة شركة “سيرتا” باستيراد “البيجرز”. وخضع الصحافيّان حاطوم والسبع للتحقيق أمام المحامية العامة في النيابة العامة التمييزية القاضية ميرنا كلّاس لتحقيق امتّد لثلاثة ساعات وجرى تركهما لقاء سند إقامة. يُلاحق الصحافيّون في هذه القضيّة من قبل عيتاني في الدعاوى التي يرفعها أمام النيابة العامّة التمييزية، من دون أن تعلن أيّ من النيابات العامة لغاية الآن ما إذا كانت فتحت تحقيقًا حول جريمة “البيجرز” ومدى علاقة شركة “سيرتا” التي تناولها التقرير الصحافي، بها.
وما ورد أعلاه، ليس سوى عيّنة من الدعاوى التي استهدفت الصحافيين في السنوات الأخيرة التي شهدت تصاعدًا في استدعاء الصحافيين والناشطين للتحقيق أمام الأجهزة الأمنية. وبينما يستمرّ الصحافيون في أداء مهامهم، يستمرّ الضغط عليهم في محاولة لإسكاتهم وردعهم عن تسليط الضوء على الفساد الذي يرتكبه أصحاب النفوذ.