أصدر مجلس شورى الدولة بتاريخ 30 أيار 2024 قرار إعداديّا قضى بوقف تنفيذ المرسوم رقم 12836 المتعلق برد القانون المتعلق بتنظيم الموازنة المدرسية والمرسوم رقم 12837 المتعلق برد قانون تعويضات أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة. وقد جاء هذا التطور بعد قرار سابق أصدره مجلس شورى الدولة في 4 نيسان 2024 قضى أيضا بوقف تنفيذ المرسوم رقم 12835 المتعلق برد قانون الإيجارات غير السكنية.
وقد شرحتْ المفكّرة القانونيّة الإشكاليات الكبيرة التي أوجدت هذه المعضلة القانونية نتيجة موقف رئيس مجلس الوزراء الاعتباطي بعدم التوقيع على مراسيم إصدار تلك القوانين التي وافق عليها مجلس الوزراء في أول الأمر قبل أن يتراجع عنها بطلب من رئيس الحكومة تمهيدا لردّها إلى مجلس النواب.
لكن قرار مجلس شورى الدولة الأخير احتوى على تعليل جديد وأكثر وضوحا بهدف تبرير قراره وقف تنفيذ مراسيم الردّ. فقد عالج مسألة قيام مجلس الوزراء الذي يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة برد القوانين إلى مجلس النواب انطلاقا من قرار للمجلس الدستوري صدر سنة 2001 جاء فيه التالي: “إن الصلاحية المنفردة المحفوظة لرئيس الجمهورية في المادة 57 من الدستور إنما يمارسها لأنه حامي الدستور ومصلحة البلاد العليا” ما يفهم منه أن رئيس الجمهورية يمارس تلك الصلاحية منفردا أي أنها لا تنتقل إلى مجلس الوزراء عند شغور سدّة الرئاسة. لذلك أعلن مجلس شورى الدولة توفر شروط تطبيق المادة 77 من نظام مجلس شورى الدولة لوقف تنفيذ مرسوم الرد كون المراجعة تستند إلى أسباب جدية وهامة.
وقبل المضيّ في مناقشة ما توصل إليه شورى الدولة وتداعياته، يلحظ أن القرار صدر عن الغرفة الأولى المكونة من رئيس المجلس فادي الياس والقاضييْن كارل عيراني ومليكة منصور.
هل من صلاحيات منفردة لرئيس الجمهورية في رد القوانين؟
يتبين أن مجلس شورى الدولة يعتبر على ما يظهر أنّ صلاحية رد القوانين هي صلاحية منفردة يمارسها رئيس الجمهورية لوحده ولا يمكن بالتالي أن يمارسها مجلس الوزراء عملا بالمادة 62 من الدستور التي تنيط به ممارسة صلاحية رئيس الجمهورية بالوكالة عند حصول فراغ في رئاسة الجمهورية.
وبالفعل، تنصّ المادة 57 من الدستور على التالي: “لرئيس الجمهورية، بعد اطّلاع مجلس الوزراء، حقّ طلب اعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره ولا يجوز أن يرفض طلبه”. لكن هذه الصلاحية التقليدية في النظام البرلماني يمارسها رئيس الدولة عبر مرسوم يحمل توقيع هذا الأخير إضافة إلى توقيع رئيس مجلس الوزراء علما أن هذا المرسوم كان يحمل أيضا في السابق توقيع الوزير المختصّ وقد توقفت تلك الممارسة بعد 1999 لأسباب غير معلومة.
جرّاء ما تقدّم، يصبح جليا أن ردّ القوانين ليس صلاحية منفردة كون مرسوم الرد لا يمكن أن يصدر من دون أن يكون موقعا من قبل رئيس الحكومة ليس فقط عملا بالممارسة التي عرفها لبنان منذ الاستقلال لكن أيضا عبر الدستور نفسه بعد تعديله سنة 1990 إذ باتت الفقرة الخامسة من المادة 64 منه تنص على أن رئيس مجلس الوزراء “يوقع مرسوم الدعوة إلى فتح دورة استثنائية ومراسيم إصدار القوانين وطلب إعادة النظر فيها”.
إذ أنّ صلاحية طلب إعادة النظر بالقانون ليست من الناحية الدستورية صلاحية منفردة إطلاقا نتيجة ضرورة توقيع مرسوم الرد من قبل رئيس الحكومة خلافا لمرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء أو مرسوم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة التي تعتبر صلاحيات منفردة لأن رئيس الجمهورية يوقع وحده على تلك المراسيم عملا بصراحة الفقرة الثالثة والفقرة الخامسة من المادة 53 من الدستور اللتين تنصان على أن هذه المراسيم يصدرها منفردا رئيس الجمهورية.
فإصدار القوانين أو ردها ومنح الأوسمة والعفو الخاص ودعوة مجلس النواب إلى عقود استثنائية كلها صلاحيات منحها الدستور لرئيس الجمهورية لكنها ليست منفردة كونها تمارس بموجب مراسيم تحمل توقيع رئيس مجلس الوزراء والوزير المختص عند الضرورة. فعند خلو رئاسة الجمهورية في نهاية 2007 أصدر مجلس الوزراء المرسوم رقم 3 بتاريخ 24/12/2007 القاضي بدعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي، كما أصدر مجلس الوزراء عشرات القوانين خلال ممارسته لصلاحيات رئيس الجمهورية بين 2014 و2016 ومنذ 2022 وحتى اليوم.
إذ أنّ مفهوم الصلاحيات المنفردة أو “اللصيقة” وفقا للتعبير الشائع اليوم ينحصر فقط في تلك الاختصاصات التي يباشرها رئيس الجمهورية من دون الحاجة إلى الحصول على موافقة جهة دستورية أخرى كمراسيم تسمية رئيس الحكومة أو اعتبار الحكومة مستقيلة أو الطعن بالقوانين أمام المجلس الدستوري، أو توجيه الرسائل إلى مجلس النواب، أو رئاسة مجلس الوزراء والحفلات الرسمية. وما عدا ذلك، جميع مقررات رئيس الجمهورية يجب أن تقترن بالتوقيع الإضافي لرئيس الحكومة والوزير المختصر عملا بمبادئ النظام البرلماني، لا بل أن هذا التوقيع الإضافي هو من الخصائص الرئيسية التي تميز النظم البرلمانية في جميع دول العالم.
وقد اعتبر العلامة “ليون دوغي” أن بإمكان مجلس الوزراء المناطة به صلاحيات رئيس الجمهورية ممارسة جميع تلك الصلاحيات من دون حدود باستثناء صلاحية توجيه الرسائل إلى مجلس النواب التي تعتبر صلاحية شخصية للرئيس. ويضيف “دوغي” أن مجلس الوزراء لا يحق له تأجيل انعقاد البرلمان أو حل مجلس النواب لأن من شأن ذلك عرقلة انتخاب الرئيس الجديد ما يشكل مخالفة واضحة للدستور[1]. إذ أنّ منع ممارسة تلك الصلاحيّات لا يتعلق بكونها صلاحيات منفردة (وهي ليست منفردة أصلا كونها تمارس بمرسوم) بل لأن نتيجتها تمنع إتمام البرلمان لواجبه بانتخاب رئيس جديد للدولة في أسرع وقت ممكن.
إن صلاحية ردّ القوانين هي النتيجة المنطقية في النظام البرلمانيّ لصلاحية إصدارها. إذ أنّ رئيس الجمهورية يصدر القوانين ويحقّ له خلال المهلة الدستورية طلب إعادة النظر بالقانون ولا يحق لمجلس النواب أن يرفض هذا الطلب، وعلى رئيس الحكومة الالتزام بتوقيع مرسوم الرد حتى لو لم يكن موافقا على أسباب هذا الرد. وبالتالي لا يعقل أن تنتقل صلاحية إصدار القوانين إلى مجلس الوزراء من دون أن تنتقل صلاحية ردها أيضا كون ذلك يؤدي إلى الإخلال بمبدأ التوازن بين السلطات إذ سيتمكن مجلس النواب من إقرار قوانين وفرضها على السلطة التنفيذية مباشرة من دون إمكانية الطلب إعادة النظر بها. فمن يحق له إصدار القانون يحق له رده، فإما يمارس مجلس الوزراء صلاحيات الإصدار والرد معا أو يمنع عن ذلك أيضا بالنسبة لصلاحيتي الإصدار والردّ، أما أن يسمح له بإصدار القانون فقط من دون ردّه فهذا ما لا يستقيم في المنطق الدستوري السليم.
قرار المجلس الدستوري
استشهد مجلس شورى الدولة بقرار المجلس الدستوري الصادر سنة 2001 كي يوحي أن صلاحيّة الردّ هي صلاحية منفردة وكي يوحي في استنتاج مبطّن أن الصلاحيّات المنفردة لا يجوز أن تنتقل إلى مجلس الوزراء. وفي حال وضعنا جانبا هذه المسألة، إذ لا شيء يمنع أن يمارس مجلس الوزراء حتى هذه الصلاحيات المنفردة أو بعضها على الأقل عندما يكون ذلك ممكنا (كالطعن بقانون أمام المجلس الدستوري)، لا بد من التساؤل حول الفهم الذي كوّنه مجلس شورى الدولة لقرار المجلس الدستوري المذكور ومدى صوابية الاستناد عليه.
فالاشكالية التي تطرح نفسها تتعلق بحجية قرار المجلس الدستوري وهل هو ملزم لمجلس شورى الدولة. فلئن كان من الأكيد أن قرارات المجلس الدستوري هي ملزمة لجميع السلطات عندما يتعلق الأمر بإبطال نص قانوني، لكن هل تفسيره للدستور هو ملزم أيضا لسائر السلطات القضائية؟
فقد اعتبر مجلس شورى الدولة أنه “يمكن أن يحمل القاضي الإداري على تقدير ومراقبة دستورية مرسوم أو أي عمل إداري – لم يتخذ وفاقا للقانون لتطبيق أحكامه ولا تؤدي تلك المراقبة بالتالي ولا تفرض من قبله تقدير صحة القانون ذاته – عندما يكون هذا العمل الإداري مخالفا للدستور بطريقة مباشرة فيتحقق القاضي الإداري حينئذ من مطابقته لأحكام الدستور ويجب عليه أن يبحث هذه المسألة مثل ما يفعله المجلس الدستوري، أي بتطبيق القانون الدستوري” (قرار رقم 291 تاريخ 18/1/1996).
فالمجلس الدستوري ليس محكمة عليا يخضع لها مجلس شورى الدولة الذي يحتفظ باستقلاليّته الكاملة لتفسير الدستور عندما يتعلق الأمر بالأعمال الإدارية. إذ أنّ قرار المجلس الدستوري الصادر سنة 2001 يتعلق بالنظر بمدى دستورية قانون محدّد، بينما مجلس شورى الدولة ينظر اليوم في دستورية مراسيم الردّ أي في موضوع يدخل في صميم اختصاصه. لا بل أن المجلس الدستوري لم يعالج في قراره لا من قريب أو بعيد مسألة جواز ممارسة مجلس الوزراء لصلاحيات رئيس الجمهورية بشكل عام ولا صلاحية رد القوانين بشكل خاص، ما يعني أن القضاء الإداري يحتفظ بحريته لتفسير النص الدستوري مباشرة من دون التقيد بما ذهب إليه المجلس الدستوري الذي كما ذكرنا لم يعالج هذه المسألة أصلا ولم يشرح حتى ما هو فهمه للصلاحيات المنفردة.
وقد اعتبر مجلس شورى الدولة الفرنسي أن تفسير المجلس الدستوري لنصّ ما في معرض رقابته على دستورية القوانين لا يتمتع بقوة القضية المقضية المطلقة (autorité absolue de la chose jugée) لكن بقوة نسبية (autorité relative) أي أن التفسير الذي يعطيه المجلس الدستوري لنص قانوني معين لا يكون ملزما في حال كان هذا النص يختلف عن نص قانوني آخر خاضع لرقابة القضاء الإداري حتى لو كان النص الدستوري نفسه هو الذي سيتم تطبيقه في الحالتين[2]. فحتى لو أجاب المجلس الدستوري على سؤال مشابه يطرحه مجلس شورى الدولة يظل هذا الأخير متمتعا بحريته طالما أن النص المشكو منه يختلف عن النص الذي تناوله المجلس الدستوري. فالقاضي الإداري قد يتبنّى تفسير المجلس الدستوري لكن ذلك يعني فقط أنه وافق على ذلك التفسير عملا باجتهاده الخاص وليس لأنه ملزم به[3].
فالقرار الإعدادي الأخير لمجلس شورى الدولة يعطي مؤشرات يفهم منها أنه ملزم بتفسير المجلس الدستوري ما يشكل خرقا لاستقلاليته وحدا من حريته في تفسير الدستور لا سيما وأن النص المطعون فيه هو مرسوم لم يعالجه المجلس الدستوري إلا من جانب واحد ومحصور جدا ألا وهو مدى جواز اعتباره بمثابة مبادرة تشريعية جديدة تنطبق عليها المادة 38 من الدستور التي تمنع طرح القانون مرة ثانية في حال رفضه مجلس النواب في العقد نفسه. وقد خلص المجلس الدستوري إلى القول “بأن مناقشة مجلس النواب مناقشة ثانية للقانون الذي طلب رئيس الجمهورية إعادة النظر فيه والإصرار عليه برفض طلب إعادة النظر هذه لا يمكن وصفها بالمبادرة التشريعية التي لم تنل موافقة مجلس النواب بمفهوم المادة 38 من الدستور”.
فلا المجلس الدستوري شرح مفهوم الصلاحيات المنفردة، ولا هو عالج ممارسة مجلس الوزراء لهذه الصلاحية تحديدا أو سائر صلاحيات رئيس الجمهورية، ما يعني أن واجب مجلس شورى الدولة يقضي بتقديم تفسيره الخاص لهذه المسألة الدستورية لا أن يكرر ما ورد بشكل مبهم في قرار للمجلس الدستوري تناول مرسوم الرد من زاوية مختلفة تماما.
في الخلاصة، أن تعليق نفاذ مراسيم الرد يثير إشكاليات دستورية غير مسبوقة لناحية تداعيات ذلك على نفاذ هذه القوانين والاستقرار التشريعي في البلاد، وهي تداعيات أشارت إليها المفكرة القانونية بإسهاب في المقالات المذكورة أعلاه، علما أن كل هذه الفوضى الدستورية ما كانت لتحصل لولا موقف رئيس الحكومة الاعتباطي بالتمنع عن نشر القوانين التي وافق مجلس الوزراء على إصدارها. فمسؤولية الفوضى الدستورية التي يعاني منها لبنان ونتائجها الخطيرة لناحية تهديد العلاقات القانونية بين المواطنين تقع على عاتق السلطة السياسية قبل أي جهة أخرى.
للاطلاع على قرار شورى – وقف تنفيذ اعادة القوانين
[1] « Le conseil des ministres, étant momentanément investi du pouvoir exécutif, peut exercer toutes les attributions qui, en temps normal, appartiennent au président de la République, et cela sans aucune restriction. Évidemment, il ne pourrait pas adresser de message aux chambres; cela est une prérogative personnelle du président plutôt qu’une fonction. Sauf cette réserve, tous les pouvoirs du président de la République appartiennent alors au conseil des ministres. J’estime cependant que le conseil des ministres, investi momentanément du pouvoir exécutif ne pourrait ni clôturer ni ajourner les chambres, ni, a fortiori, dissoudre la chambre des députés. La loi constitutionnelle exige que les chambres se réunissent immédiatement pour procéder à l’élection du nouveau président. Le conseil des ministres ne peut donc faire aucun acte qui retarde cette réunion » (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel, Tome 4, p. 566).
[2] René Chapus, Droit administratif général, Tome 1, 2001, p. 39.
[3] “Si une question d’interprétation déjà résolue par le Conseil Constitutionnel se pose à propos d’un autre texte, fût-il analogue, le juge ordinaire retrouve son entière liberté d’interprétation : il n’y a pas d’autorité de chose interprétée au-delà de la chose jugée ; le juge administratif dénie ainsi à la jurisprudence constitutionnelle toute autorité contraignante, tout en lui reconnaissant une autorité intellectuelle » (Benoît Plessix, Droit administratif général, 2018, p. 147).