كانت الساعة قد دنت من الثامنة والنصف صباح السبت الماضي، 13 كانون الثاني 2024، عندما وصلت التحذيرات من قرية حكر الضاهري على ضفة النهر الشمالي الكبير الفاصل بين الحدود اللبنانية السورية، لتصل إلى بلدة السماقية جارتها: “طلع النهر، دبروا حالكم”. في هذه الأثناء وصل تراكتور بلدية السماقية ومعه آلية “بيك آب” ليباشر إخلاء اللاجئين السوريين من 11 مخيما تحتضنها البلدة.
يقول محمود مشوّح، “أبو آية” للمفكرة القانونية، وهو من سكان المخيم 006، أن الرئيس السابق لبلدية السماقية المهندس بلال شمعة طلب منه، وفور وصول خبر بدء الفيضان، الإتيان بتراكتور البلدية و”البيك آب” لنقل سكان المخيمات إلى قاعة مخصصة للبلدية في منزل الأخير، كونه لا يوجد مركز أو قصر بلدي في البلدة. وعليه، سارع من يملك أيّ تراكتور أو “بيك آب” من أهالي السماقية إلى قصد المخيمات والمساعدة في إجلاء سكانها نحو مسجد البلدة ومدرستها الرسمية، وفق ما أكده شاويش المخيم 003 والمخيم 006 للمفكرة: “البلدية وكل أهل الضيعة ما قصّروا معنا، ولمن تعبّت قاعات البلدية والجامع والمدرسة، فتحت لنا الناس بيوتها، وما نام أي حدا من المخيمات في العراء”.
لكن تبعات فيضان النهر الشمالي الكبير ونهر الأسطوان الذي حوّل نحو 60% من سهل عكار، كما عاينت المفكرة في جولة ميدانية على المنطقة، ووفق تقديرات الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير، لا تُحلّ بتأمين مكان لمبيت الناس لليلة أو ليلتين وحتى ثلاثة. هنا في البلدات التي اجتاحها الفيضان مع سكانها من اللبنانيين وأهلها ومعهم اللاجئين السوريين فيها، والذين يعيش معظمهم في مخيمات في الأراضي الزراعية، لم تقتصر الأضرار على أثاث المنازل والخيم بل طالت المؤن الغذائية والألبسة والآليات السيّارة والجرارات الزراعية، وحتى خشب “البراكيات”، وهي التسمية السورية للخيم، ومعها الشوادر التي تظلّلهم صيفا، وترد عنهم أمطار الشتاء.
ومع اللاجئين السوريين، نُكب أهالي بلدات السماقية، حكر الضاهري، تلبيبة، الكنيّسة، العريضة، الشيخ زناد وجزء من تلمعيان والمسعودية بعدما تحوّل سهل عكار، وخصوصا الجزء المتاخم للحدود السورية اللبنانية، ما بين نهري الشمالي الكببير والأسطوان، إلى “بحر هائج” كما يصف الأهالي اجتياح نهري الشمالي الكبير والأسطوان سهل عكار. وأغرق الفيضان مئات الهكتارات الزراعية مع مواسمها الشتوية من قرنبيط وملفوف و بروكولي وبطاطا وجزر وفجل وفريز وبصل وكل الورقيات، واجتاح معظم المنازل وخصوصا الطوابق الأرضية، وتسبّب بنفوق أعداد كبيرة من الدواجن والمواشي وخصوصا من رؤوس الماعز والغنم، وفق ما عاينته المفكرة في تحقيق خاص عن الموضوع، من دون أن يمد لهن أحد يد المساعدة والتعويض حتى كتابة هذه السطور.
وفي حين قال بعض سكان البلدات أن مساعدات عاجلة وصلت إلى اللاجئين، فيما لم يلتفت أحد إلى السكان اللبنانيين المنكوبين، تضحك هاجر الشوا، ابنة ريف حلب، بمرارة وتفتح كيسا أسود صغيراً لترينا ما يسمّى ب “المساعدات”. في الكيس أربع حبّات من الكرواسان وأربعة ألواح من الشوكولا وأربع قارورات مياه من الحجم الصغير: “هودي”، تقول وهي تحمل كرواسان بحجم 4 سنتيمترا: “ما بيشبّعوا ولد عمره خمس سنين”. وتستدرك، لكي لا تبدو “ناكرة للجميل”، كما تقول “كتّر خيرهم، بس ما حدا يسميها مساعدات، نحن اختربت بيوتنا متل جيراننا بالضيعة، وما حدا ساعدهم، ولا ساعدنا بشي محرز”.
خراب المخيمات
بالقرب من خيمتها التي تحوّل أثاثها، من فرش وأغطية ووسائد وبعض الأواني المنزلية، إلى كومة من الوحل والطمي والنفايات التي حملها معه فيضان النهر، تستغلّ هاجر انتهاء المنخفض الجويّ وأمطاره لتفلش بعض مؤونتها على صوان لتجفيفها من المياه. “بس البرغل نافش من المي والرز بني من الوحل، كيف بدك ترجعي تطعميهن لاولادك؟”، نسألها، فتجيب “يعني بتركهن جوعانين أحلى؟”.
هنا تقترب صفية، جارة هاجر، لتدلي بدلوها: “لازم نقول أنه كمان قدّمولنا أغطية (حرامات) بالقاعة وربطات خبز مع غالونات ميّ، أول يوم من الفيضان، بس الحاجة أكبر بكتير من هيدي الأشياء البسيطة يلي لا تسمن ولا تغني عن جوع”. ومن خيمتها تحمل صفية كومة ألبسة، هي كلّ ما تملكه هي وزوجها وأولادها الخمسة. كانت الملابس تقطّر مياها موحّلة، تغطّيها أعشاب ونفايات حملها الفيضان إلى الخيم “هودي تيابنا، خبريني شو ممكن نلبس منها؟ وين منغسلها وكل المي معوكرة (موحلة)، حتى أكل من المونة ما بقي عنا شي، مصيبة ووقعت علينا”.
نساء المخيم 003 حاولن حلّ مشاكل منازلهن ب “المتوفر”. حملن أغطية وشراشف خيمهن ومعها ألبسة العائلة وقصدن برك المياه التي كانت ما زالت تتجمّع حول مخيمهن، ومعها بعض الخنادق المخصصة لتصريف مياه الحقول في الشتاء. وهناك في المياه العكرة رحْن يغسلْن أشياءهن “بيضل أحسن من الوحل، بدنا نلبس، بدنا نتغطى ونغطي اولادنا، ما منقدر نضل ناطرين فرج ما رح يجي”، تقول عائشة وهي تدعك بقدميها غطاء صوفيا ملونا على حافة الطريق الإسفلتية.
ومن حول النساء والمخيمات وفي أروقتها، يجهد شبان ومراهقو ورجال كل مخيم في تنظيف محيط الخيّم والممرات. يجمعون الوحول والمياه في أوعية يحملونها خارج المخيم ويرمونها في الأراضي الزراعية، فيما تنشغل النساء والفتيات في تنظيف الخيم من الداخل. وفي إحدى هذه الخيم جلست فاتنة، المرأة العشرينية، تبكي. تقول فاتنة أن عظمها يؤلمها من الصقيع، وأن أطفالها الثلاثة مرضى بالزكام، ويعانون من ارتفاع الحرارة، فيما هي تجهد لتنظيف خيمتها، وتحاول أن ترعاهم “وأنا بدي مين يهتم فيي، تعبانة ومريضة”. وفاتنة تبكي، يجتمع أطفالها قربها حفاة الأقدام يرتجفون من البرد، وهو ما أحرجها على ما يبدو: “حملناهم حفيانين ما لحقت أخذ لهم شي يشدوه بإجريهم ورجعنا لقينا السيل حامل الأحذية ورايح”. وعلى مقربة من المخيّم تعمل بعض النسوة على تنظيف الأحذية التي يعثرن عليها بين الوحول ويضعنّها جانبا، ليأتي أصحابها يتعرفون إليها، ولكن فاتنة لم تعثر على أي من أحذية أبنائها.
011 ما زال غارقا بالمياه بعد 3 أيام من الفيضان
على الطريق التي تصل السماقية ببلدة حكر الضاهري، وتطل على المخيم 011 يقف علي بكر خلف، من سكان المخيم، وهو بالكاد مسنودا إلى قدميه. نسأل علي عن وضعه فيرفع قدمه ليرينا ضمادة تلف جرحا يقول أنه أصيب به خلال محاولته النجاة من الفيضان. كان علي قد أوصل ثلاثة من أبنائه إلى تراكتور البلدية ليلحقوا بأخوتهم عند إخلاء المخيم، ثم عاد إلى خيمته حيث نسي أوراقه الثبوتية، ليتفاجأ بطوف مائي جارف يغطي المخيم برمته “طلعت من الخيمة ولقيت القيامة قايمة، كان علو المي مو أقل من متر ونص”. لا يحترف علي السباحة “بس بخبط تخبيط لفوش”، يقول للمفكرة، وعليه كان يجدف بيديه ليخرج من الأرض المنخفضة للمخيم نحو الطريق العام، ثم يقف على قدميه عندما يبتلع ماء الفيضان: “لولا شباب الضيعة كنت غرقت”. في المخيم نفسه أغرقت المياه سيارة وجرارا زراعيا، لم يكن لدى أصحابهما الوقت لإخراجهما من المخيم “الناس ما عادت وعيت ع شي، وصار المهم ننجا بأرواح اولادنا وأرواحنا”.
يقول علي بكر خلف أن المشكلة الأكبر ستظهر في هياكل “البرّاكيات” (أي الخيم) “خشب البرّاكيات ضل منقوع بالمي أكتر من 24 ساعة إلى حين تراجع نهريّ الأسطوان والشمالي الكبير نحو المجاري، فيما بقيت أرضيات الخيم غارقة بالمياه والوحول “بكرا الخشب بيهتري وبيسوّس وبتوقع البراكيات علينا”. وما “يزيد الطين بلة” أن المياه كانت ما زالت تغطي المخيم 011، الذي عاينته المفكرة، بعد 3 أيام على حدوث الفيضان وتراجع مياه النهر عن السهل “بعدها خيمنا عم تسبح ببحيرة مي”، يقول علي الذي ما زال يسكن، كما كل عائلات المخيم، في بيوت قدمها لهم أهالي السماقية “ما منعرف أمتى بتروح المي من المخيم، ما حدا جاب مضخات وسحب المي”، يضيف، وهو يقف بعيدا عن المخيم نحو 20 مترا، لتعذر الوصول إليه.
لكل هذا يرفع الرئيس السابق لبلدية السماقية بلال شمعة الصوت عالياً “اللبنانيين منكوبين وبلا أي مساعدات ومعهم اللاجئين، ونحن كبلدية فعلنا ما بوسعنا وليس لدينا إمكانيات لتحمل مزيد من تبعات هذه الكارثة”. وبرغم حديثه عما وصل إلى السوريين من قاطني السماقية من مساعدات ضئيلة، يرى أن الحاجة أكبر بكثير، “لازم مفوضية اللاجئين والمنظمات الشريكة معها تهتم بالموضوع، هيدي مسؤوليتها مش مسؤولية بلدية حتى مبنى بلدي ما عندها”.
ومع مفوضية اللاجئين، يناشد شمعة الهيئة العليا للإغاثة والجيش اللبناني والحكومة وكل الوزارات المعنية “إعلان منطقة الفيضان في السهل منكوبة”. ويطالبهم بخطة إنقاذ السكان وتعويضهم أرزاقهم، إذا “يكفيهم الخسائر في البيوت والمؤن والأثاث ومعها مزروعاتهم ومواشيهم وضمان الأراضي بآلاف الدولارات”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.