أسمع دوي زجاج يتكسّر على بعد بضعة أمتار من مكان تواجدي في ما أصبح معروفاً بباحة “خيم اللعازارية” المقابلة لجامع الأمين في وسط بيروت، عقبه دخان أسود تصاعد هارباً من داخل أحد المصارف الكبرى الواقعة في شارع الأمير بشير. “أحرقوها! أحرقوها! فلتحترق جميع المصارف!” تصرخ إحدى المتظاهرات الواقفة في وسط الشارع. أمّا في الساحة المتاخمة لهذا الشارع، كانت الجلسة قد إفتُتحت، وإكتمل النصاب، وكانت “الثقة” – مهما بدت وهمية – سوف تعطى للحكومة.
أعود نحو سيارتي المركونة في شارع مونو سيراً على الأقدام. الطقس شاحب والمطر بدأ ينهمر رذاذاً على المدينة. سوف يسجّل التاريخ نهار الثلاثاء البارد الواقع في 11 شباط 2020، كيوم سقوط الثقة في الشارع واستصناع وهمها داخل قاعة مجلس النواب. فقد تخلّلت هذا النهار محطات عدّة للشعب الثائر، توزّعت على مختلف المداخل المؤدية إلى وسط المدينة حيث يقع مجلس النواب، المُنعقد يومها بغية إعطاء حكومة حسّان دياب الثقة. والهدف: منع النواب من الوصول إلى المجلس ومنعهم من منح تلك الثقة. كنت قد توجّهت صباح ذلك النهار إلى محطة زقاق البلاط بداية حيث كان الغاز المسيّل للدموع قد إجتاح الفضاء العام لدى وصولي. رأيت المتظاهرين يركضون هاربين منه، فيما صرخ أحدهم: “شكلهم بدن يقطّعوا واحد منهم” (والمقصد أنه يتم رمي هذا الغاز على المتظاهرين بغية إبعادهم لإفساح المجال أمام أحد النواب للمرور نحو البرلمان). كان عديد عناصر قوى الأمن الداخلي (“مكافحة الشغب”) وعناصر الجيش الوطني ملفتاً، وهي تقوم بدفع المتظاهرين ومحاصرتهم، ممعنة غالباً بمعاملتهم بشدّة، وصولاً إلى استخدام العنف معهم بشكل مفرط (ما أدى إلى إدخال عدد من المتظاهرين إلى المستشفيات). في المقابل، ذُهل الحضور بتراجع تلك الأجهزة المقدامة نفسها – بفرعيها – وعودتها إلى الصفوف الخلفية عند وصول مجموعة شباب محسوبين على الفريق السياسي لرئيس مجلس النواب نبيه برّي. هذا الانكفاء كان مقدمة سمحت لهؤلاء بمهاجمة المتظاهرين من الناحية الجنوبية لحديقة عبد الرحمن الحوت، عبر الشوارع الخلفية لمسجد زقاق البلاط. فبادرت مجموعة مناصري برّي إلى رمي الحجارة على المتظاهرين المحاصرين على المقلب الآخر من الحديقة، فيما وقفت الأجهزة الأمنية لدقائق عدة كشاهد زور على هذا الإعتداء. “ياعيب الشوم عليكم” صرخت إحدى المتظاهرات المتقدمات في السن بوجه أحد عناصر الجيش، لحقها عتاب جماعي إزاء القوى المسلحة عموماً. “شاطرين علينا بسّ؟ وينكم ما بتردعوهم؟ عم بهاجمونا بالحجارة!”… سقطت ثقات عديدة يومها.
مضيت في شارع فخر الدين المنحدر نحو البحر شمالاً، على مستوى برج المرّ. ووقفت على محطة القنطاري على تقاطع شارع كليمنصو مشاهداً بحر المتظاهرين المتواجدين في أسفل الشارع وهم يقطعون الطريق الفاصلة بين فندقي مونرو والهوليداي إنّ. وإذ بقنابل الغاز المسيّل للدموع تنهار عليهم من السماء، وبدا وكأنه يتم رميها من أعلى إحدى ناطحات سحاب الحيّ. تلاها هجمة “على الأرض” من قبل فرقة من مكافحة الشغب، واجهها المتظاهرون بمطر من الحجارة.
أستذكر هذه المحطات خلال عودتي نحو السيارة في ختام ثلاثاء “اللاثقة الشعبية” هذا، وبيروت تبدو كساحة حرب ذاك العصر. يصلني على الهاتف، خبر تصريح الرئيس نبيه برّي يقول فيه إن “المطلوب من هذا الحراك، أن يبرر لنا وللقضاء الإعتداءات التي حصلت على القوى الأمنية والجيش وسيارات النواب”. المطلوب هو تبرير إذاً، وكأن إعتداء أعوان السلطة على المتظاهرين وانتهاج أجهزة السلطة الأمنية للعنف الممأسس والممنهج إزاءهم، ليس كافياً بحد ذاته لإيفاء “التبرير”.
في مقالة سابقة نُشرت في أوائل أيام ثورة 17 تشرين[1]، تبعاً لمحاولات النظام البائسة آنذاك تأديب الشارع وشيطنته في آن معاً، بحثت كيف يشكل قطع المتظاهرين للطرقات وإمعانهم في شتم الطبقة السياسية وتكسيرهم لواجهات بعض المحلات في وسط بيروت ورسمهم للغرافيتي على جدران المدينة إلخ.، كلها تعبيراً عن حق الشعب بالمقاومة والعصيان في مواجهة إستبداد النظام، وكيف تبلور هذا الحق مع إندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789 من عقيدة “قتل الطاغية”، كحق طبيعي لصيق بالإنسان ذي دور إصلاحي للقانون الوضعي (لا سيما لدى مساهمة هذا الأخير في تفشي الإستبداد)، وذي مفاعيل جوهرية لقلب قاعدة المعادلات ودرء إنعدام التوازن البنيوي بين النظام المستبد والشعب المستباح.
في هذه المقالة، وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على بدء ثورة 17 تشرين وتبعاً للإستشراس الذي أظهرته أركان النظام خلال الأشهر الماضية وإفراطها في إستخدام العنف لقمع المتظاهرين، أود التعمق أكثر في بحث ممارسة الشعب لحق المقاومة المذكور ودراسة أحد تجلياته الأساسية المتمثلة بتبلور العدالة الشعبية كبديل ضروري للعدالة المؤسساتية في ظل ما أظهرته مؤسسات الدولة (لا سيما النيابات العامة) من جمود – لا بل من تقاعس – إزاء درء عنف النظام وإستبداده، متحولة أحياناً إلى أحد أركانه الأساسية في معركته الوجودية ضد الشعب.
في تجلّي العدالة الشعبية
تقف فتون[2] أمام عدسات كاميرات الصحافة على عتبة مدخل أحد المصارف الكبرى في محلّة ساسين في الأشرفية، شارحة ما دفعها ورفيقاتها إلى الإحتجاج داخل المصرف لساعات عدة ذلك اليوم – وتالياً شلّ العمل فيه. فيومها )9 كانون الثاني 2020(، حاولت فتون سحب 600 دولار أميركي من حسابها الخاص في المصرف لتسديد بدل الإيجار الشهري لمسكنها، غير أنها إصطدمت برفض المصرف تسليمها أموالها وإعلامها أنه تم إغلاق حسابها (كل ذلك من دون معرفتها أو موافقتها). فتون بحاجة ماسّة للأموال، وهي على أتمّ اليقين (كما ومديرة فرع المصرف – بإعترافها) أن ما يقوم به البنك هو عمل غير قانوني. يمكنها أن تقاضي المصرف، لكنها بحاجة ماسة لسحب أموالها نقداً، والذهاب إلى القضاء مُكلف للغاية. أما في حال استطاعت تكبّد التكلفة، فالذهاب إلى القضاء والخضوع للإجراءات القضائية وثقلها وإنتظار صدور قرار القاضي (على فرض أنّ الجهة المدّعية لن تستأنف ومن ثم لن تميّز)، مُكلف زمنياً أيضاً للغاية وتالياً لا يوفي بالواجب وفق الضرورة والحاجة الملّحة – وذلك حتى ولو كان الأمر من إختصاص قضاء العجلة. تالياً، ما كان من خيار أمام فتون إلاّ الإحتجاج ورفيقاتها داخل المصرف. أما إدارة المصرف، فهي لم تسلم بالأمر الواقع، وعمدت إلى إخراج الزبائن الآخرين وإقفال أبواب الفرع وإستدعاء عناصر من قوى الأمن الداخلي، لا بل وإصدار بيان كاذب إدعت فيه أن المحتجّات هنّ من يحتجزن، موظفي الفرع. فذهبت رفيقات فتون يستعنّ بمعارفهن لقلب الرواية الرسمية وتأمين الدعم لفتون في معركتها. تواصلنَ مع عدد من الناشطين والصحافيين – في الإعلام التقليدي والبديل. إستغرق الأمر ساعات من الذلّ والقهر وإرهاق الأعصاب، لكن فتون ثابرت إلى حين خرجت من المصرف حاملة أموالها وتالياً متمكنة من تسديد بدل الإيجار والمحافظة على مسكنها.
هذا الذلّ في فضاء المصارف، إختبره كل من حاول سحب أمواله في الأشهر الماضية، ووقف لساعات أحياناً بغية سحب كميات زهيدة من الأموال. وقد دفع هذا الأمر مودعين آخرين – أمثال فتون – إلى الإحتجاج بشتى الطرق لإستيفاء حقهم باليد. وفي حين يشكل هذا الأمر وجهاً سلمياً من أوجه تجلّي عدالة خاصة (غير مؤسساتية)، تكمن في إستيفاء عناصر الشعب لحقهم بأنفسهم (إستيفاء الحق بالذات)، قد يتجلّى هذا النوع من العدالة أيضاً بأشكال أكثر عنفاً، وصلت إلى حد إحراق فروع بعض المصارف أو مركز جمعية المصارف في الجميزة (مثلما حصل في 15 كانون الثاني 2020) أو حتى مواجهة عناصر قوى الأمن بالحجارة والهجوم على سيارات النواب وتعميم ثقافة شتم الطبقة الحاكمة والساسة عموماً إلخ. وفيما تبدو الأعمال العنفية هذه بمثابة شغب، إلا أن البحث في عناصرها المكوّنة وأسباب تجلّيها، يعيدنا أيضاً إلى مفهوم العدالة الخاصة الفلسفي (وهو أمر أعود إليه تفصيلياً أدناه) ويضعها في إطار عدالة شعبية جماعية لمحاكمة النظام برمته – وبكافة أركانه، السياسية والإقتصادية والمالية منه – وإن تبدت أحياناً كتطبيق مستحدث وعام لقانون الثأر (lex talionis)، غير أنها على خلاف ذلك تماماً.
قد يبدو البحث في العدالة الخاصة الشعبية (بمعنى إستيفاء الحق بالذات، بعيداً عن أوجه أخرى من العدالة الخاصة، مثل التحكيم إلخ.) عودة – ولو نظرياً – إلى ما قبل قيام المجتمعات السياسية، أو ما يُشار إليه بالفلسفة السياسية بـ”حالة الطبيعة” (état de nature). فقد رأى فلاسفة عنصر التنوير (في القرنين السابع عشر والثامن عشر) في زوال العدالة الخاصة وتجلّي العدالة المؤسساتية (المتمثلة بشخص القاضي) شرطاً وجودياً لقيام المجتمعات السياسية (ومن ثم دولة القانون)[3]. إلا أنه وبالرغم من تطوّر تلك المجتمعات، صمدت بعض أوجه العدالة الخاصة، لا سيما في ظل ثبات مبادئ ومفاعيل القانون الطبيعي في تلك المجتمعات، آتية بالتوازي مع هذا القانون أو كإمتداد له ولدوره المصلح للقانون الوضعي[4]. وعلى هذا الأساس لا يزال يعترف القانون الوضعي بأوجه عدّة للعدالة الخاصة، نتبينها في أحكام قوانين الموجبات والعقود، مثل حق حبس أموال عائدة للمدين لإكراهه على إيفاء دينه والإمتناع عن تنفيذ الموجب ما دام فريق العقد الآخر لم يعرض القيام بما يجب عليه (مواد 272 وما يليها من قانون الموجبات والعقود)، وحق إلغاء العقد لعدم تنفيذ الموجب (مواد 239 وما يليها من قانون الموجبات والعقود) إلخ.[5] أمّا على صعيد فلسفة القانون، فتفترض العدالة الخاصة توفر شروط أساسية أبرزها الآتية:
- أن تكون تدبيراً إستثنائياً؛
- أن تُبنى على تقدير ذاتي صائب لمن يقوم بها. وهنا يقتضي توفّر شروط جوهرية لإتّسام هذا التقدير بالصوابية، لا سيما حالة الضرورة والفعاليّة والحاجة الملحّة والإنصاف ونجاعة العدالة الخاصة بالنسبة إلى العدالة المؤسساتية. اجتماع هذه الشروط يبرّر عدم اللجوء إلى مؤسسة العدالة وإلاّ لأدى هذا الأمر إلى ضرر للشخص المعني يتعذر إصلاحه وقد يؤدي عملياً – لكن ليس بالضرورة نظرياً – إلى زوال الحق. وبالطبع، تُقدّر عناصر الضرورة والفعاليّة والحاجة الملحّة والإنصاف وفق كل حالة، أكان على الصعيد الضيّق (مثل قصة فتون الفردية وغيرها)، أو أكان على الصعيد الأشمل (مثل سطو النظام على حيواتنا، وهو ما أعود إليه في الجزء الثاني من هذه المقالة)؛
- توفر التناسب بين الفعل المقترف إحقاقاً للعدالة (وإن كانت خاصة) والضرر الذي يتم درؤه؛
- وأخيراً، اختصاص مؤسسة العدالة للتدخّل اللاحق (a posteriori) – في حال تم استدعاؤها – للفصل في مدى صحة الفعل المقترف ومدى صوابه[6].
ولكن ماذا بشأن عدم نجاعة العدالة المؤسساتية؟ هنا يقتضي تسجيل أمرين أساسيين:
- الأول، يرتبط بالدور الذي أدّاه قضاة الملاحقة (نيابات عامة وقضاة تحقيق) منذ 17 تشرين[7]: وهو قد تمثل بشكل أساسي في حماية النظام وقمع المتظاهرين ومعهم الإنتفاضة. فمن ناحية أولى، وفي حين لم تقم النيابة العامة بأي دور جدّي ومثابر في ملاحقة أشخاص نافذين تحوم حولهم شبهات فساد في الدولة اللبنانية ولا ضد من ثبت عليه تعدّيه على الملك العام (وهو أمر أعود إلى أسبابه المحتملة أدناه)، لم تتوان بالمقابل هي نفسها عن إنتهاج سياسة قمعية لملاحقة المتظاهرين منذ 17 تشرين، ممعنة في مبالغة التهم الموجهة إليهم في غياب تام للتناسب مع الأفعال المدعى على أساسها. فيتحول رمي الحجارة على القوى الأمنية إلى “محاولة قتل” (جناية) بدلاً من “معاملة قوى الأمن بشدة” مثلاً، ويتحوّل قطع الطرقات إلى “إثارة للنعرات الطائفية” إلخ. وإن إنتهاجها هذه السياسة في الملاحقة من دون البحث عن أسباب إنتفاضة المتظاهرين أساساً ومدى توفر العناصر المعنوية للجرائم المدعى بها، وإخراجها تماماً عن سياقها الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، إنما تشي بتحوّل النيابات العامة إلى جهاز قضائي مُمأسس لمدّ سطوة النظام على الشعب وحمايته والأوليغارشية التي تتجسده ومصالح هذه الأخيرة الخاصة، بعيداً عن حماية المصلحة العامة. أما من ناحية أخرى، وهو الأفظع، فبعدما تقدم بعض المتظاهرين، ضحايا تعذيب الأجهزة الأمنية خلال التظاهرات الشعبية، بشكاوى تعذيب لجانب النيابة العامة التمييزية، لم تتوان هذه الأخيرة عن إحالة الشكاوى للتحقيق أمام النيابة العامة العسكرية، التي أحالتها بدورها للتحقيق أمام الأجهزة الأمنية نفسها المتهمة بالتعذيب. وقد شكلت هذه الإحالة الأخيرة مخالفة فادحة للمادة 24 مكرر من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنع في مثل هذه الشكاوى استنابة الضابطة العدلية أو أي جهاز أمني آخر للقيام بأي إجراء تحقيق. لا بل ولما رفض المدّعون المثول أمام هذه الأجهزة الأمنية، لم تجد قاضية التحقيق المذكورة حرجاً في حفظ تلك الشكاوى من دون أي تعليل جدّي وتحت ذريعة رفض المدعين المثول أمام من أمعن في تعذيبهم.
- أما الأمر الثاني الذي نودّ الإشارة إليه، فيرتبط بالعدالة المؤسساتية بشكل عام ومدى فعاليّة إحقاقها للعدالة في ظلّ الظروف الإستثنائية التي تمر بها البلاد اليوم: هنا أعود إلى قصة فتون وأسباب ترددها في الذهاب إلى القضاء لحماية حقها. فاللجوء إلى القضاء مكلف مادياً (من أتعاب محاماة ونفقات ورسوم قضائية إلخ.)، وهو كذلك مكلف زمنياً بسبب طول أمد إجراءات المحاكمة والهامش الواسع الذي يستطيع صاحب النفوذ أن يستغله – هذا في حال لم يستطع التدخل في العمل القضائي أساساً. فيمعن في استغلال الإجراءات القضائية للمماطلة ولإغراق خصمه في زواريب قضائية مهدرة للطاقة تبعده عن النزاع الأساسي[8]. وإن أكبر مثل على ذلك هو ما نسجله في قضايا العمل – حيث يستغل صاحب العمل (وهو الحلقة الأقوى في هذه النزاعات) طاقاته المادية لإغراق الأجير (الحلقة الأضعف) بمماطلة إجرائية تستنفذ طاقته – وهي قضايا غالباً ما تستغرق أكثر من ثلاث سنوات أمام مجالس العمل التحكيمية، خلافاً للحد الأقصى القانوني (ثلاثة أشهر)[9]. كل هذا، على فرض عدم وصول القضية إلى مرحلة التمييز. فيصبح تالياً اللجوء إلى القضاء – لا سيما في النزاعات المدنية منعدمة التوازن بين الأطراف بطبيعتها – خطوة مبدئية أكثر مما هي وسيلة فعّالة لحماية الحق وصونه.
مما تقدم، يتضح أنّ هناك أزمة ثقة جوهرية بين النظام والشعب. فلا ثقة شعبية في الحكومة، ولا ثقة في الأجهزة الأمنية جرّاء قمعها وتعذيبها المبرح للمتظاهرين، ولا ثقة بالجهاز القضائي (خصوصاً قضاة الملاحقة) جرّاء غيابه عن ملاحقة الفاسدين والمعذبين بشكل فعّال مقابل إستهدافه الممنهج للمتظاهرين، وأيضاً لا ثقة في المصارف التي تحتجز أموال المودعين وتذلّهم لسحب كميات زهيدة من النقود أسبوعياً. ومع كثرة الـ”لا ثقات”، وتالياً إنعدام الثقة العامة في النظام برمته، يصبح العقد الذي يربط هذا النظام وهمياً بالشعب على المحك، وتصبح تالياً عملية نقل مفهوم “إلغاء العقد” المذكور أعلاه كوجه من أوجه العدالة الخاصة، من مستوى النزاعات الفردية إلى مستوى النزاعات الوطنية، أمراً يكتسي مشروعية معينة. ولكن أبعد من إنعدام الثقة العامة المبررة لتجلي العدالة الشعبية الخاصة، فإن النظام لم يكتفِ بزعزعة ثقة الشعب فيه وحسب، وهو لم يقف مكتوف الأيدي أيضاً. هذا النظام هو اليوم في مواجهة وجودية شرسة ومباشرة مع الشعب، ممعناً ومتعمّداً استبداد وقمع هذا الأخير، وواضعاً إياه إذ ذاك في حالة دفاع مشروع عن النفس. هذا الوجه الآخر للعدالة الشعبية الخاصة، يخرجنا من فضاء فلسفة القانون المدني ليدخلنا إلى فضاء فلسفته الجزائية مع كل ما للأمر من تداعيات.
في حق الدفاع عن النفس
قد يبدو البحث في الدفاع المشروع على هذا المستوى، إستقراء للحق المكرس في المادة 184 من قانون العقوبات التي نصّت حرفيّاً على ما يلي: “يعد ممارسة حق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرض غير محق ولا مثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه…”. يتبيّن من المادة أنها تُبرّر ممارسة حق الدفاع المشروع بعدم قدرة السلطات العامة على القيام بمهمتها في حماية الأشخاص والأملاك، بحيث يصبح الدفاع الفردي (كأحد تجليات العدالة الخاصة وفق ما أسلفته) وسيلة مشروعة، بديلة عن السلطات العامة العاجزة، لدرء التعرض. ولهذه الغاية، يقتضي توفر ثلاثة شروط أساسية، هي:
- الطبيعة غير المحقة للتعرض (أي ألّا يأتي التعرّض بفعل القانون أو بفعل قرار قضائي وما شابه)؛
- أن يكون التعرّض آنيّاً (“ضرورة حالية”)، وهو ما يستبعد عملياً أحكام قانون الثأر؛
- أن يكون الدفاع ضرورياً ومتناسباً مع درجة خطورة التعرّض الذي يتم دفعه.
أمّا مفاعيل الدفاع المشروع[10]، فإنه وفق القانون اللبناني، وبخلاف القانون الفرنسي، بمثابة ممارسة “حق”. بمعنى أنه يزيل تماماً العنصر المعنوي ومعه أي توصيف جرمي – ولو نظرياً – للأفعال المقترفة على هذا الأساس لينزلها منزل الحق.
من هنا، وعطفاً على ما تقدّم، يقتضي العودة إلى التعرّض غير المحق الذي يواجهه المحتجّون اليوم من قبل النظام بكافة أركانه، وهو تعرّض أختصره بأربعة مكوّنات أساسية ساهمت في نجاح السطو الذي تعرّضت له الدولة اللبنانية وشعبها:
1- الأوليغارشية. هي مجموعة من العائلات الإقطاعية التي حكمت قطعة الأرض التي تُشكّل لبنان، فاندحر قسم منها وبقي القسم الآخر في السلطة مع قيام الدولة اللبنانية فيما تخللها في الخمسينيات والعقود اللاحقة لها ظهور عناصر من الطبقة البرجوازية، من أصحاب الأعمال وأصحاب المصارف ذات النفوذ والسلطة بفعل المراكز السياسية والإدارية والمالية التي نجحوا في السطو عليها. هي وحدة متكاملة ومتجانسة (“كلن يعني كلن”) نجحت في جمع الملكيات العقارية والمالية في البلد ومعها القرارات المصيرية والسياسية فيه. وما يدفعني إلى استخدام كلمة “سطو”، هو احتكار الأوليغارشية تلك لصناعة القرار ورسم خطة العمل بالقوة وفق مصالحها الخاصة. وفي حين تحاول هذه الأخيرة تزيين ذاتها بوهم غلاف الديمقراطية التمثيلية، فإنّ أيّ كلام عن مدى تمثيل هذه الطبقة الحاكمة للشعب تحت ذريعة استنباط المشروعية من العمليات الإقتراعية، هو غير صائب لأسباب بنيوية وتاريخية. فبالإضافة إلى الدور الذي يؤدّيه الفقر والإرتهان للزعامات السياسية والمال في عملية الإقتراع، فإن نظام الإقتراع ذاته يتم تحديده على قياس تلك الأوليغارشية ولضمان استدامتها. وخير دليل على ذلك هي بنية أساساته وفق قيود الأفراد المسجلة في قرى ومناطق أجدادهم، التي غالباً لا تربطبهم بها أي صلة في ظل النزوح الهائل والتاريخي إلى المدن، باستثناء بعض مالكي العقارات هناك. ومؤدى هذا الأمر هو انخفاض نسب الإقتراع في الإنتخابات، التي بقيت على ثبات حوالي الـ20% منذ ستينيات القرن الماضي[11]. وعلى هذا الأساس يقتضي التساؤل عن مدى تحويل الوهم الإنتخابي لممثلي الشعب إلى شبه نقابة لأصحاب العقارات والمصالح الخاصة في المناطق، أكثر مما هي مجموعة ذات وكالة شعبية للعمل من أجل المصلحة العامة.
2- القضاء. ان هذه الأوليغارشية نفسها تحاول فضلاً عن ذلك ومنذ عقود السطو على السلطة القضائية من خلال التعدّي على استقلاليته وتالياً إرتهان وإضعاف الجسم القضائي برمته، مزيلة إذ ذاك أي محاسبة جدية محتملة لها. وهذا تحديداً ما شهدناه مؤخراً على إثر التشكيلات القضائية سنة 2017 من مجاهرة الأحزاب السياسية في تدخّلها في التشكيلات مقابل تقاعس تام عن إقرار قانون فعّال لضمان استقلالية القضاء. وقد تُرجم هذا الأمر بعد 17 تشرين بأداء قضاة الملاحقة إزاء المتظاهرين الذين بدوا وكأنهم يقومون بمهامهم بالوكالة عن الطبقة الحاكمة، وفق ما أسلفته أعلاه. ففي غياب قانون فعّال لضمان إستقلالية القضاء، يبقى الجهاز القضائي مرهوناً للأوليغارشية، وخاضعاً أحياناً لهواتها في لعبة السلطة.
3- المصارف، علماً أن أصحابها هم من أركان الأوليغارشية الأساسية. فبعد جنيها للأرباح الطائلة بمفعل لعبة استدانة الدولة منها بشروط قد تصل إلى حد وصفها بالتعسفية وغير المتناسبة (وفق نظرية قانون العقود والموجبات)، لا تتوانى المصارف اليوم عن السطو على حيوات المودعين والمشاركة المباشرة في عملية إفقارهم لإنقاذ ذاتها من الأزمة المالية، لا سيما من خلال وضعها سقوف غير قانونية على السحوبات[12]، وصولاً إلى فرضها سحب أموالهم المودعة بالدولار الأميركي بالليرة اللبنانية على أساس سعر الصرف الرسمي الذي أصبح يوزاي نصف السعر المتداول في “السوق” (أي لدى مكاتب الصيرفة حيث تجاوزى 2.500 ل.ل. للدولار الواحد). وهو أمر قد يعتبر في منزلة السرقة الموصوفة، مقابل تقاعس السلطة التام عن التدخل لوضع ضوابط قانونية ومنصفة لتعرض “كابتال كنترول” الأمر الواقع هذا الذي يقع ضحيته مئات الآلاف من المودعين الذين يتعرضون لإذلال يومي بغية استحصالهم على “الإعاشة المصرفية”.
4- الأجهزة الأمنية، لا سيما قوى الأمن الداخلي والجيش منها (خصوصة بعد بدء ثورة 17 تشرين):
فقد برز سوء أداء لتلك الأجهزة أخذ أحياناً شكل الإفراط في استخدام العنف في مواجهة المتظاهرين. وقد وصل الأمر إلى حد تصنيف بعض أفعالها بالتعذيب، بالمعنى القانوني للكلمة[13]. وعلى هذا الأساس بدت هذه الأجهزة كأجهزة دفاع خاصة للأوليغارشية وليس كأجهزة للدولة، ما دفع بعض المتظاهرين إلى إزالة النقطة من حرف الغين لتصبح شعبة “مكافحة الشغب”، شعبة لـ”مكافحة الشعب”، في نقد لاذع لأدائها منذ 17 تشرين.
إن كل هذه العوامل تظهر التعرض الممأسس الذي يواجهه الشعب اليوم، والمتمثل بالأوليغارشية سطت على مؤسسات الدولة برمتها، لا سيما السلطة القضائية والعسكرية منها، مستغلّة إياها للتعرض لهذا الشعب وقمعه وإفقاره، حرصاً على مصالحها الخاصة هي. وعلى هذا الأساس، ولمّا لم يعد من حال أمام هذا الشعب للدفاع عن نفسه وعن المصلحة العامة بشكل فعّال عبر المؤسسات العامة، تصبح عناصر الدفاع المشروع متوفرة ويتحوّل تالياً ما هو مُشار إليه بـ”شغب” إلى ممارسة لحق وليس مخالفة للقوانين، وتنهض إذ ذاك العدالة الشعبية الخاصة من أحضان قانون الطبيعة (في عودة ضرورية وملحّة إلى هذه الطبيعة ذاتها) لإصلاح القانون الوضعي ودرء الطاغية.
خاتمة
في خطاب “برو ميلوني” (Pro Milone) الذي ألقاه الكاتب والخطيب الروماني سيسرو (Cicero) في العام 52 ما قبل الميلاد، إعتبر هذا الأخير أن الدفاع المشروع، كتطبيق للقانون الطبيعي، هو ليس فقط أمراً ضرورياً للحفاظ على الذات عندما يعجز القانون الوضعي والمؤسسات العامة عن القيام بذلك، بل هو أيضاً واجب أخلاقي طبيعي على كل فرد أن يقوم به للعيش وفقاً لأحكام الطبيعة وبالتجانس معها، وعليه تالياً أن يقوم في كافة الحالات وبشتى الوسائل بدرء العنف الذي يهدد كيانه – مهما كان شكله[14].
هذا الواجب الأخلاقي، ينسحب أيضاً على الأفراد القيمين على المصلحة العامة والشأن العام، لا سيما السلطة القضائية منها – بعيداً عن إنشطار “هم” و”نحن”. فاليوم، ما زال يلتفت الشعب – بالرغم من كل شيء – نحو القضاء (وقد شكل مطلب إقرار قانون إستقلالية القضاء، كأحد المطالب الأساسية مع بداية ثورة 17 تشرين، بعد مطلب إسقاط حكومة الحريري، خير دليل على تطلعات الشعب في الجسم القضائي وآماله فيه). واليوم يبقى القضاء السلطة العامة الوحيدة القادرة على إسقاط الأوليغارشية وتحرير ذاتها منها، وهي قدرة تنبع من طبيعة هذه السلطة ومكانتها في صناعة القرار هي أيضاً، ومعها درء إحتكار الأوليغارشية لتلك الصناعة. وفي حين استعان الشعب بقوانين الطبيعة لإعادة إدخال مفهوم “العدالة” (وإن كانت شعبية) على المساحة العامة، فقد حان الوقت للاستفادة من تلك الطبيعة وقيام ثورة داخل مؤسسات الدولة لإستعادة الثقة المفقودة وإعادة مأسسة مفهوم العدالة على وجه يشبه هذا الشعب بعيداً عن وجه الطاغية الساطية عليه. وفي حين قد لا تقر الأوليغارشية الحاكمة قانون إستقلالية القضاء طوعاً، فهي تكون بذلك تجني على ذاتها، يقتضي تالياً فرض إستقلالية القضاء عليها. وان إرشادات سيسرو تقع أيضاً على القضاة الأفراد أنفسهم، فمن واجبهم أن يدافعوا عن ذواتهم والجهاز القضائي برمته بأية وسيلة كانت إسنجاماً مع الطبيعة وحرصاً عليها. ولهذه الغاية، فهم يقفون اليوم مع الشعب الثائر أمام فرصة تاريخية فريدة من نوعها تسمح لهم أن يتسلحوا بالقوة الشعبية للخوض رأساً معركة إستقلاليتهم من الأوليغارشية. فمع نجاحها، فقط، تسقط الأوليغارشية ويندحر الطغيان.
[3] Denis ALLAND, « Justice Privée (Droit de se faire justice à soi-même) », in Dictionnaire de la culture juridique, Quadrige / LAMY-PUF, 2003.
[4] ك. نمّور، مذكور أعلاه.
[8] David Harvey, “A Brief History of Neoliberalism”, Oxford University Press, 2005.
[10] المادة 122-5 من قانون العقوبات الفرنسي.
[11] For a more detailed approach on the “Oligarchy”, check Fawwaz Traboulsi, A History of Modern Lebanon, PlutoPress, second edition, 2012.
[13] الحلقة الثانية من الموسم الثاني من البودكات القانوني مع المحامية غيدة فرنجية، مذكورة أعلاه.
[14] Éric Desmons, « Légitime Défense (point de vue philosophique) », in Dictionnaire de la culture juridique, Quadrige / LAMY-PUF, 2003.