لم يَخلو مشروع قانون الماليّة لسنة 2025، من إجراءات خصوصيّة تهدف إلى الحثّ على إحداث الشركات الأهليّة على غرار بقيّة قوانين الماليّة التي تلَت إصدار المرسوم الرّئاسي عدد 15 لسنة 2022 المؤرّخ في 20 مارس 2022 المُتعلق ببعث الشركات الأهلية. تندرج هذه السياسة في سياق يتّسم بمرور الرّئيس إلى السّرعة القصوى في فرض تكوين هذا الصّنف الجديد من الشّركات الذي أضحَى في قلب الفعل السّياسي الرّسمي خطابًا وممارسة. أكثر من ذلك، يبدو أنّ الهدف من تعيين رئيس الحكومة كمال المدّوري وشَرط بقائه على رأس منصبه مُرتبطان بأدائه في هذا الملفّ بالذّات.
إن محاولة قراءة الشّركات الأهليّة كمشروع اقتصادي تَضعنا أمام عائق منهجي مردّه غياب التّنظير للفكرة وغياب أيّ تصوّر أو تخطيط إقتصادي للمشروع في حدوده الدنيا. إضافة إلى غياب أي منشورات رسميّة أو معطيات إقتصاديّة أو محاسبيّة حول الملف، باستثناء تصريحات أعضاء الحكومة التي تأتي عادة على هامش مناسبات رسميّة. هذه التّصريحات تقتَصر على الطّابع الإحصائي المتعلق بتطوّر عدد الشّركات، وتستعرض هذا الصنف من المؤسسات كَمنوال تنموي للتّغيير الاجتماعي والاقتصادي. لكنّ هذا المنوال اصطدم منذ انطلاق تكريسه بمطبّات الواقع وضعف احتمالات نجاحه. وكالعادة يُرجع الرئيس تَخَبّط التّجربة إلى “مؤامرة” تُحَاك ضدّ مشروعه داخل الإدارة.
الشركات الأهلية وفوضى المأسَسَة
حسب المرسوم، تَهدف الشّركة الأهليّة إلى “تحقيق التنمية الجهوية وأساسا بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي وتماشيا مع حاجيات مناطقهم وخصوصياتها”. وتقوم على الملكيّة الجماعيّة، حيث لا يقلّ عدد المساهمين في رأس مالها عن 50 فردا، ويمكن الجمع بين صفة المساهم وصفة الأجير. وتكون الشركات الأهليّة محليّة إذا كان نشاطها في حدود معتمدية واحدة أو معتمديات متجاورة دون أن يمتدّ على كامل الولاية، ويمكن أن تُقدّم أكثر من خدمة. أو تكون شركات جهويّة إذا امتدّ نشاطها على كامل الولاية أو يقطن المساهمون في رأسمالها في معتمديات غير متجاورة، أو إذا تمّ تكوينها من شركات أهليّة محليّة يشمل نشاطها خدمة واحدة. يبلغ رأس مال الشّركات الأهليّة في حدّه الأدنى 10 آلاف دينار بالنّسبة للشّركات المحليّة و20 ألف دينار بالنّسبة للشّركات الجهويّة. كما يُتيح المرسوم المتعلّق بالصّلح الجزائي إمكانيّة مساهمة الجماعات المحليّة في رأسمال الشّركات الأهليّة في إطار توظيف 20% من عائدات الصّلح. أمّا بخصوص توزيع الأرباح فتُخصّص نسبة %15 في شكل مدّخرات وجوبية إلى أن تبلغ نسبة %50 من رأس مال الشركة الأهلية، وتُخصّص نسبة %20 للأنشطة الاجتماعية والثقافية والبيئية، فيما يوزّع المتبقي من الأرباح على المساهمين في حدود نسبة لا تتجاوز %35. ويُوظّف ما زاد على ذلك في تنمية نشاط المؤسّسة، حسب ما نَصَّ عليه المرسوم.
يشهد مشروع الشركات الأهلية، منذ انطلاقه، تخبّطا جليا على المستوى المؤسّساتي. ففي البداية وُضِعَ تحت إشراف وزارة الشؤون الإجتماعيّة وبَرَز كملفّ إجتماعي-سياسي أكثر منه اقتصادي، بخاصّة وأنّ الوزير المسؤول عنه حينها كان مالك الزّاهي أحد رموز “منظومة 25 جويلية”، وقد تمّت إقالته أواخر شهر ماي 2024. ومع بداية السّنة الجارية، وبعد أقلّ من سنتين من صدور المرسوم، قام الرّئيس سعيّد بإحداث خطّة كتابة دولة للشّركات الأهليّة تولّى مهمّتها السّيد رياض شود، وتمّ نقل الإشراف عليها إلى وزارة التّشغيل والتّكوين المهني. ثمّ ما لبث أن عيّن، بعد سبعة أشهر، السّيدة حَسنَة جيب الله كاتبة دولة للشّركات الأهليّة في إطار التّحوير الحكومي الأخير. وعدم الاستقرار السّياسي على مستوى الإشراف على هذا الصّنف الجديد من الشّركات يُبيّن أنّ الفكرة في حدّ ذاتها غير ناضجة في ذهن رئيس الجمهوريّة.
لم يتطرّق مرسوم الشركات الأهلية لمسألة التّمويل، لذلك يُعتَبَر من باب العبث السّياسي صِياغة مشروع اقتصادي دون تحديد آليـّات تمويله. هذا الخلل يرتبط أساسا بالتصوّر الأصلي للرّئيس حول الشّركات الأهليّة الذي رَبطَ تمويلها عضويّا بعائدات الصّلح الجزائي معتقدا أنّه سيكون آليّة لتدفّقات ماليّة مُهمّة تسمح للدّولة عن طريق الجماعات المحليّة بالمساهمة في دعم الشّركات الأهلية ومصدرا أساسيا لتمويلها. ولكن فشل مسار الصلح الجزائي في التحول إلى مصدر تمويل، جعل السلطة تبحث عن قنوات تمويل ودعم من داخل موارد الدولة الشحيحة وغير المُهَيكلة.
غير أنّ دور الدّولة يتجاوز الجانب المتعلق بالتّمويل إلى الاضطلاع بدور الإشراف السياسي، عن طريق وضع الشّركات الأهليّة المحليّة تحت إشراف والي الجهة، ووَضع الشركات الأهلية الجهوية تحت إشراف الوزير المكلّف بالاقتصاد، الذي يقوم بالإشراف على الرّقابة الماليّة (قبليّة وبعديّة) والإداريّة ويُمكن أن يصل دوره حدّ التدخّل في التّسيير والتّوجيه، وفي صورة عدم الالتزام يمكن لسلطة الإشراف متمثّلة في الوالي أو وزير الاقتصاد، الالتجاء للمحكمة لطلب حلّ الشّركة المعنيّة وفق المرسوم. وتَجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ دور الوالي يطرح الكثير من التساؤل، لأنه لا يملك الاختصاص والمؤهّلات التي تمكّنه من تقييم مؤسّسة إقتصاديّة. كما لا يمكن فهم المنطق الذي أدّى لازدواجية الإشراف، ففي الوقت الذي أسنَد فيه المرسوم مُهمة الإشراف -نظريا- لوزارة الاقتصاد، قام الرئيس سعيد بإسناد الإشراف -عمليا- لكتابة دولة مختصّة في الشركات الأهلية تابعة لوزارة التّشغيل.
ما يمكن استنتاجه هو وجود نزعة دولتيّة ستُساهم في مزيد تكريس البيروقراطيّة، وهي في واقع الأمر نزعة تسلطيّة صاحَبَت “منظومة 25 جويلية”، التي ترى بشكل عام أنّ سلطة الدّولة يجب أن تكون حاضرة في جميع مناحي الحياة كحلّ مثالي وشامل. لذلك سنرى أنّ العوائق التي اعترضت تنفيذ المشروع تدور حول فكرة المشروع في حدّ ذاتها.
إمتيازات ماليّة وجبائيّة سابقة من نوعها
حسب مشروع قانون الماليّة للسّنة المقبلة، سيتمّ تخصيص اعتماد إضافي بمبلغ 20 مليون دينار من موارد الصندوق الوطني للتشغيل لفائدة خطّ تمويل الشّركات الأهليّة. هذا الخطّ تمّ إحداثه بمقتضى قانون الماليّة لسنة 2023، باعتماد أوّلي قَدره 20 مليون دينار، وتمّ تكليف البنك التونسي للتضامن بالتصرّف فيه عبر إسناد قروض للشّركات الأهليّة بشروط تفاضليّة متمثّلة في 5% نسبة فائدة و7 سنوات مدّة سداد من بينها سنة إمهال، ويَصل المبلغ الأقصى للقرض إلى 300 ألف دينار (وهو سقف التمويل الذي يمكن إسناده بناء على الأمر الحكومي المنظّم لبرامج الصّندوق الوطني للتّشغيل)، وعلى الأرجح لم تتحصّل أيّة شركة أهليّة على التّمويل في سنة 2023 بسبب العراقيل البيروقراطيّة والتشريعيّة التي اعترضتها والتي تنسحب تقريبا على كافّة الباعثين الجدد في تونس لأنّها مرتبطة ببِنية الإدارة، علاوة على حداثة التّجربة التي لم يسبِقها أيّ تخطيط.
وضمن قانون الماليّة للسّنة الحاليّة، تمّ رصد إعتماد إضافي قدره 20 مليون دينار على موارد الصّندوق الوطني للتّشغيل، ولتجاوز شرط سقف التّمويل الذي يقدّمه البنك التّونسي للتّضامن وقعت توسعة التصرّف في خطّ التّمويل بتشريك 5 بنوك تجاريّة (التجاري بنك وبنك تونس العربي الدولي والشركة التونسية للبنك وبنك الأمان وبنك الإسكان) بعد توقيع اتّفاقيّات في الغرض تمّ بمقتضاها رصد 5 مليون دينار من مجمل خطّ التّمويل المذكور لفائدة كلّ بنك لإقراض الشّركات الأهليّة مع توظيف نسبة الفائدة في السّوق النّقديّة (تبلغ حاليا %7.99) في حال تجاوز مبلغ القرض سقف 300 م.د. وبذلك ستبلغ جملة الاعتمادات المخصّصة لتمويل الشّركات الأهليّة في السّنة المقبلة 60 مليون دينار محمولة على موارد الصّندوق.
علاوة على ذلك، يتضمّن مشروع قانون الماليّة لسنة 2025 توفير 10 مليون دينار من موارد الصندوق الوطني للتّشغيل لفائدة الصّندوق الوطني للضّمان (مؤسّسة عموميّة) كعنوان لتَحمّل مخاطر القروض التي يمكن أن تحصل عليها الشّركات الأهليّة من البنوك والمؤسّسات الماليّة والتي تشترط عموما ضمانات لصرف التّمويل.
إلى جانب تسهيلات التّمويل تمّ تمتيع الشّركات الأهليّة وفق المرسوم المنظّم لها بإعفاء جبائي كلّي من الضّرائب والأداءات والمعاليم المستوجبة[1] لمدّة 10 سنوات من تاريخ تأسيسها. وفي إطار مواصلة تجسيم هذه الامتيازات تضمّن مشروع قانون الماليّة لسنة 2025 مَنح هذه الشّركات توقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة بالنّسبة لاقتناء التجهيزات والمُعدّات والمواد والمنتجات والخدمات والعقارات الضرورية لنشاطها لمدة 10 سنوات سواء كانت المقتنيات محليّة أو مورّدة، زيادة على إعفائها من دفع المعاليم[2] الموجّهة لفائدة الصناديق الخاصة في الخزينة المستوجبة على المنتجات المُوردة والمحليّة لنفس الفترة.
ويُذكر أنّ وزارة التّشغيل إنطلقت في شهر سبتمبر المنقضي في قبول مطالب الانتفاع بمنحة دعم شهريّة تقدّر بـ 800 دينار لمدّة عام لفائدة باعثي الشّركات الأهليّة، علما وأنّ الوزارة تُقدّم منحة مرافقة للباعثين الجدد بقيمة 200 د على نفس المدّة. وعلى هذا الأساس، يُمثّل حجم الإمتيازات الماليّة والجبائيّة برمّتها الممنوحة للشّركات الأهليّة سابقة لم يتمتّع به أي صنف من المؤسّسات سابقا.
عندما يوظّف ملك الدّولة لخدمة مشروع الرّئيس
حسب تصريح لكاتبة الدولة المكلفة بالشركات الأهلية حسنة جيب الله للإذاعة الوطنيّة، في 3 أكتوبر الفائت، بَلغَ عدد الشركات الأهلية 100 شركة من بينها 12 شركة أهلية دَخلَت حيّز النشاط، كما أشارت إلى أنه سيتم إحداث 20 شركة جديدة في الأيام القليلة القادمة. من خلال بيانات السّجل الوطني للمؤسّسات يَنشط حوالي 80% من هذه الشّركات في المجال الفلاحي، فيما تعمل البقيّة في مجالات النّقل والطّاقات المتجدّدة والنّسيج والجلود والصّناعة الإنشائيّة.
تَمَركُز هذا الصّنف من الشّركات في القطاع الفلاحي جَعلَه في مواجهة ملفّين تاريخيّين ثقيلين؛ هما ملفّ الأراضي الإشتراكيّة وملفّ الأراضي الدوليّة اللّذان ظلّا يخضعان للتّوظيف السياسي. والتوجّه نحو هذه الأراضي مُنسَجم مع رؤية رئيس الجمهوريّة الذي يَرى أنّه قد حان الوقت لحلّ الإشكالات العقّاريّة المتراكمة في إتّجاه وضعها تحت تصرّف الشّركات الأهليّة. وقد تواتَرت التّصريحات الرّسميّة في الغرض وآخرها تصريح وزير أملاك الدّولة والشّؤون العقّاريّة، الذي أكّد إن الوزارة بصدد إعداد مشروع تنقيح القانون عدد 21 لسنة 1995 المُتعلق بالعقارات الدولية الفلاحية بغرض تمكين الشركات الأهليّة من حق الأولوية في استغلال العقارات لفائدتها، مع العلم وأنّ هذا المخزون العقاري يبلغ 500 ألف هكتار وفق التقرير السّنوي عدد 31 لدائرة المحاسبات. كما يُذكر أنّ كلّ من وزارة الإقتصاد والتّخطيط ووزارة أملاك الدّولة أصدرتا قرارا مشتركا يتعلّق بضبط مقاييس التّفويت بالمراكنة في العقارات التابعة لملك الدولة الخاص وإعطاء أولويّة استغلالها للشّركات الأهليّة، وسيتمّ اعتماد عقد المراكنة خارج إطار الصّفقات العموميّة أو البتّة العموميّة المفتوحة، بتعلة تجاوز عائِق المنافسة والتّفويت بقيمة ماليّة تفاضليّة لصالح الشركات الأهلية.
امتَدَّ وضع ملك الدّولة على ذمّة الشّركات الأهليّة إلى الملك الغابي والملك البحري، فقد تشكّلت شركات أهليّة تَعمل في المجال، من بينها على سبيل المثال الشّركة الأهليّة المحليّة “قمرة الشّمال” بمعتمدية طبرقة (ولاية جندوبة شمال غرب تونس) التي يتمثّل نشاطها في استغلال الموادّ الطبيعيّة والمقطعيّة وتثمين المنتوجات الغابيّة والفلاحيّة واستغلال الشّريط السّاحلي. هذه العناوين العامّة التي تعمل تحت مضلّتها هذه الشّركة تُشير إلى أنّ جميع مقدّرات الدّولة موضوعة على ذمّتها، وهذا ينسجم مع تصريح حديث لكاتبة الدّولة المكلّفة بالشركات الأهليّة أكدت فيه الانطلاق في وضع الجوانب الإجرائية والترتيبية لتطوير التشريعات الخاصة باستغلال الملك الغابي بهدف تسهيل استغلالها من قبل الشّركات الأهليّة.
لم يكن مرسوم الشركات الأهلية دقيقا في الجانب المتعلق بتمكين هذه الشّركات من استغلال ملك الدّولة الخاصّ، فقط تضمّن عبارة “مرفق أو أملاك عموميّة” في الفصل 68 منه. وقد مكّن في فصله الخامس بشكل واضح الشّركات الأهليّة من استغلال الأراضي الإشتراكيّة التي تُعتبر ملكيّة جماعيّة خاصة، وقد كان موضوع أوّل شركة أهليّة تمّ تأسيسها بالبلاد هي “شركة أراضي مجموعة بني خيار”، التي أُوكِل لها التصرّف في 900 هكتار من الأراضي الاشتراكيّة عن طريق تَسويغها في شكل مقاسم لمستثمرين فلاحيّين، أي أنّ الشّركة بصدد لَعب دور الوسيط في مجال الرّيع العقّاري، ولا علاقة لها بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني. أيضا لم ينص المرسوم على التفويت صراحة في الأراضي الدولية لصالح الشركات الأهلية.
الضّغط السّياسي الذي يَعيشه رئيس الجمهوريّة، والمرتبط بإلزاميّة النّتيجة في إطار شعاره الجديد “البناء والتّشييد”، يقوم بتصريفه عن طريق الضّغط على حكومته وإجبارها على تذليل كلّ “العراقيل” التي تعترض الشّركات الأهليّة. وهو ما دَفعَ بالحكومة إلى ضرب المسؤوليّة الاجتماعيّة للشّركات الأهليّة في المجال البيئي عبر إلغاء شرط طلب دراسة المؤثرات على المحيط وكراس الشروط للحصول على شهادة التصريح بالاستثمار لدى وكالة النهوض بالصناعة والتجديد، بدعوى تبسيط إجراءات الإحداث وفقا لبيان أصدرته وزارة التشغيل في شهر سبتمبر الفائت، علمًا وأنّ الوزارة كانت قد قرّرَت في وقت سابق توطين الشركات الأهلية التي لا تتوفر على مقر اجتماعي بمَحاضن المؤسسات الراجعة بالنظر لوكالة النهوض بالصّناعة والتّجديد.
[1] إعفاء كلّي يشمل: الضّريبة على الشّركات، الخصم من المورد، الضريبة على دخل المساهمين، معاليم التّسجيل، معلوم على الأراضي غبر المبنيّة، الأداء على التكوين المهني…
[2] المعلوم المهني لفائدة صندوق تنمية القدرة التنافسية في قطاعات الصناعة والخدمات والصناعات التقليدية، معلوم المحافظة على البيئة، معلوم يوظف على أجهزة تكييف الهواء…