على أرصفة المدن، وفي أزقة الأحياء الشعبية التي تحوّلت من هامش بعيد إلى قلب نابض لجغرافيا اجتماعية مُتحوّلة، يعيش الشباب التونسي حالة من الانتظار القلِق، حيث يختلط الفردي بالجماعي، واليومي بالسياسي. هنا لا يُمثّل تعاطي المخدرات مجرد انزلاق سلوكي، بل يتجسّد كعرض من أعراض أزمة أعمق تَطال العلاقة بالزمن، بالجسد، وبالدولة ذاتها. في كتابه “حيوات هشة” يَصف شهرام خوزرفي المجتمعات التي تعيش في ظل هشاشة مزمنة، حيث يصبح الانتظار ذاته شكلاً من أشكال الحياة. هذا التوصيف ينطبق على جزء كبير من واقع الشباب التونسي الذي يترنّح بين وعود مؤجلة وإمكانات مستحيلة، فيبحث من خلال المخدرات عن وسيلة مزدوجة: تخدير مؤقت لجسد متعب، وسرقة لحظات من النشوة في زمن يبدو ثابتًا ومغلقًا.
في هذا الإطار، لا يمكن اختزال المخدرات في بعدها الطبي أو القانوني، بل ينبغي فهمها كأداة لتطويع الزمن، وكآلية لمقاومة الرتابة التي تفرضها الدولة الحديثة عبر نمط عيش نيوليبرالي، يُدير الحياة كاستمرار صامت للموت. وكما يشير دافيد لوبروتون في كتابه Le Disparaître de Soi، فإن التدمير الذاتي قد يكون فعلًا واعيًا للاختفاء عن عالم فقد معناه، وهو ما يَجعل استهلاك المخدّرات لدى شباب الأحياء الشعبية شكلاً من المقاومة الرمزية، بل ومن إعادة ترتيب المعنى ذاته.
يَتقاطع هذا المسار أيضًا مع العنف، ومع تجارب الهجرة غير النظامية، ومع الاقتصاديات غير الرسمية، حيث تُصبح المخدرات سلعة تتحرّك داخل شبكات غير مرئية تُعيد إنتاج الفقر وتخلق في الوقت ذاته أشكالًا بديلة من التضامن والقيم. وهنا لا تعود الأحياء الشعبية فضاءات إقصاء فحسب، بل تتحوّل إلى مراكز إنتاج ثقافي واجتماعي موازٍ، يتحدى النماذج الرسمية ويفرض إيقاعه الخاص على الحياة اليومية.
لفهم هذه الظاهرة بعمق، يمكن استحضار مفهوم “السياسات النّيكروية” لأشيل مبيمبي، التي تُوضّح كيف تدير الدولة الفئات الهشة عبر تَركها في حالة من التعليق المستدام، لا هي مدمجة بالكامل ولا مقموعة علنًا، بل تُركت لتتعامل مع قدرها ضمن منطق اقتصادي يُحيّد الشباب ويحوّلهم إلى أجساد تستهلك ولا تُنتج، تُدار ولا تُقرّر.
من هنا، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا: هل يمثل تعاطي المخدرات انسحابًا فرديًا من واقع مأزوم، أم أنه فعل جماعي لمواجهة أفق مسدود؟ هل هو تعبير عن انهيار القيم التقليدية، أم بداية تشكّل منظومة قيم جديدة، يُعيد فيها الشباب صياغة علاقتهم بالزمن، بالمجتمع، وحتى بالدولة؟ وهل تقف الدولة فعلًا ضد الظاهرة، أم تُعيد توزيعها بما يتماشى مع منطق إدارة العيش في الهامش؟
من الهامش إلى الثقافة الشبابية
رغم أن الخطاب الرسمي في تونس يربط تعاطي المخدرات بالجريمة والانحراف، فإن الواقع يكشف عن ظاهرة أكثر تعقيدًا واتساعًا. فقد أصبحت المخدرات جزءًا من يوميات الشباب بمختلف فئاته الاجتماعية، ولم تَعد محصورة في الهامش. وتؤكد الأرقام هذا التحول، إذ تشير تقارير رسمية إلى تضاعف نسبة الاستهلاك خلال العقد الأخير، حيث أظهر مسح وطني سنة 2023 أن 8.9% من التلاميذ يتعاطون المخدرات، وأكثر من 16% يجدون سهولة في الحصول عليها. كما تم حجز حوالي 700 كغ من القنّب الهندي خلال النصف الأول من نفس السنة، في حين يُقدّر عدد المدمنين في تونس بـ400 ألف شخص.
لكن هذه الأرقام، على أهميتها، لا تكفي لفهم الظاهرة. فالمخدرات ليست مجرد سلعة غير قانونية، بل هي أيضًا جزء من صناعة ثقافية، أين تتداخل مع ممارسات شبابية مثل موسيقى الراب، وبقية الأنماط الاستهلاكية المرتبطة بها. في هذا الصدد، باتت عبارات “الزطلة” و”الحْرَابِش”، و”السُّوبِيتَاكس” تتردّد في الأغاني وتُكتب على جدران الأحياء الشعبية، وتُتَداول في النقاشات اليومية، ليس فقط كمواد للاستهلاك، بل كعناصر تعبير عن تجربة معيشية تُدرَك بوصفها قاسية وغير محتملة. أعاد هذا الأمر ترتيب العلاقة مع المخدرات في تونس ليس فقط كوسيلة للهروب، بل كمكوّن من هوية شبابية متكاملة، حيث يكتسب المستهلك معرفة بأنواعها وتأثيراتها، وحتى رمزية استخدامها داخل مجموعات معينة. في هذا السياق، لم تَعد المخدرات مجرد فعل فردي مرتبط بالبحث عن اللذة أو الهروب من الضغوط، بل تحوّلت إلى ممارسة جماعية تُعيد تعريف العلاقات الاجتماعية داخل فضاءات المدن وهوامشها. فشباب الأحياء المهمشة لا يستهلكون المخدرات فقط، بل يعيدون إنتاجها كجزء من شبكة معقدة من العلاقات، حيث يصبح التوزيع والتعاطي جزءًا من أشكال جديدة للانتماء، سواء داخل الأحياء أو حتى داخل الجامعات والمقاهي الراقية. تعاطي المخدرات في تونس لم يعد مجرد فعل فردي عابر، بل هو اليوم جزء من ديناميكية اجتماعية أكثر تعقيدًا، تُعيد تشكيل علاقات الشباب مع الدولة والمجتمع ومع مجموعات الرفاق.
في العقود الماضية، كانت العائلة والأيديولوجيات الكبرى والأطر الاجتماعية التقليدية (مثل النقابات، الأحزاب، الجمعيات، وحتى الفضاء الديني) تلعب دورًا أساسيًا في توفير مُوجّهات هوياتية واضحة للشباب. إلا أن هذه الأطر شهدت تفككًا تدريجيًا في السياق التونسي، نتيجة الأزمات الاقتصادية والتحول نحو النيوليبرالية، وتراجع الأدوار الاجتماعية للدولة. في هذا الفراغ وجَدَت فئات واسعة من الشباب أنفسها في حاجة إلى إعادة اختراع ذاتها، وهنا تبرز المخدرات كمجال لإنتاج هوية مغايرة أو هوية مقاومة كما يسميها مانويل كاستلز. إذ أن تعاطي المخدرات ليس مجرد خيار فردي، بل هو طقس عبور اجتماعي يسمح للفرد بالانتقال من كونه مجرد “شاب عادي” إلى أن يصبح “جزءًا من مجتمع خاص”، له طرقه المخصوصة في الحديث، في السلوك، وفي الدلالات الرمزية. وكما يشرح عالم الاجتماع الأمريكي هوارد بيكر، فإن التفاعل داخل ذلك “المجتمع الخاص” يجعل الأفراد يتبنون هوية منحرفة يتم تعزيزها من خلال النظرة المجتمعية السلبية تجاههم، ما يدفعهم إلى مزيد من العزلة، ومزيد من الانخراط في أنماط الحياة غير الرسمية.
في هذا الصدد، يغدو استهلاك المخدرات ليس فقط ممارسة فردية، بل رمزا لانتماء معيّن. فالشباب الذين يتعاطون “الزطلة”، أو “السوبيتاكس” أو حتى المخدرات الكيميائية، لا يفعلون ذلك فقط بحثًا عن النشوة، لكن أيضا لأن هذه الممارسة تُوفّر لهم إحساسًا بالهوية، ووسيلة لتعريف أنفسهم ضد “الآخر” سواء كان هذا الآخر هو الدولة، العائلة، أو حتى مجتمع الاستهلاك النيوليبرالي الذي يراهم فقط كأيدٍ عاملة رخيصة أو كعاطلين بلا مستقبل. في هذا السياق يُصبح تعاطي المخدرات فعلًا رمزيًا، يُترجم من خلاله الشباب إحساسهم بالإقصاء والظلم الاجتماعي. فهم، بعد أن فقدوا سبل الاعتراف التقليدية عبر العمل أو التعليم، يلجؤون إلى مساحات بديلة تمنحهم شعورًا بالوجود والانتماء. وهنا يتقاطع ذلك مع ما طرحه جيمس سكوت حول “المقاومة التحتية”، إذ لا يعبّر الشباب بالضرورة عن احتجاجهم في الفضاء السياسي، بل يمارسون مقاومة خفية ضد النظام الاجتماعي الذي يضعهم في موقع التهميش.
يمكن فهم تعاطي المخدرات كبحث عن الاعتراف داخل مجموعات عاطفية متماسكة، حيث يجد الشباب في روابط التضامن والتحدي بديلًا عن الاعتراف الاجتماعي الغائب. وفي هذا السياق تصبح المخاطرة وسيلة لإثبات الذات واستعادة السيطرة على المصير.
تجارة المخدرات كمنظومة معيشية بين الهامش والحدود
في الأحياء الشعبية التونسية، كما في المناطق الحدودية، لم تعد تجارة المخدرات مجرّد انحراف فردي، بل أصبحت جزءًا من نسيج اقتصادي أوسع يُعوّض غياب الفرص الرسمية ويعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية في الهامش. كما أوضح فيليب بورغوا في كتابه In Search of Respect: Selling Crack in El Barrio، فإن تجارة المخدرات لا يمكن فهمها فقط من خلال منطق الجريمة، بل يجب تحليلها في سياق ديناميات الفقر والإقصاء وإعادة إنتاج السلطة في المجتمعات المهمشة.
في المدن الكبرى مثل تونس وصفاقس وسوسة تتغلغل تجارة المخدرات داخل الاقتصاديات غير الرسمية التي تُهيمن على الأحياء الشعبية، لكنّها لا تتوقف عند هذه المناطق، بل تتشابك مع شبكات أوسع تمتد إلى المناطق الحدودية، حيث تتحول ولايات مثل القصرين وتطاوين ومدنين إلى عُقَد رئيسية في ديناميكيات الاقتصاد الأسود. فالمناطق الحدودية غالبًا ما تصبح مساحات وسيطة بين الدول والأسواق الموازية، حيث ينشأ نمط من “السيادة الموازية” التي تتحدى احتكار الدولة للعنف والاقتصاد. ضمن هذا السياق غَدَت المناطق الحدودية في تونس منذ عقود طويلة فضاءات اقتصادية خاصة، يُشكّل فيها التهريب بديلاً رئيسا عن الاقتصاد الرسمي. فالحدود مع الجزائر وليبيا لم تكن فقط خطوط فصل جغرافي وسياسي، بل كانت تاريخيًا ممرات لحركة البضائع غير الرسمية، بما في ذلك الوقود والسلع المهربة، ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية، تحوّلت بعض هذه الشبكات نحو تجارة المخدرات، مستفيدة من ضعف المراقبة الأمنية والطبيعة الجغرافية الوعرة لهذه المناطق.
في القصرين مثلا، أين ترتفع نسب البطالة وتتراجع الاستثمارات الرسمية، يتحول الشباب المهمش إلى العمل في شبكات التهريب، حيث تصبح المخدرات جزءًا من البضائع المنقولة عبر الحدود. تُشير كثير من الدراسات والتقارير إلى أن القصرين أصبحت معبرًا رئيسيًا للحشيش القادم من الجزائر، الذي يتم توزيعه لاحقًا داخل تونس. في الجنوب الشرقي، وبالأخص في تطاوين ومدنين، تلعب ليبيا دورًا محوريًا كمصدر للمخدرات القوية، مثل الكبتاغون والكوكاين، التي تجد طريقها إلى السوق التونسية عبر شبكات تهريب السلع المدعمة. هذا الامتداد الحدودي يعكس ما يسميه روبرتو سافيانو بــ”الاقتصاد العابر للدول”، حيث تتحول المناطق المهمشة إلى منصات لوجستية لاقتصاديات غير رسمية تفرض منطقها الخاص. في هذه السياقات، لا تكون تجارة المخدرات مجرد نشاط إجرامي، بل تدخل في شبكة علاقات اقتصادية واجتماعية توفر فرص العمل والحماية وحتى نوعًا من “الاستقرار الاقتصادي” بالنسبة لفئات شبابية تجد نفسها دون بدائل أخرى.
العنف والمخدرات: حلقة النار في الهامش الحضري
في أزقّة الأحياء الشعبية التونسية، حيث تختلط أصوات الباعة الجائلين بصخب الدراجات النارية، ثمة واقع موازٍ يتحرك في الظل. هنا حيث ترتفع معدلات البطالة ويتقلص الأمل في المستقبل تصبح المخدرات جزءًا من الحياة اليومية، لا كترفٍ بل كاقتصاد موازٍ، وكملاذٍ مؤقت من واقع يضيق بأحلام شبابه. لكن في المقابل يتحوّل هذا الاقتصاد إلى ساحة معركة، حيث يتقاطع العنف مع تجارة المخدرات، فيخلق نظامًا خفيًا من الولاءات والصراعات تَحكمه قواعد غير مكتوبة، لكنها واضحة للجميع. فتجارة المخدرات في تونس ليست حكراً على “البارونات” الذين يتحكمون في تدفق السلع عبر الحدود، بل هي شبكة معقدة من الفاعلين الصغار أيضا، من “الكابو” الذي يدير التوزيع في الحي، إلى “اللَّحَّام” الذي يتولى مهمة البيع، وصولاً إلى المستهلك العادي الذي يبحث عن جرعته اليومية. في حي التضامن، دوار هيشر، والملاسين، وحتى في بعض الأحياء الراقية حيث يتوفر “الكوكايين” بسعر مختلف، تتحرك هذه الشبكة كآلة منظمة وكجزء من اقتصاد موازٍ يوفّر فرص عمل لمن لفظهم سوق العمل الرسمي، حيث يصبح بيع “الزطلة” أو “السوبيتاكس” وسيلة للهروب من البطالة، لكن بثمن باهظ: العنف. فتجارة المخدرات في الأحياء الفقيرة لا تُدار بالقانون بل بالقوة، حيث تحلّ “العدالة الذاتية” محل الدولة، ويفرض كل فاعل موقعه داخل السوق عبر العنف الرمزي والمادي. ففي الأحياء التي يغيب فيها الحضور الفعلي للدولة يتحوّل العنف إلى عملة متداولة، ليس فقط بين العصابات الصغيرة المتنافسة بل حتى داخل العائلة نفسها. هنا يمكن استحضار تحليل إليجا أندرسون عن “قانون الشارع”، حيث يصبح العنف وسيلة لبناء الهوية في سياقات الإقصاء الاجتماعي. في هذا الصدد نجد أن العديد من الشباب المنخرطين في تجارة المخدرات ليسوا بالضرورة من أصحاب السوابق العدلية، بل هم أبناء بيئة لم تُوفّر لهم سوى هذا المسار.
لكن رغم القوانين الصارمة، مثل قانون 52 الذي يجرّم استهلاك المخدرات بالسجن، لم ينجح الردع القانوني في الحد من الظاهرة، بل ربما ساهم في إعادة إنتاج العنف وذلك لأن السياسات العقابية غالبًا ما تعزّز الشبكات غير الرسمية، حيث يتحول السجن إلى فضاء لإعادة تشكيل العلاقات داخل السوق السوداء. في تونس هناك قصص متكررة لشباب دخلوا السجن بسبب استهلاك بسيط، ليخرجوا بعد سنوات وقد أصبحوا جزءًا من شبكات أكثر تعقيدًا في تجارة المخدرات وهو ما يؤكد فرضية أن العنف ليس مجرد عرض جانبي لهذه التجارة، بل هو أحد آليات اشتغالها. فحينما يخرج المستهلك من السجن لا يعود إلى المجتمع كفرد “معاد تأهيله”، بل كفاعل محتمل داخل المنظومة ومالكا لخبرة جديدة وشبكة علاقات أوسع.
علاوة على هذا فإن تغير أنماط الاستهلاك وفضاءاته يشكّل عاملا من عوامل ديناميكيات العنف المرتبط باستهلاك المخدرات التي كانت تُستهلك في السابق داخل البيوت أو في أماكن مغلقة، قبل أن تصبح اليوم ظاهرة علنية في الشوارع والمقاهي، وحتى قرب المدارس. ما يلفت النظر هنا هو كيف أن العنف الناتج عنها لم يعد مقتصرًا على من يشتغلون في سوق المخدرات، بل أصبح ظاهرة اجتماعية عامة. ففي الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى يُمكن أن تتحول مناوشة بسيطة إلى معركة حقيقية بالسكاكين بسبب “تخديرة زائدة”، حيث يفقد المستهلك السيطرة على سلوكه، فيضرب بلا وعي، أو يهاجم بلا سبب وذلك لأن البيئات التي يتم فيها استهلاك المخدرات تلعب دورًا أساسيًا في تحديد مستوى العنف المرتبط بها. في هذا السياق يمكن فهم انتشار الجرائم العنيفة المرتبطة بالمخدرات في تونس كنتاج لهذا التحول في أنماط الاستهلاك..
كذلك عند النظر إلى العلاقة بين استهلاك المخدرات والعنف في الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن التونسية، لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه السطو والسرقة في تمويل الاستهلاك، خاصة في ظل غياب مصادر دخل مستقرة، فالاقتصادات غير الرسمية لا تُنتج فقط سلعًا غير مشروعة، بل تولّد أنماطًا جديدة من العنف تندمج في النسيج الاجتماعي نفسه، حيث تصبح الجريمة جزءًا من استراتيجيات العيش اليومية. لكن عوضًا عن النظر إلى السطو كفعل معزول، يجب فهمه في سياقه الاجتماعي والاقتصادي. في العاصمة، كما في مدن أخرى، فإن الجريمة ليست مجرد غياب للأخلاق بل هي استجابة عقلانية لظروف اقتصادية مجحفة، حيث يصبح العنف وسيلة للحصول على المال، كما يصبح استهلاك المخدرات وسيلة للتعامل مع قسوة الحياة في الهامش.
اقتصاديات الليل وتحوّلات المدن الكبرى: المخدرات في أماكن السهر
تشير الدراسات الأنثروبولوجية حول اقتصاديات الليل، مثل أعمال أشيل ميمبيحول “السيادة الليلية”، إلى أن الليل لم يعد مجرد امتداد زمني لحياة المدن، بل باتَ مجالًا لإعادة توزيع النفوذ والموارد الاقتصادية وفق منطق غير رسمي تتحكّم فيه شبكات اجتماعية واقتصادية تتجاوز الإطار القانوني. في هذا الصدد تشكّلَت الفضاءات الليلية كمجالات اجتماعية ذات أنماط تفاعل مختلفة عن النهار، حيث تتداخل الهويات والطبقات الاجتماعية في مشهد متغير تحكمه الرغبة في الترفيه، ولكن أيضًا في تجاوز الحدود الاجتماعية والاقتصادية المفروضة في وضح النهار.
في تونس يمكن فهم انتشار المخدرات في بعض أماكن السهر ضمن هذه التحولات. لم تعد الملاهي والحانات مجرد فضاءات للاستهلاك التقليدي للكحول، بل باتت في بعض الحالات نقاطًا يتداخل فيها العرض والطلب على مواد أخرى، حيث تشكّل المخدرات -خاصة العقاقير المصنّعة مثل “الإكستازي” و”الكوكايين”- جزءًا من ثقافة الاستهلاك الترفيهي. تستفيد هذه السوق من هشاشة الرقابة الرسمية، ومن طبيعة الاقتصاد غير الرسمي الذي يَشمل شبكات توزيع غير مرئية ترتبط أحيانًا بأنشطة أخرى مثل الدعارة وغسيل الأموال، وحتى ببعض الفئات الميسورة الباحثة عن تجارب استثنائية خلال الليل.
يتقاطع هذا الوضع مع تحليل فيليب بورجوا، الذي يرى أن الاقتصاديات غير الرسمية لا تنشأ فقط بسبب غياب الفرص الرسمية، بل تُشكّل أيضًا امتدادًا لمنطق الاستهلاك السائد والرغبة في الانتماء إلى دوائر اجتماعية معينة. في هذا السياق يصبح تعاطي المخدرات أو المتاجرة بها في أماكن السهر ليس فقط تعبيرًا عن الهروب من الضغوط اليومية، وإنما أيضًا آلية لخلق روابط اجتماعية بديلة داخل فضاءات ليلية ذات قواعد مختلفة عن تلك السائدة في وضح النهار.
تُشير بعض الدراسات الحضرية أيضًا، مثل أعمال أليس غوفمان حول المراقبة الاجتماعية في الفضاءات الحضرية، إلى أن أماكن السهر تُوفّر نوعًا من “الهروب المحمي” حيث تقلّ المراقبة الرسمية مقارنة بالأحياء الشعبية أو الفضاءات العامة، ما يسمح بظهور اقتصاديات غير رسمية تتكيّف مع منطق السوق الليلي. في تونس يرتبط ذلك بتحولات المدن الكبرى، مثل تونس العاصمة سوسة وغيرها من المناطق السياحية، حيث يتركّز جزء كبير من هذه النشاطات في أحياء راقية أو مناطق سياحية أصبحت بشكل غير مباشر مساحات لتصريف المنتجات غير القانونية في ظل ضعف البدائل القانونية للشباب الباحث عن فرص اقتصادية خارج الهياكل الرسمية.
هكذا يصبح اقتصاد الليل في المدن التونسية انعكاسًا لتعقيدات أشمل، حيث تتلاقى تحولات البنية الحضرية مع أنماط الاستهلاك الجديدة، ويتحول الليل إلى ساحة تتنافس فيها شبكات الاقتصاد غير الرسمي، في ظل تراجع سلطة الدولة على بعض الفضاءات الحضرية. في هذا السياق لا يُمكن فهم انتشار المخدرات في أماكن السهر بمعزل عن هذه الديناميكيات، حيث تشكل المخدرات جزءًا من إعادة تشكيل المجال الحضري بوصفه فضاءً للتمايز الاجتماعي، ولكن أيضًا للمقاومة الصامتة في وجه الإقصاء الاقتصادي الذي يعاني منه جزء كبير من الشباب التونسي.
المخدرات: قصة تونس ما بعد الثورة
ليست المخدرات مجرد قصة عن الانحراف، بل هي قصة عن تونس ما بعد الثورة، عن الشباب الذي يعيش بين الحلم والخيبة، بين الرغبة في الانفلات من واقع ثقيل والاستسلام له. وهي في النهاية قصة مجتمع يدير أزماته لا بحلّها، بل بإعادة تدويرها في أشكال أخرى من الانتظار. انتظار وظيفة لن تأتي، وعدالة اجتماعية لا تجد طريقها خارج الخطابات الرسمية، ودولة لا تحكم بقدر ما تُنظّم الفوضى دون أن تحتويها.
هنا يُصبح السؤال أبعد من مجرد تعاطي المخدرات أو ترويجها، بل عن هندسة السلطة في مرحلة ما بعد الثورة، عن الكيفية التي تُعيد بها الدولة إنتاج غيابها، ليس بالانسحاب الكامل، بل بإدارة الفوضى عن بعد، بالتواطؤ الصامت حينًا، وبالضربات الانتقائية حينًا آخر. وكما في ليالي المدن الكبرى، حيث تعبُر المخدرات من يد إلى أخرى في أماكن السهر والنوادي، لا بوصفها محظورًا، بل كجزء من اقتصاد ليلي يتجاوز الخطاب الرسمي عن النظام والانضباط، فإنها في الأحياء الشعبية تُعيد إنتاج أشكال جديدة من الهامشية، حيث لا ينهار سوق المخدرات بالكامل، بل يتشظى إلى جزر متفرقة يحكمها قانون السوق ومنطق الترتيبات.
المراجع المعتمدة في المقال:
Loïc Wacquant, Urban Outcasts: A Comparative Sociology of Advanced Marginality. Cambridge: Polity Press, 2008.
Salwa Ismail, Political Life in Cairo’s New Quarters: Encountering the Everyday State. Minneapolis: University of Minnesota Press, 2006.
Veena Das, State and the Margins: Comparative Ethnographies. New Delhi: Oxford University Press, 2004.
Philippe Bourgois In Search of Respect: Selling Crack in El Barrio. Cambridge: Cambridge University Press, 1995
David Le Breton, Disparaître de soi: Une tentation contemporaine. Paris: Métailié, 2015
Achille Mbembe, Necropolitics. Durham: Duke University Press, 2019
Shahram Khosravi, Precarious Lives: Waiting and Hope in Iran. Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2014
Roberto Saviano, Extra pure : voyage dans l’économie de la cocaïne, Gallimard, Paris 2014 coll. actuel folio
Becker, Howard S. Outsiders: Studies in the Sociology of Deviance. New York: The Free Press.1963
Castells, Manuel .The Power of Identity. Volume 2 of The Information Age: Economy, Society and Culture. Malden, MA: Blackwell 1997
Elijah Andersson, Code of the Street: Decency, Violence, and the Moral Life of the Inner City. New York, 1999