خريف العام 1973، أسابيع قبل حرب أكتوبر، استقبل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، في قصر قرطاج، المنتخب التونسي لكرة القدم، بعد ظفره بالنسخة الثانية من كأس فلسطين للأمم. كانت المسابقة التي اقترحها عام 1972 سعيد السبع، رئيس المجلس الأعلى لرعاية الشباب الفلسطيني، بديلاً لكأس العرب. لكنّ نسخة ذلك العام شكلت بالنسبة لبورقيبة نصراً رمزياً، جعله يحتفي شخصياً بعناصر المنتخب. قبل انعقاد الدورة في طرابلس الغرب، كان الرئيس التونسي قد طرح في 2 جويلية مبادرة جديدة[1] حول الصراع مع إسرائيل تقوم على ثلاثة بنود: «قبول إسرائيل بمبدأ تقسيم فلسطين، وفقاً لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947. وتعيين الحدود بين العرب وإسرائيل، عن طريق المفاوضات. والبند الثالث هو إقامة دولة فلسطينية[2]. تلقت المبادرة، كسابقتها عام 1965، موجة إدانة واسعةٍ من العرب حكوماتٍ وشعوباً. ورسخت مرة أخرى صورة بورقيبة «الانهزامي والساعي وراء التسوية» وربما «العميل». لذلك كان الرجل سعيداً بأن يلتقط الصور مع «فريقه القومي» العائد بكأس «فلسطين» من طرابلس، إحدى العواصم التي يتلقّى فيها الشتائم. وهو ما يزال يقدّم نفسه كصوتٍ شاردٍ عن «القطيع العربي» والمدرك «وحده مصلحة فلسطين». كانت ابتسامته الماكرة وعيناه الزائغتان من وراء نظارته الشمسية تريدان القول أنّ العبرة بالنتيجة، وأنّ السياسة كما كرة القدم «تلعب بالدماغ قبل الأرجل والعضلات». هل كان صائباً؟ ليس هذا السؤال الذي تحاول أن تجيب عنه هذه المقالة. بقدر ما تحاول أن تستكشف العلاقة بين كرة القدم والسياسة في تونس المعاصرة، وربما بشيء من التعميم، التاريخ السياسي للكرة في بلدٍ موزعٍ بين ثلاثة عهود من الحكم: الاستعمار، ودولة الحزب الواحد، وما بعد الثورة.
تنطوي هذه التحولات في أشكال الحكم على تحولات تحتيّة في شكل ممارسة كرة القدم في البلاد، واستخداماتها السياسية والاجتماعية. وفي الوقت نفسه، لا تتأثّر الكرة بالسياسة فحسب بل تؤثر فيها وتدفع نحو تحولها. فهذه العلاقة الديالكتيكية بين كرة القدم والسياسية، ولا سيما السلطة، أساسية لفهم هذا التاريخ المعقّد وغير المدروس بالشكل الكافي. فعلى الرغم من أنّ كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في البلاد، إلا أنّها غالباً ما تواجه الازدراء من جانب النخب الفكريّة. وليس أدلّ على ذلك من أن العلوم الاجتماعية في تونس لم تهتمّ حتى اليوم بها على نحو يغطي شعبية هذه الرياضة وقدرتها التعبوية وتأثيرها العميق في نحت هويات الأفراد والمجموعات السكانية. ورغم هذا الإهمال الأكاديمي الطويل والممتد لكرة القدم كموضوع، إلاّ أنّ السلطة في تونس كانت دائماً واعيةً بقدرة هذه اللعبة على اختراع الهوية وإعادة إنتاجها، وكذلك بقدرتها على أن تكون أداة لبناء علاقات الولاء مع السكان، لكن ضِمن نفس القواعد المؤسسيّة التي تعاملت فيها مع بقية أجنحة المجتمع الثقافية والفنية والاجتماعية والقائمة على السيطرة والتوظيف والمركزية ومحو الحدود بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي. أي أنها باتت جزءاً من «الأجهزة الإيديولوجية للدولة»، كما في نظرية لوي ألتوسير حول «إعادة الإنتاج الاجتماعي»[3]. في المقابل، لم تكن المعارضات المختلفة إيدولوجياً أو زمنياً واعيةً بالقدر الكافي بقدرة كرة القدم على أن تكون جزءاً من ساحة صراعها مع السلطة، بل مجرد «نشاط برجوازي صغير»، أو بحسب الرؤية المحافظة هي «لهو لإفساد الشباب»، وفي أفضل الأحوال، اعتبرت دائماً «أداة إلهاء تعتمدها السلطة لتخدير الجماهير». وهي مواقف، جمعت بين اليمين واليسار، وعبّرت عن انفصال هذه القوى الفعلي عن المجتمع، وإصرارها على تطبيق متخيل إيديولوجي مستورد من الغرب والشرق، لتطبيقه على واقعٍ يبدو معقداً أكثر من أي نصوص نظرية.
غنيمة الحرب واختراع الهوية
منذ بداية كرة القدم في تونس، لم تكن بينها وبين السياسة أيّ فواصل. جاءت الرياضة – الأكثر شعبية – إلى البلاد على ظهر سفن القوات الفرنسية الاستعمارية. فهي على نحو ما، من جملة الأشياء التي شكلت بالنسبة لسكان الإيالة التونسية الحسينية، صدمة الحداثة والاستعمار. لذلك فالكرة، شأنها شأن الكثير من التقنيات والفنون واللغة والأساليب الإدارية والإنتاجية، تشكل إحدى “غنائم الحرب” التي “كسبها” التونسيون من المستعمر. لكنّ النواة الأولى للفرق الرياضية تشكلت من المستوطنين والعمال الفرنسيين. ولذلك، كان وجودها أساساً في العاصمة حيث مركز السلطة، وفي الأحواض الصناعية والمنجميّة التي شكّلها الاستعمار في الجهات، حيث النشاط الإنتاجي و الاستخراجي الأساسي. في عام 1904، ظهر أول فريق لكرة القدم في البلاد تحت اسم «نادي راسينغ تونس». وفي عام 1910، تم تنظيم أول مسابقة رسمية تحت اسم بطولة الدرجة الأولى، شاركت فيها 6 أندية، جميعها من العاصمة تونس. كانت بطولة ينظمها ويلعبها الفرنسيون بشكل رئيسي[4]. أما خارج المركز، فقد تأسست في فرق تضمّ العمّال في الأحواض الصناعية في فيريفيل (منزل بورقيبة حالياً) والحوض المنجمي في قفصة والحوض المنجمي في الكاف. شكّلت هذه المواقع الصناعية الثلاثة الأساس الاستيطاني (إلى جانب الزراعة) للاستعمار الفرنسي، وضمّت عدد هائلاً من الموظفين والمهندسين الأجانب، لذلك كانت هدفاً لإنشاء مساحات ترفيه وأنشطة غير إنتاجيّة رياضيّة وفنيّة لهذه الطبقة. في فيريفيل، تأسس نادي ملعب فيريفيل في عام 1909، وفي عام 1912، النادي الرياضي بفيريفيل. أما في الحوض المنجمي بقفصة، فقد ظهر منذ عام 1919 نادي «Com-Phos»، وهو اختصار لاسم شركة الفوسفات. لكن تمّ تحريف اسمه من قبل السكّان المحليّين، لدواعي سهولة الاستعمال ليصبح «نادي الخنفوس». وقبل ذلك تأسس في منطقة الكاف، وهي إحدى الأحواض المنجمية، نادي الكاف الفرنسي عام 1914.
ستشكّل الحرب العالميّة الأولى فاصلةً أساسيّة في تاريخ الوعي بالهوية في تونس وفي تاريخ كرة القدم. في الظاهر، لا تبدو الروابط بين المسألتين متينةً. ولكن في العمق نجد علاقةً جدليةً تجلّت في ظهور شبه متزامنٍ لنوادي كرة القدم التي تضمّ سكاناً محليين مسلمين. أنهت الحرب آخر آمال بعض التونسيين في انتصار الدولة العثمانية، وأنهت الرابط الروحي بينهم وبين الخلافة الإسلامية. وفي الوقت نفسه، بدأ قطاع نخبوي من سكّان الإيالة الحسينية يعبّر عن هوية وطنية تونسية ليست بالضرورة متّصلةً بالهوية الإسلامية الواسعة، ومحددةً ضمن إطار جغرافي يفصلها عن بقية جيرانها، لا سيما بعد التسليم بمصير الجزائر الفرنسية واحتلال ليبيا من طرف إيطاليا. بدأ ذلك التيار في التبلور مع حركة الشباب التونسي ثم تأكّد على نحو واضح مع بروز «المسألة التونسية» وتشكّل «الحزب الحرّ الدستوري» بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتحديدا سنة 1920 ثم «جامعة عموم العملة التونسية»، بوصفها أول تنظيم نقابي تونسي. كان ظهور نوادٍ مثل الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي والنادي الصفاقسي (وكان اسمه النادي التونسي) والنجم الساحلي، تعبيراً عن هذه «الكيانية التونسية الجديدة»، وتعبيراً في الوقت نفسه عن تضادٍ اجتماعي مع النوادي الفرنسية. ورغم سيطرة الإدارة الاستعمارية على الهياكل الرياضية في البلاد، بما في ذلك الرابطة التونسية لكرة القدم، التي كانت حتى الاستقلال مجرّد فرعٍ للاتحاد الفرنسي لكرة القدم[5]، إلا أنّ اللاعبين التونسيين فرضوا منذ عام 1928 تشكيل منتخب قومي غير رسمي، والذي رغم هزائمه أمام نظيره الفرنسي، شكّل وجوده في حدّ ذاته نوعاً من المقاومة الرمزية ضد إرادة المحو الاستعماري لهوية السكان المحليين. وبذلك تتحول هذه الغنيمة إلى إحدى الأدوات الرمزية لاختراع الهويّة الوطنيّة وترسيخها. ثمّ تطورت النوادي التونسية على نحو واسع، وضمّت في صفوفها قطاعاتٍ من البرجوازية الصغيرة والنخب الاستقلالية ذات التعليم الحديث، مثل الشاذلي زويتن، والحبيب بورقيبة والبشير بن مصطفى.
بعد الثورة تفرقت الأندية إلى أيدٍ كثيرةٍ من أصحاب الأعمال التائقين إلى السلطة
كُرة بين عهدين
لم يكن الاستقلال سوى مواصلة في دور كرة القدم كمنتج للهوية. لكنّ أيديولوجيا دولة ما بعد الاستقلال، والتي صاغها الرئيس بورقيبة على نموذج الدولة القومية الأوروبية، كانت قائمةً على أساس تمايز «الأمّة التونسية» عن بقية الأمم، أي أنها ليست مجرد شعبٍ تونسي من ضمن شعوب عربية وإسلامية، بل «أمّة متفردة بذاتها لا شرقية ولا غربية». صنعها بورقيبة بنفسه من «غبار أفرادٍ متعدد الروافد». لذلك حمل المنتخب التونسي منذ الاستقلال اسم «الفريق القومي»، في تضادّ واضحٍ مع مفهوم القومية السائدة حينذاك عربياً. فالقوميّة عند بورقيبة، لم تكن كما عند الناصرية والبعث عربيةً، أي عرقيةً على نحو ما، بل تونسية بالمعنى الفرنسي لمصطلح القومية. وبذلك لم تكن كرة القدم وحدها غنيمة الحرب، بل نموذج الدولة القومية الفرنسي أيضاً، حيث سارت الحركة الوطنية، ولاسيما منذ أن تسلّم بورقيبة قيادتها في مارس 1934، على نموذج للتخلص من الاستعمار مستورد من المستعمر نفسه. فقد شكلت مقولة «الأمّة التونسية» إلى جانب «التحديث الاستبدادي»، ركيزتيْ إيديولوجيا بورقيبة «الوضعية» للحكم على مدى ثلاثة عقود.
أما على مستوى النوادي، فقد خضعت كرة القدم، شأنها شأن سائر مجالات المجتمع إلى سيطرة سلطة نظام الحزب الواحد. في أعقاب الاستقلال، توجّهت جميع الأندية إلى «تونسة» فرقها الرياضية وانضوتْ تحت الجامعة التونسية لكرة القدم، التي تأسست عام 1957، وشكلت إحدى علامات السيادة للدولة الجديدة. لم يكن التدخل بين النوادي الرياضية والسلطة ممثلةً في الحزب الحاكم واضحاً، كما كان الشأن بالنسبة للمنظمات الشعبيّة كالنقابات العمالية والطلابية والاتحادات المهنية، ولكن سيطرة الحزب كانت تتجلى في وجود أفرادٍ من النخبة الحاكمة على رأس هذه النوادي وكذلك على رأس الجامعة. فقد شغل رئاستها قيادات بارزة من الحزب أصبحوا فيما بعد وزراء وفي مواقع متقدمة من السلطة مثل محمد مزالي وعبد الحميد الشيخ وفؤاد المبزع وفتحي زهير. وعلى مدى الستينيّات والسبعينيّات، شكّلت الرياضة عموماً، وكرة القدم على وجه الخصوص، جزءاً من الخطاب الرسمي للنظام بوصفها أداة تعبئة وطنية وكذلك وسيلة لتربية الأمة وتثقيفها صحياً وأخلاقياً، وقد شارك بورقيبة نفسه في بثّ هذا الخطاب وكان أحد رموزه محمد مزالي، وزير الدفاع والتربية، ثم الوزير الأول لاحقاً. كان مزالي الشخصية السياسية الأكثر التصاقاً بالرياضة في البلاد، فهو الذي أسّس الإدارة العامة للشباب والرياضة عام 1959، والتي ستتحول بعد سنواتٍ إلى وزارة. كما ترأس اللجنة الوطنية الأولمبية التونسية بين 1962 و1986 والجامعة التونسية لكرة القدم بين 1962 و1963، كما شغل بين 1976 و1980 منصب نائب رئيس اللجنة الأولمبية الدولية التي تمتع بعضويتها مدى الحياة. وقد أسعفته قدراته الرياضية في عام 1986 على الفرار من البلاد عبر الجبال على الحدود الغربية مع الجزائر، حين أوشك خصومه داخل النظام على ملاحقته قضائيّا بعد إسقاطه سياسيّا. كان دور مزالي بين 1959 و1964، والذي كلفه به بورقيبة شخصياً، هو توظيف الرياضة للتحكم في فئة الشباب. حيث شكلت كرة القدم حينذاك جزءاً أساسياً من نشاطات الشبيبة المدرسية، أحد الأذرع القوية لنظام المراقبة والسيطرة الوليد في البلاد.
وقد ظهر في عام 1971، على نحو واضح، ثقل كرة القدم في الصراع السياسي. كانت البلاد قد خرجت لتوّها من تجربة التعاضد[6]، والتي خلفت انقساماً عمودياً في معسكر النظام، وتركت ندوباً في شخصيّة الرئيس ومرضاً مزمناً لم يفارقه حتى وفاته. لكن هذه التجربة رسّخت صراع الخطّين داخل الحزب، والذي كان مداره من يفوز بخلافة الرئيس. رحل بورقيبة إلى سويسرا في رحلة علاج طويلةٍ، فيما انقسم الحزب إلى جناح يسمّي نفسه بالليبرالي يضم القيادات الحزبية المنحدرة من العاصمة، كأحمد المستيري والباجي قائد السبسي وراضية الحداد وحسيب بن عمار، في مواجهة جناح يضم القيادات المنحدرة من منطقة الساحل بقيادة الوزير الأول الهادي نويرة. كان الصراع سياسياً ذا بعد جهوي واضح. وفي سياق هذا الصراع، جرت أعمال عنفٍ في مباراة نهائي كأس تونس عام 1971، والتي جمعت بين الترجي الرياضي والنادي الصفاقسي. وطالت عمليات الرمي والهتافات رئيس الوزراء ووزير الرياضة الذي كان في منصة الملعب. فقرر نويرة في 15 جوان، بإلحاح من وزير الشباب والرياضة الطاهر بلخوجة، حلّ جمعية الترجي وإجبار رئيسها علي الزواوي على الاستقالة وحلّ المكتب الجامعي. دفعت هذه الواقعة غير المسبوقة، جماهير الفريق، ونخبه إلى حالة احتجاج واسعة، أجبرت بورقيبة على العودة إلى البلاد في 19 جوان لإدارة الأزمة. ثم ظهر لاحقاً في خطاب عامٍ مخصصٍ للمسألة أعلن فيه تراجع الحكومة عن حلّ الفريق. فقد كان الرجل لا يخفي انحيازه للترجّي منذ كان أحد سكّان باب سويقة قبل الاستقلال. لكن الحادثة كشفت أيضاً عن قوة الطابع الشخصي للنظام السياسي في ذلك الوقت.
وقد ظهرت ذروة نجاحات نهج التوظيف والهيمنة في ترشّح المنتخب التونسي إلى كأس عام 1978 في الأرجنتين. كانت رمزية المكان حينذاك طاغيةً على المستوى العالمي. فقد أثار تنظيم الكأس في الأرجنتين في ظل النظام العسكري الذي يقوده الجنرال رئيس الأركان خورخي رافائيل فيديلا ريدوندو، بعد الانقلاب العسكري في مارس 1976 والإطاحة بحكم الرئيسة إيزابيل بيرون، بدعم قوي من الولايات المتحدة الأمريكية، انتقادات واسعة في العالم. إذ نظّم فيديلا قبل بداية المنافسات حملة قمع مديدة ضد المعارضة الديمقراطية، لا سيما اليسارية، تميّزت بالتعذيب الجسدي والإخفاء القسري والقتل خارج القانون.
ورغم أهمية هذا الجدل العالمي، فإنه بقي عموما غائبا عن الصحافة التونسية، حيث كانت أخبارها تتمحور حول «معجزة» الترشح التونسية التي لم يصنعها اللاعبون وحدهم بل «المجاهد الأكبر» أيضاً. كان ذلك موقفاً مفهوماً في دولة قد أعطت قبل سنوات قليلة رئيسها الحكم «مدى الحياة».
كان العام 1978 الذروة، ولكنه أيضاً بداية الانحدار. في العام نفسه، فقد النظام ذراعه النقابية الاتحاد العام التونسي للشغل، لتتحول النقابة إلى معسكر المعارضة. كان ذلك الحدث –رغم دوافعه السياسية الداخلية الدائرة حول حرب خلافة الرئيس– تجلياً واضحاً لنتائج سياسة الانفتاح الاقتصادي أو ما يمكن أن نسميها تجاوزاً بــ «الليبرالية المنظمة» (Ordoliberalism)، التي قادها الوزير الأول الهادي نويرة. وقد ظهرت آثار الانفتاح بشكل أوضح في الثمانينات، التي كانت عقد الأزمة متعددة الجوانب. ورغم الأزمة الاقتصادية التي عاشتها البلاد، واصل النظام في مسار تمكين البرجوازية الجديدة التي تشكّلت في السبعينات ضمن نموذج «رأسمالية المحاسيب»، الذي يقوم على علاقة وطيدة بين السلطة والفاعلين الاقتصاديين، من خلال الامتيازات الضريبية والتشريعية والحدّ من المنافسة عبر الاحتكارية. وكان أفراد هذه البرجوازية في الأصل موظفين في المراكز العليا للدولة، خرجوا من البيروقراطية نحو عالم الأعمال. كانت هذه الفئة الصاعدة تحتاج مزيداً من التمكين الاجتماعي، فوجدته في الأندية الرياضية الكبرى في العاصمة والمدن الرئيسية. يبرز حمادي بوصبيع كمثال نموذجي. الرجل الذي كان جزءاً من البرجوازية البيروقراطية منذ ولادة دولة الاستقلال، موظفاً في البنك المركزي، خرج في نهاية السبعينات نحو العمل الحرّ، مساهماً ومديراً للشركة التونسية للجعة والتبريد، التي تمت خصخصتها عام 1979 وبيعها للمجموعة الصناعية الفرنسية «كاستال». كان وجود بوصبيع بالنسبة للمجموعة الفرنسية حاجزًا قويّا أمام دخول أيّ منافسين إلى سوق صناعة الجعة والمشروبات في البلاد. فالرجل صاحب النفوذ القوي داخل المؤسسات الحاكمة اقتصاديًا في الدولة، ليس فقط مجرد مدير لأنشطة الشركة وإنما سدّ يمنع وجود شركات أخرى داخل السوق. كان موقع بوصبيع القويّ على رأس شركة تدير عشرات الماركات من المشروبات مناسبًا كي يتحوّل في ظرف وجيز إلى أكبر مساهم في تمويل النادي الإفريقي من خلال منح عقود الإعلان للفريق على نحو شبه حصري على مدى أربعة عقود. لكنه في عام 1988 تقدم إلى الضوء ممسكًا قيادة النادي رسميًا لأول مرة[7]. أمّا النموذج الثاني لهذه الظاهرة فهو فريد مختار، الذي كان يدير الشركة التونسية لصناعات الألبان، ثم تحول إلى العمل الحرّ، لتتطوّر أعماله بفضل مصاهرته لرئيس الوزراء محمد مزالي. شغل مختار رئاسة النادي الإفريقي مرتين، من 1977 إلى 1980 ومن 1981 حتى وفاته عام 1986، في ظروف غامضة، في سياق صراع أجنحة الحكم. أما النموذج الثالث للظاهرة، فقد تبلور في عهد زين العابدين بن علي بعد 1987، من خلال سليم شيبوب، صهر الرئيس ورجل الأعمال، الذي سيطر على إدارة الترجي الرياضي حوالي خمسة عشر عاماً. ينتمي شيبوب أيضا إلى فئة برجوازية المحاسيب، التي راكمتْ ثروتها من خلال التشبيك مع السلطة والعناصر البيروقراطية في تسلسلها الهرمي. لكنه أضاف إلى تلك الخصال، ميزة مصاهرة الرئيس، فكان أحد رموز سيطرة العائلة على الدولة منذ منتصف التسعينات.
راهنت هذه النماذج الثلاثة – والتي تطورت لتشمل قطاعاً واسعاً من أصحاب الأعمال – على قدرة كرة القدم ولاسيما الأندية الكبرى على إنتاج نفوذ شخصي في المجتمع والسلطة. لكنها عكست أيضاً درجة التحول النيوليبرالي لكرة القدم من سيطرة الدولة إلى سيطرة أصحاب الأعمال. وقد ترافق ذلك مع تحوّل عالميّ للكرة من مجرّد لعبة إلى قطاع يدرّ أرباحًا خيالية على أصحابه. في جانب آخر، واصل نظام زين العابدين بن عليّ توظيف الرياضة عموما وكرة القدم بالأخصّ كمرآة تعكس المعجزة الاقتصادية التونسية التي شرع في الترويج لها منذ منتصف التسعينات. وقد تمّ ذلك من خلال تنظيم التظاهرات الكروية الكبرى بداية من كأس إفريقيا للأمم عام 1994، ثم الألعاب المتوسطية عام 2001، وكأس إفريقيا للأمم عام 2004. وعليه، تمّ تصوير فوز المنتخب التونسي بالكأس الأفريقية عام 2004 إلى أحد «إنجازات صانع التحول المبارك في السابع من نوفمبر»[8]. وقد شكّلت هذه الفواصل الثلاثة علامات نجاحٍ اقتصادي للنظام، وبرهان استقرارٍ له. لكن وراء هذه المعجزة المتخيلة كانت الطبقات الوسطى والشعبية تفقد تماسكها يوماً بعد آخر، لاسيما منذ بداية الألفية الثالثة. وكانت مدارج الملاعب انعاكساً صادقاً للصراع الطبقي الدائر في قاع المجتمع. فقد أصبحت المساحة الأخيرة للناس لكي تعبر عن سخطها على أوضاعها من خلال الهتاف وعروض التيفو والشعارات واللافتات والتخريب والعنف المتبادل مع الأجهزة الأمنية. واللافت أن هذه المساحة كانت علنية وشائعةً من خلال البث التلفزيوني للمباريات.
كان دور محمد مزالي بين 1959 و1964 توظيف الرياضة للتحكم في فئة الشباب
الاستعصاء الديمقراطي
بعد الثورة لم تعدْ السلطة – كمؤسّسة – مهتمّةً بالسيطرة على كرة القدم. لكن الفاعلين السياسيين والاقتصاديين حافظوا على اهتمام كبير باللعبة الشعبيّة لخدمة مصالحهم السياسيّة والرأسماليّة. وكما كان المجتمع المدني قبل الثورة مجمعاً بيد النظام وطبقته المهيمنة، تفرقت أندية كرة القدم إلى أيدٍ كثيرةٍ من أصحاب الأعمال، الذين يتوق كثير منهم للسلطة. فقد شكلت القواعد الجماهيرية للنوادي الرياضية طريدةً مغرية لهؤلاء لتحويلها إلى قواعد انتخابية. جرى ذلك خلال السنوات الأولى للثورة في ظلّ صراعٍ متفاقم بين فئات البرجوازية. فئة صاعدة استفادت من وصول حركة النهضة إلى السلطة، وفئة عائدة إلى الساحة بعد سنواتٍ من الكمون بسبب سيطرة النموذج العائلي خلال سنوات بن علي الأخيرة، وقد استفادت من عودة الباجي قائد السبسي إلى السلطة، وفئة ثالثة تحاول أن تحافظ على مواقعها رغم سقوط رأس النظام الذي كان يحميها. وهو ما يفسره مهدي عامل بالقول إن «وعي الطبقات البرجوازية غير المهيمنة في تطلّعها لشرعنة الوصول إلى مراكز الهيمنة التي تشغلها أجزاء أخرى من البرجوازية، الذي يزداد إلى مستوى يتم من خلاله تحديد موقعها من المجال السياسي والاقتصادي. هذا الجزء من البرجوازية غير المهيمن يريد إنهاء جزء من الهيمنة دون أن يزيل كامل الهيمنة البرجوازية»[9]. ضمن هذا الصراع، صعدت شخصيات تجمع بين المال والسياسة والبحث عن النفوذ، إلى قيادة نوادٍ رياضية كبرى مثل مهدي بن غربية وسليم الرياحي ورضا شرف الدين، أو اقتربوا كثيرا منها مثل شفيق الجراية. وكذلك الشأن في النوادي الصغيرة في المدن الداخلية، حيث شهدنا صعوداً لنموذج صاحب الأعمال المحلي رئيساً للجمعية، الذي يضمن بفضل أمواله صعودا سريعا لها للرابطة الأولى. كما أصبح وديع الجريء، مستفيداً من هذا الصراع، رئيساً للجامعة التونسية لكرة القدم منذ 2012 إلى 2023. نجح الجريء في توظيف جذوره المناطقية ليكسب ولاء عدد كبير من جمعيّات المدن الداخلية، ما جعله قادراً على حيازة أغلبيّةٍ عدديّة لقيادة الجامعة. ثم نجح من خلال موقعه في إدامة بقائه في المنصب بفضل إعادة توزيع المزايا المالية والمعنوية على الجمعيات.
جعل هذا الوضع كرة القدم مجالاً للمنافسة الرأسمالية السياسية، وهو تجلٍّ لخصخصة اللعبة. بعد أن كانت مجالاً لإنتاج الهوية والولاء وإعادة إنتاجهما. لذلك كانت مسألة دمقرطة إدارة الفرق الرياضية والهياكل الرياضية المشرفة على اللعبة شبه مستحيلةٍ. لأنّ اللعبة تحولت إلى قطاع لإنتاج النفوذ، وبالتالي أصبحت خاضعةً لقوانين السوق بما يكاد يخرجها من مجال المجتمع المدني. وبالتالي، أصبح تطبيق قواعد الديمقراطية عليها (شفافية الإدارة، التداول على الرئاسة، حقّ القواعد في انتخاب القيادة ومشاركتها في القرارات الكبرى، إلخ..) متعذراً، لأنّ السلطة ستكون في أيدي من يملك الكثير من المال والنفوذ. وهذا الاستعصاء الديمقراطي لا يتعلّق بالحالة التونسية فحسب، بل هو نموذج عالمي لإدارة كرة القدم، بعد أن تحولت إلى نشاط رأسمالي، من أكثر الأنشطة الرأسمالية الطفيلية مراكمةً للأرباح. فقد أصبحت رياضةً تحظى بتغطية إعلاميّة كبيرة ومعولمة، وتتّجه نحوها تدفقات مالية كبيرة تجذب بشكل متزايد مليارديرات الكوكب، بحثًا عن اعتراف إضافي واستثمارات مثيرة. وحتى لو كان تطور كرة القدم مرتبطا، منذ البداية، باعتبارات تجارية، فإنها تحتضن الآن أسوأ إخفاقات الليبرالية المتطرفة. لكنّ ما يميز الحالة التونسية هو محافظتها على الطابع المركزي لهذا النشاط. فقد بدأت كرة القدم في نسختها الإستعمارية مركزيةً وتواصلت في عهد بورقيبة وبن علي على النمط نفسه وما زالت كذلك. ذلك أن خريطة كرة القدم في تونس هي ذاتها خريطة الثروة مخّتلة التوزيع بين مراكز البلاد وهوامشها.
لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
لقراءة وتحميل الملف بصيغة PDF
[1] « Documents and Source Material : Arab Documents on Palestine June 1-September 1, 1973 ». Journal of Palestine Studies.
[2] أحمد نظيف – «غضب في شرق الأردن»: لماذا حاول الملك حسين اغتيال بورقيبة؟ – حقائق أون لاين 17 – 12 – 2017
[3] Louis ALTHUSSER, “Idéologie et appareils idéologiques d’État. (Notes pour une recherche).” Article originalement publié dans la revue La Pensée, no 151, juin 1970
[4] Ali Langar, Myriam Baron et Claude Grasland, « Les territoires du football en Tunisie (1906-2015) », EchoGéo [En ligne], Sur le Vif, mis en ligne le 11 décembre 2018, consulté le 16 juin 2024.
[5] Khélil Chaïbi, Les Gloires du Club Africain, Tunis, Ulysse éditions, 2009, p. 27
[6] ياسين النابلي، أحمد بن صالح وتجربة التعاضد: السّير الأعرج وراء مزمار بورقيبة، نُشر بالعدد 19 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الاقتصاد التضامني والاجتماعي بين زمنين.
[7] أحمد نظيف – حمادي بوصبيع.. رجل وُلِد مرتين – خط 30، 16 فيفري 2023
[8] Driss Abbassi, Sport et usages politiques du passé dans la Tunisie des débuts du XXIe siècle, La revue Politique et Sociétés Volume 26, numéro 2-3, 2007, p. 125–142
[9] مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثالثة 2003، ص 339.