بعد الجزء الأول الذي حمل عنوان "بين مبدأ الشرعنة والتفكك الاجتماعي" ننشر الجزء الثاني من الورقة البحثية للأستاذ نزار حريري حول السياسة النقدية في لبنان من منظور الانتفاضة.
حتى وقت قريب، ساهم النجاح النسبي للبنك المركزي في تحقيق أهدافه في تكوين رأسمال استئماني (مجموع الودائع لدى مصرف لبنان) يوضع في خدمة سياسات رياض سلامة، بما يسمح للبنك بإدارة أدوات السياسة النقدية بشكل مستقل.
ليس مبدأ استقلالية البنك المركزي بحد نفسه موضع البحث هنا، بل وسائل إضفاء الشرعية على هذا النمط من الحكم من خلال الإدّعاء بنجاح السياسة النقدية التي تؤدّي وظيفتها بالكامل، أي هدفها النهائي ألا وهو استقرار قيمة النقد.
وبالتالي، فإنّ نموذج الحوكمة هذا لا يستخلص شرعيته من وسائل التخاطب في مساحات النقاش العام الهادف إلى إنتاج معايير مشتركة، بل على العكس. فهذا النموذج يحصل على شرعيته الخاصة من خلال وظائفه التي تجد شرعيتها وفقاً لمعايير نجاح السياسة النقدية أو فشلها وهو مبدأ الإندماج الوظيفي الذي تؤدّي فيه النقود دور الوسيط والاستقرار النقدي دور الهدف الأسمى.
ماذا يعني التفكك الحالي للنظام النقدي والمالي في لبنان؟
للإجابة على هذا السؤال، نقدّم أولاً المبادئ الأساسية للسياسة النقدية كما كانت سائدة منذ الاستقلال ثم نعرض آثارها على شروط تمويل الاقتصاد الحقيقي في سنوات ما بعد الحرب.
3- السياسة النقدية كمبدأ شرعنة للاندماج النظامي
هذه الوظيفة الاندماجية للعملة الوطنية لا تعود إلى فترة ما بعد الحرب ولكنها جزء من التاريخ الطويل لتشكيل الهوية الاقتصادية للبلاد. إذ لطالما كان التحدّي الأوّل لمسارات النموّ والتنمية متمثّلاً في قدرة النظام على استقطاب رأس المال الأجنبي ولطالما كان نجاح هذا الرهان حجر الأساس لتبرير نظام التراكم وآليّات تنظيمه.
لا شك أنّ الثروات والأموال الفلسطينية والأرمنية أدّت دوراً هاماً في العقود الأولى من تأسيس الجمهورية اللبنانية حيث استدرجت رؤوس أموال إضافية لتمويل الإقتصاد اللبناني ومن ثم رؤوس الأموال العربية الهاربة من حملات التأميم وانعدام الاستقرار السياسي والنقدي في موطنها الأم، وذلك حتى بداية حرب لبنان عام 1975. ولا شك أيضاً أنّ الحروب المتلاحقة أنتجت مكاسب مالية هائلة لتمويل الاقتصاد، وذلك من خلال تجارة الحرب نفسها، ومن جرّاء ارتفاع التدفّقات الخارجية والتحويلات الصافية. أخيراً، في فترة ما بعد الحرب، هدفت سياسات مصرف لبنان وسياسات الفائدة السخيّة جداً إلى استقطاب الرساميل والتحويلات والودائع من الخارج في محاولة لتمويل الاستهلاك المحلي من خلال مدّخرات باقي العالم.
في عام 1948 أصدرت الحكومة اللبنانية مرسوماً يسمح بالتعامل بالعملات الأجنبية وخفّف بشكل رسمي معظم الضوابط والقيود على أسواق الصرف. في عام 1950 تم إنشاء الليرة اللبنانية القابلة للتحويل بحرية، وترك لبنان اتحاده الجمركي مع سوريا لتصبح سياسة الليرة القويّة القائمة على تراكم مذهل لاحتياطيات الذهب، رمزاً قوياً للاندماج الوطني في دولة تقاس فيها مسارات النمو والتنمية بنجاح سياساتها النقدية. في عام 1956، صدر قانون السرّية المصرفية لتسهيل صعود بيروت كمركز مالي للشرق الأوسط، واستيعاب التدفقات الكبيرة من العملات الأجنبية. وجاء قانون 20 حزيران/يونيو 1961 ليضفي طابعاً رسمياً على امتيازات القطاع المصرفي من خلال إزالة أي رقابة ضرائبية على أنشطة المصارف.
هكذا يبدو أنّ استقلال السياسة النقدية أولاً من خلال انفصالها عن سوريا عن طريق إنشاء مصرف لبنان ومن ثم من خلال فصل أهدافها عن أهداف الاقتصاد الحقيقي كمحاربة الكساد أو تحفيز القطاعات الإنتاجية هو المبدأ الأساسي لإستمرارية نظام التراكم الذي ساد طوال عقود من الزمن إبّان الحرب أو مابعدها، ليضمن مبدأ الإستقلال الذاتي للسياسة النقدية، استقرار النظام الإقتصادي بأجمعه. وهكذا يبدو أن استقلال السياسة النقدية يسير جنباً إلى جنب مع مبدأ الاستقلال الوطني والسيادة ليرسما معاً مسار ارتباط فعلي[1] (Trajectoire de dépendance / path dependency ).
حتى خلال سنوات الحرب تم التعويض عن التفكك التدريجي لمؤسسات الدولة اللبنانية من خلال القوّة الموحّدة للعملة الوطنية التي شكّلت قوّة التماسك الأساسية في مواجهة تجزئة الوطن.
أما في فترة ما بعد الحرب فقد كان عجز النظام الديمقراطي التوافقي عن إنتاج تفاهم معياري على المستوى الجماعي عائقاً في وجه كل محاولات الاندماج الأفقي في مساحات التخاطب العام وعطّل آليات الاعتراف المتبادل الذي، وحده، يسمح بتخطّي الذاكرات المجتزأة والمغلقة على نفسها باتجاه إنتاج فهم جماعي مشترك.
وهنا أيضاً استعيض عن هذا الانصهار الجماعي في الذاكرة المشتركة والاندماج الاجتماعي بآليات الدمج العمودي – الوظيفي في أنظمة المال والنقد، حيث شكّل استقرار الليرة في تسعينيات القرن الماضي المؤسسة الوطنية بإمتياز والمصالحة الفعلية الوحيدة لإعادة الاستقرار لإقتصاد ما بعد الحرب.
4- العقيدة المحافظة للسياسة النقدية
إذا كان علينا أن نلخّص السياسة النقدية بعد الحرب، فيمكننا اختزالها بنموذج من الاستقلال النقدي أو الحكم الذاتي الذي تم الدفاع عنه والحفاظ عليه، في القيم والممارسات، خلال 3 عقود من حكم رياض سلامة على الرغم من تغيير الحكومات المتعاقبة وتقلّبات موازين القوى السياسية.
المفارقة إذاً هي أنّ المصرف المركزي كان قادراً على إملاء أهداف السياسة النقدية وأدواتها بالطريقة الأكثر انسيابية من خلال تعميمات ذاتية التشريع في بلد تخضع فيه القرارات الإدارية البسيطة عموماً لمفاوضات مرهقة وترتيبات سياسية طويلة الأجل مع ما يترتّب على ذلك من مساومات ومقايضات بين النخب الاقتصادية والقادة السياسيين والأحزاب المذهبية، إلخ.
وبالتالي، يُفهم مبدأ استقلال السياسة النقدية وفقاً للمبادئ المحافظة أو التقليدية لما يُعرف بـالأرثوذكسية النيو–كلاسيكية وفي الوقت عينه من منظور أنّ البنك المركزي في لبنان يؤدّي دور المؤسسة الوطنية التوافقية بإمتياز التي تعمد إلى تنسيق الخلافات السياسية بين مختلف الجماعات والقوى المتنافسة وإلى إضفاء الشرعية النهائية على تدابيرها ومقرراتها ومحاصصاتها.
أما العقائد الثلاثة التي تحكم هذه السياسة النقدية بعد الحرب فهي:
أولاً: التضخّم هو بطبيعته سيئ ويجب محاربته وهو الهدف الأساسي والنهائي للسياسة النقدية.
يتحقق هذا الهدف المتمثّل في استقرار قيمة العملة بشكل رئيسي من خلال الربط الإسمي لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، في بلد يمكن أن تصل فيه الواردات إلى 40% من الناتج المحلّي القائم
على سبيل المثال، بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005 أو حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 ، دافع المصرف المركزي عن سعر صرف الليرة فانخفضت معدلات التضخم ليدخل الاقتصاد اللبناني مرحلة إنخفاض في الأسعار بعد سنة 2011.
مع اغتيال الحريري، زادت الفروقات على سندات اليوروبوندز بنحو 90 نقطة أساس لترتفع إلى أكثر من 400 نقطة أساس وخرج من البلاد حوالي ملياري دولار من الودائع أي 3.5% من مجمل الودائع في وقتها بينما ارتفعت الدولرة في الودائع المصرفية من 69% إلى أكثر من 78%. وخسر مصرف لبنان 1.5 مليار دولار أميركي من احتياطياته بالعملات الأجنبية للدفاع عن سعر الصرف.
تكرر النمط نفسه عام 2006 ، لكن السياسة النقدية لمصرف لبنان نفسه لم يتم التشكيك فيها على الإطلاق[2]
ثانياً تخدم السياسة النقدية بشكل رئيسي الأهداف النقدية والمصرفية ولكن ليس أهداف الاقتصاد الحقيقي أي البطالة والنمو وما إلى ذلك
على هذا النحو، فهي تبقى حكماً مستقلة عن موازنة الدولة أو سياستها المالية. على سبيل المثال، تحافظ السياسة النقدية على استقرار النظام المصرفي والنقدي، لكنها لا تتدخل بشكل مباشر في تمويل الاقتصاد الحقيقي أي تخصيص المدخرات للاستثمار ولا تدعي الارتباط بأهداف السياسات الحكومية المتعلّقة بأسواق السلع والخدمات أو أسواق العمل، من تحفيز للقطاعات الإنتاجية أو دعم للصادرات أو تحسين لكفاءة المنتجات الوطنية.
ثالثاً – من المبدأين الأوّلين، يتبع الثالث: لا توجد آليات تحكيم أو إمكانيات للإختيار بين التضخم والبطالة، وبالتالي لا يوجد تحكيم ممكن أو ضروري بين الاثنين.
وبالتالي فإن السياسة النقدية قانعة بالسعي لتحقيق هدف نهائي ليس سوى استقرار العملة، وتتشابك جميع الأهداف الوسيطة في السعي لتحقيق هذا الهدف النهائي.
من المغالطة إذاً أن نعتبر أن القروض المدعومة من مصرف لبنان للزراعة أو الصناعة أو الإسكان هي استثناء للمبادئ الثلاثة بل يمكن النظر إلى هذه البرامج على أنها تأكيد نسبي على صحة هذه المبادئ وتوصيفاً لقواعدها العامة.
يشكل إنشاء برنامج "كفالات" لتشجيع القروض أو التعميم رقم 331 الصادر في آب/أغسطس 2013 توصيفَين نموذجيين لهذا الانفصال بين السياسة النقدية والسياسة المالية للحكومة. فيوفّر التعميم التمويل للشركات الناشئة التكنولوجية والرقمية، ويقدّم مشروع "كفالات" القروض والاستثمارات المضمونة للشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال تأمين وسائل تمويل خاصة عبر المصارف التجارية لمشاريع استثمارية كانت ستستبعد لولا ذلك من قناة الائتمان.
ولكن إجراءات التمويل هذه لا تشكل بأي حال من الأحوال تدخّلات لتحفيز مستوى النشاط في القطاعات الإنتاجية بمعنى أنّ أدوات السياسة النقدية لا تهدف هنا إلى تنشيط دورات الأعمال، الأمر الذي كان ليتعارض مع المبدأين الأولين. بل على العكس من ذلك، ترتبط هذه الإجراءات التمويلية بمحاولة للتعويض عن آثار السياسة الإئتمانية ذات الفوائد المرتفعة التي تقوم تلقائياً بإقصاء النسبة الأكبر من المشاريع الخاصة بالإضافة إلى عوامل الطرد التي تمارسها الديون السيادية والتي من شأنها إقصاء القطاع الخاص وتقنين وسائل التمويل في أسواق رؤوس الأموال.
وعوضاً عن النظر إلى القروض المدعومة من مصرف لبنان على أنها تدخلات داعمة للنشاط الاقتصادي أو لتمويل القطاعات الإنتاجية، يصحّ اعتبارها تجلّيات واضحة وصريحة لسياسة التقنين الائتماني الذي يهدف إلى حصر التمويل للمشاريع الخاصة وغربلة المقترضين بما يتلاءم مع أرباح القطاع المصرفي.
على أي حال، بسبب وزنها الهامشي في تمويل الاقتصاد الحقيقي لا تؤدّي هذه التدابير دوراً على مستوى آليات تخصيص المدخرات للاستثمارات على عكس القروض السكنية التي، من ناحيتها، ساهمت بشكل كبير بدعم الأسواق العقارية والمضاربات في مشاريع البناء، لما تشكله هذه القطاعات من نشاطات حيوية للقطاع المصرفي.
وبالفعل يضع التعميم رقم 331، 400 مليون دولار في خدمة الشركات الناشئة التكنولوجية والرقمية، لكن مصرف لبنان لم ينشر يوماً أيّة معلومات حول المبلغ المخصّص فعلياً للقطاع، ولا حوّل عائدات هذه الاستثمارات.
من جانبها، انخفضت القروض الممنوحة من "كفالات" بشكل دراماتيكي منذ ركود مستوى النشاط في عام 2017 ليكون مجموع القروض المدعومة في عام 2019 أقلّ من 6 ملايين دولار أي ما لا يزيد عن %6 من مستوى التمويل الذي كان البرنامج يقدّمه عامي 2016 و2015.
قيمة القروض (بالليرة اللبنانية)
|
عدد المشاريع
|
الفترة
|
57,389,860,500
|
310
|
الربع الأول 2017
|
43,384,063,245
|
234
|
الربع الثاني 2017 2017
|
43,397,971,388
|
223
|
الربع الأول 2018 2018
|
18,189,933,000
|
90
|
الربع الثاني 2018 2018
|
6,485,706,698
|
36
|
الربع الأول 2019 2019
|
2,174,568,750
|
15
|
الربع الثاني 2019 2019
|
الجدول 1 – قروض "كفالات" في آخر ستّة فصول. المصدر: "كفالات"، إحصاءات القروض، 2020.[3]
وبالتالي تتبع هذه البرامج التمويلية أغراض التقنين الإئتماني لأنّها لا تهدف إلى إحداث تأثيرات عكسية على دورات الأعمال وإنما تتبع أشكالاً موازية لدورات الائتمان وسياسات التقشّف التي تزداد حدّتها بعد عام 2016. (contra-cyclique / countercyclical، pro-cyclique / procyclical). ففي هذا السياق يبدأ مصرف لبنان هندسته المالية التي تقضي بإقراض الدولة بمعدلات فائدة تقارب 8% في حين يقوم بتمويل هذه الديون السيادية عن طريق الاقتراض من البنوك التجارية بمعدلات فائدة مضاعفة تقارب 16%.
ونخلص إلى السؤال التالي: كيف أثّرت السياسة النقدية إذاً على شروط تمويل الاقتصاد الحقيقي وديناميكيات نموّه؟
من وجهة النظر المحاسبية البحتة، الوسطاء المصرفيون هم وكلاء تمدّ ميزانيّتهم العمومية الموحّدة جسراً بين المقرضين الأساسيين والمقترضين النهائيين. كما أنّها وسيلة لتجنّب التقنين الائتماني من خلال الحفاظ على الاتسّاق بين سلوكين مستقلّين إلى حد كبير: سلوك المدّخر وسلوك المستثمر.
يتم تقنين الائتمانات إذا لم يتمكّن العميل الاقتصادي من الحصول على كل الائتمان الذي يطلبه حتى من خلال قبول معدلات فائدة أعلى: المصارف التجارية تتوقف عن إقراض الدولة، والقروض المدعومة تقصي المستثمرين الجدد،و القروض السكنيّة تتعطّل بسبب تشديد شروط إعادة التمويل للقطاع المصرفي، إلخ..
من خلال التقنين الائتماني، تتغيّر طبيعة التوازن التنافسي بشكل لا تعكس فيه أسعار الفائدة تكلفة النفقة البديلة الاجتماعية أيّ أنّ التمويل المقنن الذي يخصص للاستثمار في المشروع "أ" يقصي حتماً الاستثمار في المشروع "ب" والذي قد يكون له مردود اجتماعي وربحية اقتصادية أعلى (Cout d’apportunité social / Social opportunity cost)
بالنسبة لبيرنانكي وبليندر، يؤدّي التشدّد في شروط إعادة التمويل للبنوك التجارية إلى انكماش في المعروض من الائتمان وبذلك يبلغ البنك المركزي الوسطاء الماليين العملاء وغير الماليين بتقييمه لدرجة عدم استدامة الدين الخاص والعام مبشراً ببدء أزمة ائتمان كالتي تسبق مباشرة أزمات الكساد الإقتصادي (Credit Crunch).
وبالتالي، فالسياسة النقدية لمصرف لبنان، بأهدافها وأدواتها بما فيها من دعم للقروض الخاصة أو هندسات مالية لتمويل القطاع العام، ليست إلّا ترجمة للمبادئ المحافظة أو التقليدية لما يُعرف بـالأرثوذكسية النيو–كلاسيكية المبنيّة علىاإنقطاع جذري بين آليات المدّخرات الخاصة من جهة وقنوات تخصيص هذه المدخرات للاستثمار من جهة أخرى.
إلّا أنّ هذه السياسة النقدية تظهر اليوم انقطاعها الجذري عن كافة أشكال الحوكمة والتشريع والشرعنة ولا سيما مؤسسات الدولة والقانون أو النقاش الديمقراطي وهذا الطلاق هو أيضاً كسرٌ أخير في الثقة التي وضعها العملاء غير الماليين، المقيمين والأجانب، في النظام النقدي والمصرفي اللبناني لعقود من الزمن.
بممارسة العديد من الإجراءات التعسّفية والمتقلّبة لتحديد سعر الصرف، يمهّد مصرف لبنان اليوم الطريق لتشكيل العديد من أسواق الصرف "السوداء" الموازية، والتي لا يمكن لأي سلطة قانونية تحديد أي منها يمكن أن يشكل السوق البيضاء أو السعر القانوني.[4] وبالمثل، تمارس البنوك التجارية والمؤسسات المالية غير المصرفية أشكالاً مختلفة من تقنين عمليات السحب والتحويلات مع رقابة صارمة على تحرّكات العملات الأجنبية بدون أن تعلن عن إفلاسها.[5]
وأخيراً، يضع انهيار الليرة اللبنانية حداً لثلاث عقود من العقيدة النقدية المحافظة أو التقليدية، عندما تصبح سياسة مصرف لبنان غير قادرة على تحقيق الهدف الوحيد الذي كان قد وضعه لنفسه أي المحافظة على ثبات قيمة النقد. هذا النظام النقدي والمالي الذي كان في السابق مندمجاً للغاية ويعمل كمبدأ موحّد للنظام ككلّ يتفكك الآن لتتم تجزئته إلى أعداد من العملاء والمشغّلين والوسطاء والمقاولين، لكل منهم منطقه الخاص.
للخروج من الأزمة، تتدخل البنوك المركزية بشكل عام في إعادة تمويل الوسطاء الماليين عن طريق ضخ السيولة التي تحسّن الصحة المالية للمقرضين. لكن في سياق الإفلاس المزدوج للدولة ومصرفها المركزي، مع الالتزامات بالعملات الأجنبية التي لا يمكن استيفائها من خلال خلق النقود، يبدو أنّ النظام الاقتصادي اللبناني يفقد مصدره الأساسي للتمويل أي مصرف لبنان كمقرض والملاذ الأول والأخير وفي الوقت نفسه المبرر المعياري والأيديولوجي الرئيسي لمبدأ الاندماج النظامي والتكامل الوظيفي أي نجاح سياسته النقدية.
الخلاصة: تبعية الإقتصاد السياسي لحكم السياسة النقدية
بتعبير بسيط، في العقود الثلاثة من حكم رياض سلام، قلّ ما يهمّ ألّا تخدم السياسة النقدية أهداف النمو أو خلق فرص عمل. وقلّ ما يهمّ إذا كانت سياسة معدلات الفائدة المرتفعة مزاحمة وطاردة بجزء كبير للمشاريع الاستثمارية المنتجة. وقلّ ما يهمّ إذا كانت المبالغة في تسعير قيمة صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار قد ولّدت وغذّت اختلالات غير مستدامة في الميزانيات التجارية والحسابات الجارية للبلاد مما أدّى إلى تباطؤ نظام الإنتاج المحلي وبالتالي الحد من إمكانات النمو. وقلّ ما يهمّ ما إذا كان النمو المتقلّب للسنوات الثلاثين الماضية قد أدى إلى تعميق الفوارق في الدخل أو الثروة إذ أنّ جلّ ما كان يعني المصرف المركزي هو أنّ العملة مستقرة وأن النظام المصرفي في نمو مذهل.
في نهاية المطاف، يبدو أنّ الحفاظ على سياسات حرية تحرّك رأس المال والعملات الأجنبية، قبل الحرب وخلالها، قد عزّز الإيمان بكفاءة الحقل الاقتصادي ذاتي التنظيم، الذي شرّعته بالدرجة الأولى والأخيرة عناصر نجاح السياسات النقدية المحافظة والمقيّدة بشكل أساسي إلى هدف واحد أي الدفاع عن قيمة النقود.
إلى جانب سياسات العمل التي تحدّ من زيادة الأجور لمكافحة التضخّم، فإنّ سياسة معدلات الفائدة المرتفعة التي تجذب رأس المال الأجنبي والتحويلات الصافية، تدعم مداخيل الودائع على حساب مداخيل العمل والإنتاج والاستثمار. على وجه الخصوص، أدّت السياسات المالية بعد الحرب – التي تميّزت بالزيادة الدائمة في الإنفاق وتعميم الهدايا الضريبية للدخل المالي ودخل الممتلكات – إلى زيادة خدمة الدين التي استوعبت الغالبية العظمى من الإنفاق العام. وبالتالي، تضمن سياسات الدولة عوائد عالية للبنوك التي تقرض الدولة أو مصرف لبنان مما يؤدي إلى تسرّب بين القطاع المصرفي والقطاعات الإنتاجية غير المالية.
هكذا يبدو أنّ السياسات المالية والضريبية للدولة وسياسات العمل وإعادة توزيع الدخل هي التي تخضع للأهداف النقدية وليس العكس. وهذا ما يعنيه بشكل أساسي مبدأ استقلال السياسة النقدية في لبنان، على غرار مفهوم الأرتوذكسية النيو-كلاسيكية التي يدّعي تبنّيها، حيث يفترض هذا الأخير انفصال السياسة النقدية عن السياسات الحكومية فيما يفرض مبدأ الاستقلالية في لبنان أن تخضع كافة السياسات الإقتصادية لأهداف السياسات النقدية وأدواتها.
كذلك، تفترض تبعيّة السياسات الإقتصادية للسياسة النقدية أن تظهر تلك الأخيرة على أنّها مستقلّة أي بمعنى أنها تلاحق أهدافها الخاصة بمعزل عن أهداف الإقتصاد الحقيقي: النمو والوظائف وإعادة التوزيع إلخ..
هكذا يمكن لمصرف لبنان أن ينأى بنفسه عن جميع المسؤوليات المتعلقة بالأداء الضعيف للاقتصاد اللبناني، التي سيتم بالتالي تحويل مسؤوليتها إلى تقصير الدولة والإدارة وفساد النخب السياسية، والمساومة السياسية الطائفية وما إلى ذلك. وأكثر من ذلك، تظهر السياسة النقدية في هذا السياق كمبدأ اندماج أو توحيد للصفوف يتجاوز كل الخلافات السياسية أو المجتمعية.
حتى اليوم، وعلى الرغم من تفكك النظام المصرفي اللبناني كما عرفناه منذ عقود، إلى ما لا عودة، لا تزال الاستراتيجيات الفردية والجماعية والمساومات السياسية تدور في حلقة السياسة النقدية وفي دائرة الرهانات على مستقبل خيارات المصرف المركزي.
ومما لا شك فيه، أن أية سياسات إنقاذية ستسعى لإملائها تلك الحكومة أو أي حكومة مستقبلية، ستحاول أن تستسقي شرعيتها من الحقل النقدي في المقام الأول. الأمر سيّان من ناحية العملاء غير الحكوميين الذين يعبّرون في مجمل الأحوال عن استعدادهم لمؤازرة أي حلّ يضمن لهم تثبيت قيمة النقد أي أقل درجات خسائر في ودائعهم وشروطهم المعيشية.
ويوحي ذلك من الجهتين بعجز مطلق عن الإعتراف بأنّ لبنان قد خسر إلى ما لا رجعة المبدأ الاندماجي الوحيد الذي أمّن له في السابق الشروط الأدنى من الانصهار الوطني وبعجز أعمق عن تصوّر أي نموذج آخر للاندماج المجتمعي والنهوض الاقتصادي.
في التحليل النهائي يبدو أن مبدأ استقلالية أنظمة المال والنقد في لبنان لم يأت كنتيجة لنموذج الليبرالية الدستورية الذي ارتآه المؤسسون والمشرّعون في دستور 1926 أو الطائف[6]. أي أنه لا يبدو لنا كانعكاس لنموذج ليبرالي يتمّ الدفاع عن قيمه من فوق من خلال الدستور وإنما يظهر في آخر المطاف على أنه أداة دمجية تخدم وظيفة إضفاء الشرعية من الأسفل على هذه الليبرالية الدستورية، طالما نجحت في أداء وظيفتها الأيديولوجية على الأقل.
فالمبادئ الدستورية نفسها اليوم تبدو رهينة مبدأ استقلالية أنظمة المال والنقد وليس العكس أو على الأقل أن الأولى مهددة بتماسكها من جراء تفكك الآليات الدامجة التي كانت أنظمة المال والنقد تؤمنها سابقاً
وبالمعنى نفسه، في غياب آليات الدمج التي توظّفها استقلالية أنظمة المال والنقد، يواجه المجتمع اللبناني اليوم خياراً وجودياً على مستوى نظرته إلى نفسه وفي نطاق تجديد وإعادة إنتاج علاقاته الاجتماعية. فإما أن يستنبط اندماجاً اجتماعياً وتواصلياً متجدداً ومستمدّاً من حلقات أخرى من مبادئ الشرعية كالقانون والنقاش العام والتواصل المفتوح على الاعتراف المتبادل، أو أن يواجه تفككاً تصاعدياً يحمل معه مخاطر وجودية.
إذا كانت انتفاضة تشرين خطوة أولى في اتجاه الخيار الأول، فإن التجارب المؤلمة لحروب لبنان الأهلية وغير الأهلية تنذر بأن البديل الثاني ليس مجرد تكّهنات فلسفية.
[1] كما أوضح الاقتصادي دوغلاس نورث ، يشير مسار الإرتباط إلى مسارات تاريخية يمكن أن تستمر مع مرور الوقت، إما من خلال مقاومة التغيير أو من خلال اعتماد السياسات المحافظة الرافضة للتغيير.
[2] Axel Schimmelpfennig & Edward H. Gardner (2008), « Lebanon : Weathering the perfect storms », IMF, Middle East and Central Asia Department.
[3] http://kafalat.com.lb/loans-statistics?field_category_tid_1=200
[6] Reinould Leenders, « Nobody Having too Much to Answer for : Laissez-Faire, Networks, and Postwar Reconstruction in Lebanon », in Heydemann, Steven (dir.), Networks of Privilege : The Politics of Economic Reform in the Middle-East, New York, Palgrave-Mac Millan, 2004, p. 169-200. Chaiban, A. (1997), "Les aspects économiques de Taef: une doctrine économique?" Travaux et Jours, no. 59.