تستغل الحكومة الانهيار النقدي الممتد منذ أربع سنوات لتحقيق جملة من الأهداف الخبيثة دفعة واحدة، فمن ناحية تريد تكريس التخفيض الحاد الذي أصاب الأجور الحقيقية، وتدمير الأسس التي قامت عليها سلسلة الرتب والرواتب ونظام التقاعد، بالتوازي مع تقويض الحماية التي يوفّرها نظام الموظفين. ومن ناحية أخرى، تسعى إلى دفع المزيد من العاملين والعاملات في القطاع العام وإدارات الدولة للتخلّي عن الوظيفة العامّة وتقليص الجهاز الإداري تمهيدًا لأوسع عملية خصخصة بذريعة الأزمة. وإلّا كيف يمكن تفسير إعطاء مساعدات اجتماعية من دون إدخالها في أساس الراتب؟ وكيف يمكن فهم ما يحصل اليوم في تعاطي المسؤولين مع موظفي الإدارة العامة من تمييز بينهم وبين موظفين آخرين، كما حصل مؤخرًا مع موظفي وزارة المال والهيئات الرقابية وموظفي مجلس الوزراء والقصر الجمهوري وتقديم حوافز مالية لهم دون سواهم من زملائهم في باقي الوزارات والإدارات بذريعة تحسين إيرادات الخزينة؟
هذا التمييز حصل من دون أي قرار حكومي، بل بقرار استفرد به وزير المال من دون إبلاغه للوزراء في حكومته، كما نقل عدد من العاملين في الإدارة العامة لـ “المفكرة القانونية” خلال اجتماعات عقدوها أمس الأربعاء مع وزراء إداراتهم والتي على إثرها أعلنوا التوقّف عن العمل إلى حين صدور قرار باستفادة كافة العاملين من الحوافز عملًا بمبدأ المساواة.
وفي هذا السياق، كان وزير العمل مصطفى بيرم، قد أكد في حديث صحافي أنّه “لم يكن لديّ أي علم بهذا الإجراء، وإعطاء الزيادة للبعض دون غيرهم هو أمر خاطئ”، مشيرًا إلى أنّ “هذا الإجراء اتّخذ في وزارة المالية، ونحن ليس لدينا أي علم به”.
وقد علمت “المفكرة” من مصدر معني في الإدارة العامّة أنّ الإسراع في دفع هذه الحوافز أسبوعيًا على 6 دفعات، يعود إلى أنّ مرسوم مجلس الوزراء رقم 11301 المُتضمن إعطاء سلفة بقيمة 36 ألف مليار ليرة لبنانية لدفع المساعدة المؤقتة للقطاع العام، تنتهي صلاحيته في تاريخ 18/4/2024 وبالتالي لا يمكن لوزارة المال بعد هذا التاريخ دفع أي حوافز.
وذكرت معلومات صحافية اليوم أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أجرى اتصالًا بوزير المال يوسف خليل وطلب منه وقف دفع الحوافز الإضافية التي تمّ تخصيصها لبعض موظفي الإدارة العامة دون سواهم، على أن يستكمل البحث في هذا الملف برمّته في جلسة غد الجمعة من خارج جدول الأعمال. وهذا الأمر استفزّ موظفي المالية في كلّ الدوائر والمصالح، الذين بدورهم أعلنوا الإضراب العام احتجاجًا على توقيف الحوافز المقررة لهم.
هذا، واستغرب تجمّع موظفي الإدارة في بيان اليوم قرار رئيس الحكومة بوقف الحوافز للإدارات المستفيدة، إذ أنّ “المطلب الأساسي لتجمّع الموظفين هو تعميم هذه الحوافز على كلّ العاملين في الإدارة العامة وليس وقفها للمستفيدين”. واعتبر التجمّع أنّها خطوة قد تؤدي إلى زرع الخلاف بين الإدارات من خلال تصوير الأمر وكأنّه من باب العدالة، أو كأنّ الادارات الأخرى طالبت بحرمان زملائهم. وطالب التجمّع الحكومة بالتوقّف عن التلاعب بكرامة الموظفين “من خلال هذه السخافات التي تحصل”.
وتتجه الأنظار إلى التظاهرة الحاشدة التي دعا إليها تجمّع العسكريين المتقاعدين غدًا الساعة الثالثة عصرًا بالتزامن مع جلسة مجلس الوزراء، رفضًا لـ “سياسات التمييز الفاضح والفاقع بحق موظفي القطاع العام ومتقاعديه من عسكريين ومدنيين، بمشاركة كلّ الموظفين في كافة الإدارات والقطاعات والمؤسسات والدوائر المتضررة”.
ما هي الحوافز ومن المستفيد؟
“المفكرة” حصلت من المصدر المعني في الإدارة العامة على توضيحات حول الحوافز التي حصلت عليها بعض الإدارات. ففي تاريخ 18/4/2023، أصدر مجلس الوزراء المرسوم رقم 11227 والمتضمّن إعطاء مساعدة مؤقتة للقطاع العام، ولدفع هذه المساعدة وكذلك بدل النقل الجديد (450 ألف ليرة)، أصدر المجلس المرسوم رقم 11301.
وبعد أن سدّدت وزارة المالية مساعدة شهر أيار من هذه السلفة، طالب وزير المال بإصدار قانون فتح اعتماد إضافي لتغطية المساعدة ورفض أن يستمر بدفعها من السلفة المذكورة. وبالفعل أصدر مجلس النوّاب قانون فتح الاعتماد الاضافي، وبالتالي بدأ صرف المساعدات وبدل النقل من الاعتمادات التي أقرّت. استمر الأمر على هذا النحو حتى بدأت سنة 2024، وبسبب عدم صدور موازنة 2023 و2024، لم تجد أغلب الإدارات اعتمادًا لصرف هذه المساعدة، ما اضطرّ وزير المال إلى إصدار قرار بتسديد المساعدة من السلفة المذكورة. ويشير المصدر إلى أنّه لا يزال هناك مبالغ كبيرة في هذه السلفة قد تصل إلى حدود 30 ألف مليار ليرة.
في 12/1/2024، صدر المرسوم رقم 12848 والمتضمّن تعديلًا في النص يتعلّق بالغاية من السلفة وأضاف عبارة (دفع المساعدة المؤقتة الصادرة بالمرسوم 11227 وكافة الحوافز الإضافية للعاملين في الإدارة العامّة من أجل تفعيل عملها وتسيير المرافق وتحسين وإدارتها وإنتاجيتها).
وكان السبب الظاهر من هذه الإضافة، هو دفع الحوافز التي كان من المفترض أن تقرّ في شهر كانون الأول 2023، بسبب عدم صدور موازنة 2024 في ذلك الوقت. إلّا أنّ هذا المرسوم لم ينفّذ إلى اليوم.
وبسبب هذا التعديل، دفعت وزارة المال حوافز خاصة لموظفيها ولموظفي رئاسة الحكومة والمديرية العامة لرئاسة الجمهورية وأجهزة الرقابة. وهذه الحوافز هي عن أشهر سابقة، أي عن أشهر تموز وحتى شهر كانون الأول 2023، دائمًا بحسب المصدر.
يقول عضو تجمّع موظفي الإدارة العامة خالد العمّوري في اتصال مع “المفكرة” إنّ ما حصل يُعتبر ضربًا للإدارة العامة ككلّ، ولا يمكن استنكار حق الموظفين المستفيدين من هذه الحوافز، بل المطلوب تصحيح الأمر وتعميم هذه الحوافز على جميع موظفي الإدارة العامّة نظرًا لوجود إمكانية لذلك. إلّا أنّه يرى أنّ إشكالية أخرى تبرز تتعلق بالهدف من الحوافز التي ستعمّم على بقية الموظفين إذ لا يمكن أن يصدر قرار أو مرسوم عن أشهر سابقة. وبالتالي، يكون الحلّ بأن يصدر مجلس الوزراء مرسومًا بدفع مبلغ مقطوع يعادل المبلغ الذي أعطي للموظفين المستفيدين من دون تحديد شهر محدّد حتى لا ندخل في مسألة عدم وجود أثر رجعي للمراسيم. مع التأكيد على ضرورة إصدار مرسوم الحوافز المنتظر أيضًا لأنّه الأهم حاليًا، وذلك لحين إعداد سلسلة رتب ورواتب.
ويضيف: “للأسف، باتت الحكومة تعطي الأسلاك والقطاعات بشكل شبه سرّي، وكأنّ الغاية تحسين وضع الجميع باستثناء موظفي الإدارة العامّة. علمًا أنّ موظفي الإدارة العامّة لا يصلّ عددهم إلى 10 آلاف موظف في حين يصل عدد الأساتذة إلى 50 ألف والعسكر إلى 120 ألفًا والمتقاعدين إلى 115 ألفًا”.
رواتب خسرت 90% من قيمتها الحقيقية
يقول المدير العام لوزارة المهجرين أحمد محمود في اتصال مع “المفكرة” إنّ الحوافز (موضوع الإضراب والاعتراض) بدأت توزّع منذ الاثنين الفائت، على أن تستكمل على 6 دفعات. ويشير إلى أنّ هذا حق للموظفين ولا نعترض عليه، لكن اعتراضنا هو على التمييز المجحف في حق باقي الموظفين. ويرى أنّه لا يحق لأحد أن يصنّف الموظفين وأن يحدّد من يستحق هذه المساعدات أو الزيادات والحوافز ومن لا يستحقها، لافتًا إلى “أنّنا بانتظار ما سيصدره مجلس الوزراء في جلسته غدًا، وفي انتظار أجوبة من المعنيين حول صحة هذا المرسوم “.
ويشدد على أنّ “الموضوع لم يعد قصة مال بل قصة كرامة وعدالة بين الموظفين، ونحن فقدنا قيمة رواتبنا منذ بدء الأزمة لكن العدالة تقول بتوزيع الأموال على كل الموظفين دون استنسابية”.
هذا، وكان المدراء العامون في عدد من الإدارات والمؤسسات العامة تنادوا إلى لقاء طارئ، عقد في وزارة المهجرين أمس الأربعاء، وأصدروا بيانًا ذكّروا فيه بالسياسة غير المسؤولة في التعاطي مع حقوق موظفي وعاملي هذا القطاع جرّاء الاستنسابية والتمييز غير المبرر بينهم،. وخلص اللقاء إلى الاعتراض على سياسة الالتفاف على مطالب القطاع العام المحقّة واستنكارها، بعد أن وصلت رواتبهم إلى ما يقلّ عن 10% من قيمتها الحقيقية، والتي تجلّت في إعطاء مجموعة من العاملين في الإدارة العامة بمختلف أسلاكها حوافز مالية دون سواهم. ومع التأكيد على أحقية هؤلاء بالحصول على تلك “الحوافز”، إلّا أنّ هذا يتعارض مع مبدأ “العدالة والمساواة” الذي كفله الدستور والقانون والأخلاق”.
وحذّر المدراء العامون مما يمكن أن تنتجه هذه السياسة غير المسؤولة على القطاع العام وتشرذمه وتحوّله إلى جزر وظيفية لا تخضع إلى أبسط قواعد الانتظام، مؤكّدين رفضهم بدعة تصنيف الإدارات بين “منتجة وغير منتجة” على أساس ما تؤمّن من واردات إلى الخزينة، ما يعتبرونه مسًّا غير مقبولٍ بكرامتهم.
ويعتبر رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة السابق محمود حيدر، في حديث مع “المفكرة” وضع ما يحصل في الإدارة العامة وفي تعاطي السلطة مع موظفيها في خانة استهداف الإدارة والوظيفة العامة باتجاه الخصخصة والتعاقد الوظيفي، مشيرًا إلى ممارستها أشكالًا مختلفة من المخالفات التي تتنافى مع الوظيفة العامة واستمراريتها.
وأشار الى أنّ السلطة تنفذ أجندة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، معتبرًا أنّ الضجة حول هذه الحوافز مبرّرة، إذ أصبح التعاطي مع العاملين في القطاع العام على قاعدة فرّق تسُد، والهدف شرذمة هذا القطاع. ودعا رابطة موظفي الإدارة العامّة إلى القيام بدورها وذلك عبر الحفاظ على الإدارة العامة واستمراريتها والعمل على تعزيز أوضاع الموظفين، وذلك لا يتم إلّا عبر إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة تعيد النسبة الكبيرة من القيمة الشرائية للرواتب. فالطريقة التي تمارسها السلطة من خلال دفع مساعدات اجتماعية لا تسمّن ولا تغني عن جوع.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.