السلطة المحلية: التشريع كبوابة لمراجعة الإختيارات الدستورية؟


2015-11-28    |   

السلطة المحلية: التشريع كبوابة لمراجعة الإختيارات الدستورية؟

 يرمز مصطلح الوالي في الجهات للسلطة بمعناها الكامل. فالوالي يمثل رئيس الجمهورية ويسهر على شؤون الولاية. وقد اقترنت مؤسسة الوالي بدولة الإستقلال: فالأمر المؤرخ في 21-06-1956 والمتعلق بالتنظيم الترابي للبلاد التونسية اختار أن يقطع مع مؤسسات الدولة المحلية في الحقبة الإستعمارية مع ما  تحمله تسمياتها من مخزون يدل على الخضوع للمستعمر والفساد بأن غير تسمية “القياد” بتسمية الوالي كما غير تسمية مساعديهم من” الخليفات” بالمعتمدين ومساعدي هؤلاء من “مشايخ التراب” بالعمد. وقد ارتكز التقسيم الإداري للبلاد التونسية على غايتين: أولهما، إحكام سيطرة المركز على الجهة من خلال حضور ممثليها وثانيهما، تقريب الإدارة اللامركزية من منظوريها. ولم يمنع تطور تصور علاقة الإدارة المحلية بمنظوريها في سياق تدعيم الإدارة اللامركزية من بقاء البعد المركزي مهيمناً.

أدى إرساء المجالس الجهوية لتصبح الولاية علاوة على كونها دائرة ترابية للدولة، جماعة عمومية محلية تتمتع بالشخصية القانونية[1]. وتنظر هذه المجالس في كل المسائل التي تتعلق بالولاية في الميادين الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والتربوية[2]. وقد ترجم إرساء المجالس الجهوية الحاجة بأن تكون الإدارة المحلية ممثلة لمنظوريها وأداة لتحقيق إدارتهم لشؤونهم. إلا أن سلطة الوالي السياسية التي كان يستمدها قبل الثورة من همينة الحزب الواحد على الدولة وصلاحياته القانونية التي منحته حقّ التحكّم في جدول أعماله حالت دون تطور هام في عمل الإدارة المحلية.

إبتعد الدستور الجديد عن الولاية وتفاصيل تقسيماتها في تصوره للسلطة المحلية الديموقراطية التي أرد إرساءها، وأعلن “البلدية” أساساً جديداً للتقسيم الإداري للبلاد التونسية. وكان يُفترض أن يؤدي تفعيل الدستور إلى إنهاء حقبة الوالي والمعتمد والعمدة وفق ما يؤكده التقرير النهائي للجنة الجماعات العمومية الجهوية والمحلية بالمجلس الوطني التأسيسي[3] وأن يرسي التصورات البديلة في نصوص تشريعية أولا وعلى أرض الواقع ثانياً. إلا أن ما هو مفترض لم يتحقّق: فبمجرّد انطلاق النقاش العامّ حول الإنتخابات البلدية، برزت الرغبة في استعمال التشريع كأداة لمراجعة الاختيار الدستوري والحدّ من مداه الثوري. وهذا ما تأكّد في الإعلان عن المشروع الأولي لمجلة الجماعات المحلية الذي أعلن عنه في إطار الإستشارة الوطنية بخصوص الإنتخابات البلدية والجهوية. ويخرج عنه أن إرساء السلطة المحلية سيتمّ مرحليّا وقد يستغرق في التقدير الأولي خمس سنوات، يحافظ خلالها الوالي على مكانته بالجهة ليكون ممثل السلطة المركزية وعينها الرقيبة على السلطة المحلية بما يكشف عن خوف على سلطة المركز من السلطة المحلية.

السلطة المحلية مشروع يقبل التأجيل

ضبط الدستور في الفصل 148 منه دخول أحكامه المتعلقة بالسلطة المحلية صدور القوانين الخاصة بها. لكن اللجان الفنية التي أعدت مشروع مجلة الجماعات المحلية اختارت أن تراجع هذا الإختيار، فاعتبرت أن الواقعية تستوجب “الإقرار بأن حجم التغييرات الجذرية التي هي خيار دستوريّ يقتضي اعتماد التدرج في إرساء وتدعيم اللامركزية نظرا لكلفة هذه وما تقتضيه من الجماعات المحلية بالإطار البشري الكفء وبعث محاكم إدارية ومالية داخل البلاد لتتولى الرقابة وفقا للدستور”[4]. واذ تمّ تبرير التدرّج في إرساء السلطة المحلية باعتبارات فنية وتقنية، فإن مراجعة الخطاب السياسي ومشروع القانون المقترح يكشف أن الدافع الأساسي لهذا التدرّج قد يكون خوف المشرّع من السلطة المحلية.  

الخوف يبقي الوالي 

طالب طيفٌ من القانونيين والسياسيين بالتريث في إرساء السلطة المحلية. وقد برّروا مواقفهم بالحاجة للبحث عن توازنات بين الادارة اللامحورية والادارة اللامركزية بشكل يضمن وحدة الدولة[5]. وتبعاً لذلك، تعرّض مشروع مجلة الجماعات المحلية لاختصاصات الجماعات المحلية مستعيداً أصناف تلك الاختصاصات كما ورد ذكرها بالدستور، من دون أن يسندها لجهة بعينها، كما أعرض عن إحالة الصلاحيات المفوضة بمقتضى التشاريع الجارية للوالي لمجلس الجهة.

ويؤكّد الحذر في تحديد صلاحيّات السلطة المحلية على توجّه إرادة من صاغ المشروع لإرجاء توزيع الصلاحيات المتعلقة بإدارة الجهات بين الجماعات المحلية والإدارة اللامحورية ممثلة أساساً في الوالي في اطار ما ذكر انه تدرج في ارساء احكام الدستور. وفيما يستعيد المشروع وصف الوالي بأنه ممثل الدولة، تراه يستخدم اصطلاح جماعة عمومية محلية محجماً عن استخدام الإصطلاح الدستوري ومفاده “سلطة محلية”. وقد بدا أن التوازن المطلوب يقوم على التأكيد على مكانة الوالي بالجهة على نحو يناقض التوجه الدستوري الذي لا يعترف بتلك المكانة.

وعلى ضوء مشروع المجلة، بإمكاننا القول أن الحكومة ليست قانعة بالتوجه الدستوري الثوري في شؤون الإدارة المحلية وأنها لا تجد حرجاً في استخدام التشريع كأداة نحو مراجعة الدستور تحت غطاء تنزيله.
 

 [1]الفصل الاول من القــانون أساســي عــدد 11 لســنة 1989 مــؤرخ فــي 4 -02- 1989 يتعلق بالمجالس الجهوية كما تم اتمامه بالقانون الاساسـي عـدد 199 لسنة 1993 المؤرخ في 17-12-

[2]الفصل 2 من القانون السابق                                                                                                                                                                      
[4]شرح الاسباب مشروع مجلة الجماعات المحلية                                                                                                  
[5]اشغال ندوة موقع الوالي في التنظيم الاداري التونسي القيروان 26-06-2014                                                                                  
انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني