“
يتأثر الحق في السكن في لبنان بشكل أساسي بمصالح السوق العقاري. وتتسع سطوة هذا السوق كلّما تراجع دور الدولة على صعيد السياسات الإسكانية. ولا يصنّف خضوع حق أساسي كحق السكن لقواعد السوق دائماً بالإيجابي، وليس السوق في كل الأحوال مسؤولاً عن تأمين هذه الحقوق التي يجب أن توفرها السياسات العامة للدولة التي يجب أن تنتج نظاماً إقتصادياً يكفل التوازن بين العرض والطلب. أبعد من ذلك، لا بد للحق في السكن أن يوضع أيضاً في سياقه المديني، خصوصاً مع علاقته وتأثره بشكل خاص بقطاع النقل الذي يؤدي تنظيمه إلى تحوّل أساسي على صعيد التمركز السكاني، بالتالي الطلب على السكن وبالنتيجة مناطق العمران وأسعاره. هذه خلاصة تخرج بها “المفكرة القانونية” من مقابلتها مع المطور العقاري مارك جعارة، وهو يملك شركة خاصة تعمل في مجال التطوير العقاري وبشكل خاص الشقق السكنية الصغيرة والميسورة التكلفة والملائمة للبيئة[1] والغاية الأساسية منها الوقوف على رأي أصحاب المصالح في السوق العقاري حول السياسات الإسكانية في الدولة.
المفكرة: ما رأيك في السياسة الإسكانية التي تتبعها الدولة. هل تجدها مؤاتية لمصلحة السوق العقاري والعاملين فيه؟
جعارة: في لبنان لا يوجد سياسة إسكانية، والحكم فعلياً في هذا المجال هو للسوق. على الرغم من ذلك، فإن الاجراءات والقوانين ذات الصلة بالسكن تنعكس بالطبع على المصالح داخل السوق، لجهة مصالح المطورين وتجار العقارات والأفراد الذين يبحثون عن مسكن. فالمطوّر العقاري يشتري الأراضي حسب الطلب على السكن، والطلب نفسه يؤثر في معايير البناء، أي المساحة والمنطقة التي يشيّد فيها. بالنسبة للبنان، تساعد القروض السكنية المدعومة من المصارف (قروض الإسكان التي يحصل عليها الأفراد من المصارف الخاصة ويدعمها مصرف الإسكان) في زيادة الطلب على الشقق وبالتالي في زيادة البيع.
مؤخراً، عندما توقفت القروض المدعومة من المؤسسة العامة للإسكان، تراجع عدد صفقات البيع والشراء بشكل ملحوظ. واليوم على الرغم من إقرار قانون يتيح تمويل قروض سكنية جديدة، إلا أني أعتقد أن الأمر ليس مشجعاً للبنوك.
المفكرة: كيف نفهم الحق في السكن في ظل سطوة السوق العقاري؟ وأي أثر لقوانين السوق العقاري على الحق في السكن؟
جعارة: العرض والطلب هما المؤثران في السوق. السكن في بيروت حتى عام 2006 و2007 كان رخيصاً مقارنة بمدن عربية أخرى، كدمشق وعمّان. بيد أن أسعار السكن في بيروت ارتفعت بنسبة ثلاثة أضعاف بين عامي 2007 و2010. هي إذاً دورة إقتصادية، يكون السوق جيداً عندما يزداد الطلب على العقارات. حينها نقوم بالبناء للبيع. ومع زيادة الطلب ترتفع الأسعار. ثم ينخفض الطلب. وهنا تكون الدورة في مرحلة التراجع، فنتوقف عن البناء. ولكن البيع يستمر مع استمرار الناس بالشراء من أجل توفير سكن لها. وفي ظل توقفنا عن البناء، نصل إلى مرحلة ينخفض فيها العرض مع تراجع أعداد الوحدات السكنية المتاحة، أي عندما يعود ويصبح الطلب مرتفعاً بالنسبة للعرض نعود ونقوم بالبناء وتعود الدورة العقارية إلى الارتفاع.
هناك قاعدة معروفة في كل دول العالم مفادها أنه إذا كان السوق العقاري جيداً فالاقتصاد يكون جيداً أيضاً. قد لا ينطبق الأمرعلى واقع لبنان بالتمام لا سيما أن العاملين في البناء ليسوا لبنانيين وعوائلهم تعيش في الخارج لذلك لا ينفقون في السوق اللبناني. ولكن يبقى السوق العقاري في كل الأحوال محرّكاً أساسياً للاقتصاد اللبناني. عموماً، إن ارتفاع أسعار العقارات هو مؤشر على وضع اقتصادي جيد. في لبنان، كنا خلال دورة إيجابية في السوق العقاري عندما حصلت التطورات عام 2005، وأقصد تحديداً انسحاب الجيش السوري، الأمر الذي أنتج تفاؤلاً لدى الكثير من اللبنانيين المغتربين تترجم بشراء عقارات ومساكن في لبنان. فزاد الطلب وارتفعت الأسعار. في عام 2008، حصلت الأزمة الاقتصادية العالمية. لم يتأثر لبنان بهذه الأزمة لأن اقتصاده متقوقع (لا يرتبط اقتصاده بالاقتصاد العالمي) وليس لأن نظامه قوي. المهم أن الناس سحبوا أموالهم من الخارج وأودعوها في لبنان عبر شراء العقارات وهو ما راكم الطلب على العقارات بشكل منفصل عن الحاجة الفعلية للسكن.
في لبنان، هناك عوامل مؤثرة في العرض والطلب على العقار غير الدورة الاقتصادية . فلبنان بلد صغير فيه كثافة سكانية عالية، بالإضافة إلى أن عدداً كبيراً من أبنائه مهاجرون يشترون العقارات في لبنان لأنهم يريدون العودة. ينتج عن ذلك ندرة في العقارات في المناطق حيث الكثافة السكانية عالية. ينشط عندها عمل السوق العقاري، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
في كلّ الأحوال، لا بد من الإشارة إلى أنّ تمركز السكن في مناطق معينة، يعيدنا إلى مسألة السياسات. فمن السّبل الضرورية لحل مشكلة السكن وضع سياسة نقل تحدّ من التمركز السكني. فهذه مشكلة سياسات وليست مشكلة سوق، السوق لا ينتجها إنما يتفاعل معها.
المفكرة: ما هي الحلول لمشكلة السكن من وجهة نظر مطور عقاري؟
جعارة: من الصعب وضع سياسة إسكانية عادلة، ليس في لبنان فحسب إنما في كل دول العالم لا سيما العواصم. جرّبت فرنسا المساكن الشعبية وكانت نتائجها سيئة. لذا أصبح الحل من خلال كوتا مفروضة على كل بناء جديد، بحيث يخصص عدد من الطبقات للتأجير بأسعار مدعومة. برأيي هذا الحل محدود، ويحتاج إلى وقت طويل جداً ليحل أزمة السكن. لذا أفضّل أن أبني في كل حي مبنى تكون أسعار الإيجارات فيه محددة، من دون أن أعزله عن محيطه. هنا مثلاً (الأشرفية) أنشأ وقف السريان مجمّعاً صغيراً ضمن حي سكني من دون عزله عن محيطه. وتم نقل سكان حي السريان الذين كانوا يسكنون في ظروف سيئة جداً، إليه.
أيضاً، موضوع الضرائب على الشواغر مهم جداً. ففرض ضريبة على العقار الشاغر يدفع مالكه إلى إشغاله بدلاً من تركه مجمداً وفارغاً. ولكن يجب أن ننتبه إلى أن فرض الضرائب على قطاع منكوب ليس أمراً إيجابياً. ففرض الضرائب يتم عندما يكون السوق في حالة تطور إيجابية. ولكن العرض اليوم أكثر من الطلب ولا فائدة من زيادة العرض عبر الضرائب على الشواغر.
إضافة إلى ذلك، تعتبر الإيجارات مسألة مهمة. لا بد من إعادة النظر في مسألة قانون الإيجارات الجديد، وكيفية التعامل مع مسألة الإيجارات القديمة بصيغة عادلة أيضاً. يجب وضع حد أقصى لزيادة الإيجار لا يمكن لمالك العقار تخطيه عند تجديده عقد الايجار في حال أراد المستأجر البقاء. من الممكن مثلاً ربط هذه الزيادة بوتيرة زيادة أسعار العقارات، على أن يعود للدولة تحديد سقف هذه الزيادة.
- نشر هذا المقال في العدد | 60 | حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
منحة السكن ومحنته
[1] – عن موقع “الإقتصادي”، يمكن مراجعة الرابط aliqtisadi.com
“