مرة جديدة في لبنان، تُقمَع حرية الرأي والتعبير المكرسة في المادة 19 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، والتي كفلها الدستور اللبناني في المادة 13 منه. ولكن هذه المرة تُعتبر سابقة فريدة من نوعها، حيث يتجاوز رئيس بعثة ديبلوماسية ما اللياقة الديبلوماسية المكرسة في الأعراف والمواثيق الدولية، متهجماً على صحيفة لبنانية، كأي صحيفة أخرى، مهدداً بـ"وضع حدٍ لها".
بتاريخ 3-4-2015، شنّ السفير السعودي لدى لبنان علي عواض عسيري، في حديث إلى صحيفة "الوطن" السعودية، هجوماً لاذعاً على صحيفة "الأخبار"، رداً على افتتاحية رئيس تحريرها إبراهيم الأمين تحت عنوان "كيف خسر تنابل آل سعود اليمن؟". وجه السفير السعودي، في موقف صادم ومتهوّر، تهديداً مباشراً إلى الصحيفة، معتبراً أن "هذه الصحيفة اعتادت على الترويج لأكاذيب واتهامات للمملكة وقياداتها، وجاء وقت لوقفها عند حدها". وأفاد بأن السفارة السعودية كلفت فريقاً قضائياً لمحاسبة ومقاضاة "الأخبار".
من جهتها، شددت إدارة "الأخبار"، في بيان، على أن "تصريحات السفير السعودي تشكل تهديداً مباشراً يمس حياة العاملين في الجريدة، بالإضافة إلى كونه يمثل اعتداءً سافراً على حرية التعبير في لبنان، وتجاوزاً فاضحاً للأعراف والقوانين". وحملت الصحيفة عسيري وحكومته "المسؤولية الكاملة عن أي نوع من الأذى المعنوي والمادي والجسدي" الذي قد يتعرض له أي عامل فيها، واحتفظت لنفسها "بحق مقاضاته وملاحقته أمام كل الجهات القضائية والهيئات المعنية لبنانياً وعربياً ودولياً". بعدها، تعرض موقع "الأخبار" الإلكتروني، في 4-4، لهجوم إلكتروني ضخم بدأ عند الساعة السابعة صباحاً، واستمر حتى الساعة 12 ظهراً، في خطوة ترهيب جديدة، ما تسبب بتوقف الموقع عن العمل، قبل أن يعاود فريق العمل التقني تشغيله. كما تعرّضت الصفحة الرسمية للصحيفة على موقع "فايسبوك" لحملة كبيرة من "التبليغ عن المحتوى" (reporting)، تركّزت على صورة نشرتها الصحيفة منذ فترة لغلاف العدد 2507 الصادر في 31 كانون الثاني، وتصدّرها الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصر الله، وحملت مانشيت: "نصر الله: اللعبة بقواعدنا"، ما أدى إلى إزالة الصورة. وبحسب ما أكد مجلس إدارة "الأخبار"، بدأت الصحيفة دراسة الملف القانوني لرفع دعوى ضد ما رأت فيه تهديداً واضحاً.
استفز تصريح السفير السعودي بعض الصحافيين والناشطين في المجتمع المدني، فدعا "اللقاء الإعلامي اللبناني" إلى وقفة تضامنية مع الصحيفة أمام مقرها، "رفضاً لسياسة كم الأفواه التي تتعرض لها من قبل أعداء الحرية والتحرر في هذا العالم، ونصرةً للحريات العامة وحرية الإعلام". وعلى الرغم من أن الدعوة إلى هذه الوقفة كانت للتعبير عن رفض قمع حرية التعبير بشكل عام وتهديد أي وسيلة إعلامية، إلا أن المتضامنين كانوا من لون سياسي واحد ضمّ إعلاميين وناشطين وفنانين وممثلين، حيث سُجّل غياب بعض زملاء المهنة لاختلاف توجهاتهم السياسية، وقد طوّق مكان الاعتصام ثلاث آليات للجيش اللبناني وآلية للأمن الداخلي، وصلوا إلى المكان قبل المتضامنين أنفسهم. وأبرز ما لفت الانتباه في هذه الوقفة التضامنية، كان غياب كل من نقابتي الصحافية والمحررين، المعنيتين بشكل مباشر في الدفاع عن كل ما يمس حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة.
بدورها، أصدرت نقابة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع بياناً شددت فيه على أن "من حقوق اللبنانيين إبداء آرائهم بكافة الوسائل المشروعة، وخصوصاً تجاه القضايا التي تتعلق بمستقبل المنطقة وترتبط بمصيرهم على أرضهم". ورأت النقابة أن تصريح عسيري "خروج عن الممارسة الديبلوماسية السعودية العلنية في لبنان"، متسائلة: "ماذا لو نفذ لبنان سياسة المعاملة بالمثل وأدلى سفيرنا في السعودية بمثل هذه المواقف تجاه أي شخصية أو مؤسسة سعودية عامة أو خاصة؟". ودعت النقابة السلطات اللبنانية المعنية كافة إلى "حماية اللبنانيين وحقوقهم، وخصوصاً تلك المتعلقة بممارسة حق الرأي والتعبير، كلمة وصوتاً وصورة، ليكون لبنان واحدة من منارات الحرية والعدالة والمساواة". إلا أن بيان النقابة كان يتيماً، ولم يجاريه بيان مماثل من الجهات المعنية بالدفاع عن حرية الصحافة أو وزارة الإعلام. ويعتبر الصحافي في "الأخبار" بيار أبي صعب، في حديث مع "المفكرة القانونية" خلال الاعتصام، أن "نقاباتنا لم تعد تمثلنا، حيث سيطرت عليها الاصطفافات السياسية".
من جهته، شدد نقيب المحررين إلياس عون، في اتصال مع "المفكرة القانونية"، على أن نقابة المحررين تدعم وتدافع عن أي وسيلة إعلامية "ظالمة كانت أم مظلومة"، مؤكداً وقوفه إلى جانب "الأخبار" ودفاعه عنها في حال تعرّضت لأي تهجّم، مذكراً بأنه "كان المدافع الأول عن جريدة الأخبار بشأن قضيتها في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، رافضاً التعدي على حرية الصحافة ومحاكمة أي صحافي خارج لبنان ومحكمة المطبوعات". وفي الوقت ذاته، أوضح عون أنه كان خارج لبنان في الأيام الماضية ولم يطلع على كل جوانب القضية، مشيراً إلى أنه لا يمكنه "التفرّد في أي قرار أو تصريح من دون التشاور مع مجلس النقابة". وأضاف أن رسالة "المفكرة" له بشأن هذه القضية لفتت انتباهه، وطلب على إثرها موعداً من السفير السعودي أو اتصالاً معه للاستفسار عن الموضوع، خصوصاً بشأن عبارة "وضع حد لهذه الصحيفة"، إلا أنه لم يقدر على التواصل مباشرة مع السفير حتى الآن.
هنا في لبنان، تبقى الاصطفافات السياسية سيدة الموقف. فالتضامن أو عدم التضامن مع أي صحيفة لا يحصل لأسباب مهنية تتصل بحرية التعبير، انما يتخذ الموقف فقط على أساس الاعتبارات السياسية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.