كرس الدستور التونسي لسنة 2014 بصفة عملية أسس التفريق المتوازن بين السلط وركز بصفة خاصة على استقلال السلطة القضائية. وكضمانة لعدم تجاوز هذه الأسس، تم إحداث المحكمة الدستورية التي ستتكفل برقابة دستورية القوانين سواء عن طريق الدعوى أو عن طريق الدفع. ورغم أن الدستور وضع آجالا دستورية لإحداث هذه المحكمة، فقد تجاوزنا هذه الآجال نتيجة التأخر الحاصل في إرساء المجلس الأعلى للقضاء والآن في اجتماعه. ولا يُستبعد أن يكون التعطيل مفتعلا قصد تمرير مجموعة قوانين غير دستورية تتضمن اعتداءً صارخاً على صلاحيات السلطة القضائية. ونحن نتناول في هذا المقال ما نراه مؤشّرا على هذا المنوال، قوامه ما تضمنه قانون المالية لسنة 2017 من سحب لاختصاصات قضائية ونقلها إلى أجهزة تتبع السلطة التنفيذية بتعلة السرعة والنجاعة[1]. ومن أبرز ما تضمنه مشروع القانون المذكور ما يلي:
إلغاء مرحلة الصلح القضائي: إحداث لجان صلح وطنية وجهوية تتعهد بملفات المراجعة الجبائية وإبداء الرأي في نتائجها قبل إصدار قرارات التوظيف الإجباري وذلك بناء على طلب من المطالب بالأداء أو بمبادرة من الإدارة مع حذف مرحلة الصلح القضائي. وقد عللت الحكومة توجهها بقلة جدوى مرحلة الصلح القضائي ولضمان سرعة البت في القضايا الجبائية. أي أنها تسحب من القضاء صلاحية مراقبة الصلح بتعلة الجدوى متجاهلة أن القضاء حق للمواطن وضمانة له. ويمكن القول أن هذا التعدي على دور القضاء هو سنة متبعة في قوانين المالية، فكلما وجدت الإدارة أن القضاء يضع ضوابط تتعارض مع تغولها، عمدت إلى سحب الاختصاص منه.
إحداث الشرطة الجبائية أو “فرقة الأبحاث ومكافحة التهرب الجبائي”: مع تمكينها من صلاحيات واسعة تصل أحيانا حدّ المساس بدور القضاء إن لم نقل حد افتكاكه بموجب القانون. فحسب الفصل 33 من قانون المالية، ستضاف جملة فصول إلى مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية (80 مكرر حتى 80 سابعا) تتعلق بهذا الجهاز منها:
– منح أعوان الشرطة الجبائية الحق في مراقبة البضائع المنقولة بالطريق العام وتفتيش العربات المستعملة في نقلها، والإطلاع على وثائق هوية الأشخاص الذين هم على متنها وأمتعتهم. ويجب على سواق العربات الخضوع لأوامرهم. وهي صلاحيات لا تخضع لرقابة القضاء رغم تهديدها للحقوق والحريات.
– يعهد حكام التحقيق لأعوان الشرطة الجبائية بالقيام بأعمال التحقيق في المخالفات الجبائية الجزائية الموجبة لعقوبة بدنية، بمقتضى إنابات عدلية. ومن الواضح أن صياغة النص توحي بالوجوب وهو ما يعني عمليا إلزام قاضي التحقيق بالتخلي عن صلاحياته لجهاز إداري، والخطير في الأمر أنه لم يقع منح المحامي أي دور أمام هذا الجهاز المحدث، وهو ما يشكل خطراً كبيراً على الحريات.
– حسب شرح الأسباب فإن “الشرطة الجبائية” ستتولى، علاوة على المهام الموكلة لمصالح الجباية، الكشف عن المخالفات الجبائية الجزائية ومعاينتها والبحث عن مرتكبيها وتقديمهم للمحاكم. مع أننا نعلم أن الإحالة على المحاكم يفترض أن تكون من مهام وكيل الجمهورية مبدئيا.
تبسيط إجراءات رفع السر المالي: ينص الفصل 37 من قانون المالية على أنه: تلغى أحكام الفصل 17 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية وتعوض بما يلي: يتعين على البنك المركزي والبنوك والمؤسسات المالية، بما في ذلك البنوك والمؤسسات المالية غير المقيمة، وشركات التصرف في محافظ الأوراق المالية لفائدة الغير وشركات الاستثمار وشركات التصرف في الصناديق المنصوص عليها بالقوانين الجاري بها العمل ووسطاء البورصة وشركة الإيداع والمقاصة والتسوية والديوان الوطني للبريد، أن تقدم لمصالح الجباية، كلما طلبت منها كتابيا ذلك، في إطار مراجعة جبائية أولية أو معمقة أرقام الحسابات المفتوحة لديها باسم أو لحساب المطالب بالأداء أو لحساب الغير أو فتحها الغير لحساب المطالب بالأداء خلال الفترة التي لم يشملها التقادم وهوية أصحابها وكذلك تاريخ فتح هذه الحسابات إذا تم فتحها خلال الفترة المذكورة وتاريخ غلقها إذا تم الغلق خلال نفس الفترة، في أجل أقصاه 20 يوما من تاريخ الطلب. كما يتعين على مؤسسات التأمين، بما في ذلك مؤسسات التأمين غير المقيمة، أن تقدم لمصالح الجباية، كلما طلبت منها كتابيا ذلك، كل المعطيات المتعلقة بتواريخ اكتتاب عقود تكوين الأموال وعقود التأمين على الحياة المكتتبة لديها وأرقامها وتواريخ حلول أجلها ونسخا من الكشوفات المتعلقة بها، في أجل أقصاه 20 يوما من تاريخ الطلب. وتلزم المؤسسات المنصوص عليها بالفقرتين الأولى والثانية من هذا الفصل بأن تقدم لمصالح الجباية بصفة دورية، إذا اقتضت اتفاقية دولية تتعلق بتبادل المعلومات والمساعدة الإدارية في المادة الجبائية ذلك، المعلومات التي هي بحوزتها، وفق الشروط التي تحددها الاتفاقية. ويمكن اعتماد التراسل الإلكتروني في طلب الوثائق والمعلومات وفي الحصول عليها.
أي أن هناك رغبة في التخلص من الرقابة القضائية المسبقة مع العلم أن الادارة أكدت عند سماع ممثليها من قبل لجنة المالية في مجلس نواب الشعب أنه لم يسبق للقضاء أن رفض أو تأخر في منحها الأذون اللازمة لرفع السر البنكي، ومع هذا فهي تطالب برفع يد القضاء مع توسيع المجال لها لمراقبة السر المالي عموما بصفة مستقلة ومباشرة بعيداً عن القضاء الضامن للحقوق والحريات.
يمكن القول أن هذه الإجراءات القانونية المضمنة في قانون المالية علاوة على ما فيها من إخلالات دستورية شكلية، فبعضها يجب أن يكون في شكل قانون أساسي، هي في جوهرها تعبير عن رغبة في افتكاك صلاحيات القضاء بما فيها من ضمانات للحقوق والحريات، أي أنها حيل قانونية للتهرب من التزامات دستورية.
فبعد أن تمكن القضاء من ربح معركة الاستقلالية بصفة نسبية، وبدأ تركيز المؤسسات الدستورية الضامنة لهذه الإستقلالية وخاصة قرب انعقاد المجلس الأعلى للقضاء وما يتبع ذلك من إنشاء للمحكمة الدستورية، نجد السلطة التنفيذية وبدعم نسبي من السلطة التشريعية تسعى إلى سحب الملفات شيئا فشيئا من يد القضاء وإرجاعها للإدارة بحجج واهية من قبيل الجدوى والنجاعة وضرورة تفعيل الرقابة.
[1] – وقد سبق هذا المشروع أيضا مشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي كان يهدف إلى سحب ملفات الفساد المالي من يد القضاء العادي واحالتها للجنة ادارية للبت فيها قبل ان تتمكن الدوائر المختصة بالعدالة الانتقالية من التعهد بها، فهو مشروع قانون اعتداء مزدوج على القضاء التقليدي والقضاء الخاص بمنظومة العدالة الانتقالية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.