مع بدء الانهيار، صدم اللبنانيون بأنّ المصارف عمدت في موازاة حجز ودائعهم إلى إجراء حوالات إلى الخارج لصالح عدد من الأشخاص الذين يفترض أنّ لهم نفوذ يميّزهم عنهم. والصدمة أتت ليس فقط لأنّ هذه التحويلات بقيت بمنأى عن أي ملاحقة بحجة أن القانون لا يقيّد الودائع، بل لأنه بدا أن ثمة استحالة من معرفة هوية هؤلاء بفعل قواعد “السرّية المصرفية” والآليّات الضيّقة لرفعها. بمعنى أنّ القانون لا يسمح لهؤلاء من الإفلات من المحاسبة القضائية وحسب، بل أيضاً من المحاسبة الشعبية. ورغم فداحة الخسارة المحققة، كان على الشعب أن يتحمّل مسرحية مملّة قوامها أن التدقيق الجنائي لم يبدأ إلا بعدما يقارب السنتين من الانهيار بحجة أو بأخرى أهمها السرّية المصرفية. وفي خضمّ ظروف الانهيار، خرجت أيضاً النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون لتعلم الرأي العامّ بأن هيئة التحقيق الخاصة (وهي الهيئة صاحبة الصلاحية الحصرية في رفع السرّية المصرفية والتي يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة) قد رفضتْ الاستجابة لطلبها بالاطّلاع على حسابات شركة سوناطراك وشركائها رغم تورّطهم في قضيّة فساد قد تكون أدّت إلى هدر مليارات الدولارات الأميركية طوال 15 سنة وهي مدّة العقد الموقّع معها. وفي حين شذّ المشرّع عن ذلك في ما يتصل بجرائم الإثراء غير المشروع، فإنّ المصارف ما برحتْ تتحايل للتنصّل من طلبات النيابة العامّة في هذا الخصوص.
وعليه، بدا جليّاً للرأي العام أنّ للسرّية المصرفية وظيفة غير معلنة وهي إخفاء أسرار الفساد وتالياً ضمان إفلاته من العقاب. وقد زاد وضوح هذه الوظيفة بعدما فقدتْ السرّية المصرفية وظائفها الأخرى المعلنة منذ إرسائها في 1956 والتي هي اجتذاب الرساميل لتطوير القطاع المصرفي وتحريك عجلة الاقتصاد. كما بدا واضحاً أنّ التمسّك بحصر صلاحية رفع السرّية المصرفية بهيئة واحدة هي هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان وفقط في حال توفّر شبهة على ارتكاب جرائم تبييض الأموال سنداً للقانون رقم 44/2015، إنّما يجعل هذا الحاكم بمثابة سيّد الأسرار الذي بإمكانه وحده إخفاؤها أو البوح عنها.
وهذا ما سنفصّله أدناه.
مصاعب التدقيق الجنائي
تمّ إسقاط أولى محاولات التدقيق الجنائي في خريف العام 2020 بذريعة السرّية المصرفية من قبل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي رفض الاستجابة لطلب المعلومات المُقدّم من شركة Alvarez & Marsal المكلّفة بمهمة التدقيق الجنائي من الحكومة اللبنانية بحجّة تعارضه مع قانون السرّية المصرفية، وهو رفض استتبعَه فسخ الشركة للعقد في تشرين الثاني 2020 تبعاً لما اعتبرتْه عوائق تحول دون تنفيذه وعلى رأسها عدم تجاوب مصرف لبنان لجهة تزويدها بالمعلومات المطلوبة.
وبالعودة إلى المعلومات التي طلبتْها الشركة ورفض مصرف لبنان إعطاءها، نلحظ أنّ أبرزها اتّصلت بمعلومات تتعلّق بشكل أساسيّ بعمليات المصرف المركزي مع المصارف أثناء الهندسات الماليّة والشروط المحيطة بها بالإضافة إلى أنظمة تقييم المخاطر والإدارة الرشيدة. وقد تمّ رفض تزويد كلّ هذه المستندات بحجّة أنّ تسليمها يشكّل خرقاً لقانونيْ النقد والتسليف والسرّية المصرفية[1]، علماً أنّ هذه الحجّة لا تستقيم قانوناً لأسباب عدّة. فالهدف الموضوع من السرّية المصرفية هو حماية خصوصية الزبائن وليس منع أيّ رقابة على المصارف والمصرف المركزي وأعمالهم، وإلّا لما وُجدت الهيئات الرقابية كمفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان أو لجنة الرقابة على المصارف. وكان من الممكن مراعاة قانون السرّية المصرفية من خلال استبدال أسماء زبائن المصرف المركزي بأرقام أو أسماء أخرى. وقد أيّدت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم هذا التوجّه متسلّحة باستشارة هيئة التشريع والاستشارات رقم 881/2020 الصادرة بتاريخ 22/10/2020 والتي أفادت بأنّه “في حال كان لهذه الجرائم ارتباط وثيق بأسماء الزبائن، يشار إلى أسمائهم بأرقام حفاظاً على السرّية بالنسبة إليهم”.
إلّا أنّه ورغم قوّة هذه الحجج، تمثّل الاتجاه العام في التسليم بحجّة سلامة لجهة تعارض التدقيق الجنائي مع السرّية المصرفية. وقد تجلّى ذلك بشكل خاص في موقف[2] رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان الذي ذهب إلى حدّ تحميل وزيرة العدل آنذاك مسؤولية توقيع عقد مخالف للقانون. وإذ أثار رئيس الجمهورية ميشال عون مسألة التدقيق الجنائي في كتاب وجّهه إلى مجلس النوّاب، اكتفى[3] هذا المجلس بإعلان موقف مبدئي بوجوب إتمامه من دون إمكانية التذرّع بالسرّية المصرفية على أن يشمل جميع حسابات القطاع العامّ، قبلما يقر قانوناً (رقم 200/2020) بهذا المعنى في تاريخ 21 كانون الأوّل 2020.
محدودية القانون رقم 200/2020
صوّر القانون 200/2020 عند وضعه أنّه يقوّض بشكل تامّ العراقيل أمام التدقيق الجنائي. إلّا أنّ الإمعان في هذا القانون إنّما يُظهر نيّة في إبقاء تجاوزها محصوراً في إطار ضيّق، ممّا قد يعيق فعلياً التدقيق الجنائي أو يحدّ من مفاعيله في حال حصوله. وهذا ما يتحصّل من أمور عدّة هي الآتية:
أوّلاً، حصر القانون رفع السرّية بمدة زمنية هي سنة واحدة فقط. وما زاد من قابلية تحديد المدة على هذا الوجه للانتقاد هو أنّ إقرار القانون حصل في ظلّ حكومة مستقيلة ومع الإدراك التامّ بإمكانية أن يستغرق تشكيل حكومة جديدة أمداً طويلاً قد يؤدّي إلى استنفاد فترة هامّة من مدّة العمل بالقانون. وبالفعل، لم يحصل توقيع العقد مع شركة التدقيق إلّا بعد تشكيل الحكومة الجديدة وتحديداً في تاريخ 17/9/2021، لتباشر الشركة مهامها في 21/10/2021 أي قبل قرابة شهريْن من انتهاء المدة المذكورة، وهي مدة قصيرة جداً قد يستحيل فيها على الشركة إتمام مهمّتها خلالها بشكل مناسب. وهذا هو السبب الذي دفع رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان إلى تقديم اقتراح[4] قانون معجّل مكرّر لتمديد العمل برفع السرّية المصرفية إلى حين انتهاء الشركة من أعمالها. وفي حين ورد هذا الاقتراح على جدول أعمال جلسة 28/10/2021 التشريعية، إلّا أنّه لم يُناقش بسبب رفعها بعد فُقدان النصاب.
ثانياً، أنّ رفع السرّية المصرفية هو لمصلحة الشركة المدققة حصراً. أي أنّ ما يُمكن أن تكتشفه الشركة من مخالفات وجرائم داخل المصرف المركزي لن يُتاح الاطّلاع عليه من عموم اللبنانيين ليتمكّنوا من المحاسبة على أساسه كما في النُظم الديمقراطية. وما لا يقلّ خطورة في هذا الصدد هو أنّ حصر رفع السرّية بالشركة المدقّقة بسرِي أيضاً على القضاء بما يغلق أي باب للمُحاسبة على أساس نتائج التدقيق. وبذلك، يبدو أنّ المشرّع سمح بالتدقيق الجنائي على مصرف لبنان فقط بعد بتر الهدف المتوقّع منه وهي المحاسبة القضائية.
تهريب أموال النافذين بعد 17 تشرين
السرّية المصرفية ضربتْ أيضاً بما يتّصل بالتحويلات إلى الخارج بعد 17 تشرين الأوّل 2019 التي تمّت على حساب سائر المودعين الذين بقيت ودائعهم محجوزة لدى المصارف. وإذ طلبت[5] النيابة العامّة التمييزية في أواخر 2019 (30/12/2019) تحت وطأة الضغط الإعلامي والشعبي من هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان تزويدها بأسماء الزبائن من فئة الأشخاص المعرّضين سياسياً PEP والذين أجرُوا تحويلات إلى الخارج وذلك عن الفترة الممتدة من 17 تشرين الأوّل 2019 حتى آخر 2019، تمّ إهمال طلبها بالكامل من قبل الهيئة. وفي حين عادت لتوجّه في 19/3/2020 كتاباً ثانياً للهيئة، تلقّت منها جواباً في تاريخ 8 نيسان 2020 مفاده أنّ المصارف التي “أجرت عمليات تحويل في الفترة ذاتها أفادت بعدم وجود أي شبهة بالعمليات أو بمصدر الأموال المودعة في الحسابات وبالتالي أنّ الأسماء التي أجرتْ التحاويل غير موجودة لدى الهيئة”. وبذلك، بدا أنّ الهيئة لم تكتفِ بنقل رسالة المصارف إلى النيابة العامّة إنّما سارعتْ إلى التّسليم بصحّة مضمونها من دون إجراء أيّ تحقيق خلافاً لما تفرضه عليها المادة 6-2 من قانون تبييض الأموال التي تفرض عليها إجراء التحقيقات في العمليّات التي يُشتبه أنّها تشكّل جرائم تبييض أموال والتحقّق من قيام المصارف بالتقيّد بالموجبات المترتّبة عليها لجهة إبلاغها بالعمليات المشبوهة. وهذا ما نستشفّه من تتمّة كتابها بأنّه “يتعذّر عليها قانوناً أن تتّخذ أيّ قرار بخصوص هذه الحسابات أو الطّلب من المصارف تزويدها بالأسماء لعدم وجود شبهات عليها”. فإذا تمّ ذلك، انتقلَتْ الهيئة من إعلان عدم استجابتها للطلب إلى حدّ إدانته من خلال التلميح إلى أنّه مبنيّ على اعتبارات سياسية، حيث جاء حرفياً في متن جوابها أنّه “في حال تمّ تجاوز القانون في هذه القضية، فإنّ ذلك سيفسّر بأنّ الهيئة تقوم بتنفيذ قرار سياسي ممّا يضرب الاستقلالية التشغيلية للهيئة والتي يفترض ألّا تتأثّر بقرارات طابعها سياسي وفق المعايير الدولية التي ترعى عمل وحدات الإخبار المالي”. وبذلك تمّ ردّ طلب رفع السرّية المصرفية عن هذه التحويلات.
وفي تاريخ 24 حزيران 2021، عادت النيابة العامّة التمييزية لتوجّه كتاباً آخر إلى هيئة التحقيق الخاصّة في شأن التحويلات طلبتْ بموجبه تزويدها بمعلومات كافية عن التّحويلات الحاصلة في سنوات 2019 و2020 و2021 بطلب أيّ من الموظّفين العموميّين وفق التعريف الواسع والوارد في قانون الإثراء غير المشروع والذي يشمل عموماً كلّ من يقوم بخدمة عامّة أو يستفيد من موارد عامّة. ويلحظ أنّ النيابة العامّة عمدتْ هذه المرة، إلى مطالبة هيئة التّحقيق الخاصّة بالمعلومات، ليس على أساس قانون تبييض الأموال، ولكن على أساس قانون الإثراء غير المشروع الذي أتاح للنيابة العامّة طلب معلومات من المصارف من دون حاجة إلى موافقة الهيئة ولا إثبات توفّر عمليات تبييض أموال، وذلك تفاديّاً لما واجهتْه من ردّ سابق لطلبها. ويتأتّى ذلك بشكل خاصّ عن المادة 7 من قانون القانون الصادر في 3/9/1956 التي منعت التذرّع بالسريّة المصرفية لحجب معلومات في أيّ من جرائم الإثراء غير المشروع.
ورغم وضوح هذا الطّلب، فإنّ جمعية المصارف لم تجِدْ تبعاً لإبلاغها إيّاه، حرَجاً في إصدار تعميم لجميع أعضائها يدعوهم إلى تبنّي موقف موحّد و”أجوبة متناسقة” قوامها رفض إعطاء أي معلومات إضافية، وذلك عملاً بالاستشارة الصادرة عن المستشار القانوني للجمعية. وقد أمكن هذا الأخير الوصول إلى هذه النتيجة من خلال إجراء قراءة ملتوية لطلب النيابة العامّة من خلال تظهيره على أنّه يستند إلى قانون تبييض الأموال في موازاة تغييب متعمّد لأي إشارة إلى قانون الإثراء غير المشروع الوارد في طلب النيابة العامّة وما قد يرتّبه من نتائج ملزمة ومسؤوليات. وقد انتهت استشارة وكيل الجمعية إلى نصح المصارف بألّا تعطي أي معلومات إضافية طالما أنّها أبلغت “سابقاً جميع أسماء المشتبه بهم بالقيام بأعمال تبييض أموال بمن فيهم الموظفين الذين أجرُوا عمليات تحويل أموال في حال تمّ الاشتباه بهم”. وعليه، بدا المستشار القانونيّ للجمعيّة في استشارته وكأنّه يُعطي فتوى أو غطاء للمصارف للالتفاف حول طلب النيابة العامّة في موازاة منحها سلطة تقديرية واسعة في كلّ ما يتعلّق بطلبات المعلومات. وقد بدتْ جمعيّة المصارف في كلّ ذلك وكأنّها تنظّم خروجاً منسّقاً عن القانون، تحت غطاء حجج واهية أو كأنّها تؤدّي مجدّداً دور جمعية الأشرار التي يتفق ضمنها على الخروج عن القانون والنّيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرّض لمؤسّساتها المالية والاقتصادية.
السرّية المصرفية كأداة لمنع محاسبة قضايا فساد
قضية الأخوين رياض ورجا سلامة
في العام 2020، فتحت النيابة العامّة الاتّحادية السويسرية تحقيقاً في قضية اصطُلح على تسميتها “التحويلات السويسرية”. تتضمّن هذه القضية شُبهات حول اختلاسات وأرباح غير مشروعة وغسيل أموال حقّقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا سلامة تصل إلى حدود 500 مليون دولار. إذ ذاك، طلب وكيلة النيابة العامّة السويسرية جويل باهو التعاون في الميدان الجنائي مع لبنان، وقد ورد في طلب التعاون هذا أسماء خمسة مصارف لبنانية يُشتبه أنّ عمليات تبييض الأموال والتحويلات قد جرتْ من خلالها.
تحرّكت النيابة العامّة التمييزية بناء على الطلب السويسري وذلك عبر المحامي العام التمييزي جان طنّوس الذي استلم لتحقيق في الملفّ، حيث راسل هذه المصارف طالباً منها المعلومات المتّصلة بهذه القضية، هنا أيضاً على أساس قانون الإثراء غير المشروع. رفضتْ المصارف الإذعان لطلب القاضي طنّوس بحجة أنّ السرّية المصرفية تمنعها من الكشف عن حسابات العملاء لأيّ جهة حتى ولو كانت قضائية. وتشكّل ممانعة المصارف في تسليم المعلومات مخالفة قانونية ليس فقط بفعل تعارضها مع قانون الإثراء غير المشروع ولكن أيضاً بفعل تعارضها المحتمل مع الإجراءات التي حدّدها القانون رقم 55 الصادر في 27/10/2016 لتبادل المعلومات الضريبية للحصول على المعلومات الوافية من الخارج بالنسبة للمكلّفين المقيمين ضريبياً في لبنان وبخاصّة في حال ثبت أنّ الأرباح المتأتّية من العمليات المالية على المال العام موضوع الملاحقات لم يتمّ تسديد الضرائب المترتّبة عليها عملاً بالقوانين الضريبية اللبنانية المرعية الإجراء.
ورغم وضوح المخالفة، فإنّ “بنك ميد” (وهو أحد المصارف المذكورة في الطلب السويسري) لم يتوقّف عند ارتكاب هذه المخالفة، بل عمد علاوةً على ذلك إلى استخدام السرّية المصرفية لعرقلة التحقيق برمّته. وقد تمّ ذلك من خلال تقدّمه بدعوى مخاصمة الدولة على خلفية ما أسماه الأخطاء الجسيمة المرتكبة من المحامي العام جان طنوس في هذه القضية، وفي مقدّمتها عدم احترامه قانون السرّية المصرفية. ومن شأن هذه الدعوى أن تمنع القاضي طنّوس من القيام بأي خطوة قضائية ضدّ المصرف قبل انتهاء البتّ بهذه الدعوى.
وما يزيد من تعسّف “بنك ميد” أنّه ليس مدّعى عليه بهذه القضية، بل مجرّد شاهد على العمليات المصرفية التي أجراها الشقيقان سلامة من خلاله[2] [3] [4] .
بيان ائتلاف استقلال القضاء تعليقاً على الدعوى التي تقدّم بها “بنك ميد”،
يهمّ ائتلاف استقلال القضاء إبداء الملاحظات الآتية:
أوّلاً، رغم الكارثة المالية والمصرفية التي تسبّبت بها المنظومة الحاكمة السياسية والمالية طوال العقود الثلاثة الماضية وأفقدتْ المُودعين مدّخراتهم ودمّرت الاقتصاد الوطني، رفض البرلمان مرّات عدّة الموافقة على رفع السرّية المصرفية وبخاصّة عن المسؤولين العموميين أو حتى تخويل القضاء رفعها في قضايا الفساد (الجلسة التشريعية المنعقدة في 28 أيار 2020)، حافظاً لهيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان (والتي يرأسها حاكمُه رياض سلامة المشتبه به بنفسه) الصلاحية الحصرية لرفع السرّية المصرفية. وفي حين أنّ قانون السرّية المصرفية الصادر في 3/9/1956 استثنى جرائم الإثراء غير المشروع مخوّلاً المراجع القضائية المختصّة تجاوزها في هذا الخصوص، تعكس الدعوى الحاضرة تعسّف المصارف في الاستجابة لهذا الاستثناء. وعليه، وبدل أن يتمّ تضييق مجال السرّية المصرفية لتمكين القضاة من إجراء التحقيقات اللازمة تمهيداً لاسترداد ما أمكن من خسائر، تذهب هذه الدعوى في اتّجاه كفّ يد القاضي باسم سرّية أضخم ممّا يفرضه القانون.
ثانياً، يشكّل الادّعاء بمخاصمة الدولة استهدافاً لعمل القاضي طنّوس ومسعىً لعرقلة التحقيقات التي يقوم بها في قضية الأخويْن سلامة، كلّ ذلك باسم السرّية المصرفية. وهو مسعىً يشبه في عمقه تماماً مساعي عرقلة التحقيق في قضية تفجير المرفأ والتي تستهدف عمل المحقّق العدلي طارق بيطار باسم الحصانات على اختلافها. وعليه، فإنّ أيّ قراءة موضوعية لهذه الإجراءات والمعطيات تبيّن أنّ الهدف المشترك منها هو تحصين منظومة الإفلات من العقاب في مواجهة القضاة الذين تجرّأوا ويتجرّأون عليها.
ثالثاً، أنّ عرقلة عمل القاضي طنّوس في هذه القضية ستضع لبنان في وضع حرج حيال السلطات القضائية الأوروبية وبخاصّة السويسرية التي زوّدته بمعلومات دسمة حول مخالفات سلامة. فمن شأن ذلك أن يظهر لامبالاة فاقعة من لبنان في استرداد أمواله المنهوبة رغم الكارثة الواقعة فيه بالمقارنة مع حماسة سويسرا وإجراءاتها الفعلية وكذلك فرنسا وإجراءاتها الجارية لتمكينه من القيام بذلك.
وعليه، وأمام هذه المساعي لحماية منظومة الإفلات من العقاب، يطالب الائتلاف:
أوّلاً، جميع الهيئات القضائية وفي مقدّمتها الهيئة العامّة لمحكمة التمييز بذل الجهود اللازمة والهادفة لوضع حدّ لنظام الإفلات من العقاب، وعملياً لتضييق مجال الحصانات والسرّية المصرفية وأي مرتكز آخر لهذا النظام. وهذا الأمر ملازم لطبيعة الوظيفة القضائية التي تقوم أساساً على مبدأيْ المحاسبة والمساواة. ونعلن هنا أنّ البوصلة التي سنعتمدها كائتلاف لتقييم القرارات القضائية، تتمثّل في قياس أثر هذه القرارات على توسيع هذا النظام أو تضييقه.
ثانياً، المجلس النيابي الإسراع في إقرار قانون رفع السرّية المصرفية عن كلّ المسؤولين العامّين والمعرّضين سياسياً مع تخويل القضاء في جميع الحالات إمكانية رفعها في أي من قضايا الفساد، مع التشديد على استثناء جرائم الإثراء غير المشروع من السرّية المصرفية.
ثالثاً، الحكومة اللبنانية اتخاذ ما يلزم من قرارات والشروع السريع في الإجراءات المتاحة لحماية واسترداد ما نهب من المال العام و/أو اكتُسب بصورة غير مشروعة ومحاسبة المخلّين والمسؤولين والتعويض على المتضرّرين وذلك، بأسرع وقت ممكن قبل سقوط المهل وتبديد الأموال والأصول، وفق الدراسة العلمية والعملية المقدّمة لها (للحكومة) كهبة من أحد أعضاء الائتلاف (الجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين – آلديك)،
رابعاً، القوى الاجتماعية بأوسع تعبئة والتفاف ممكنين حول القضاة الذين يجهدون لتضييق نظام الإفلات من العقاب، في مواجهة جميع التعدّيات والحملات ضدّهم، وفي مقدّمتها الحملات الإعلامية والسياسية المركّزة. فليس من الجائز أن نطالب القضاة بالتصدّي لانتهاكات جسيمة لحقوق المجتمع رغم كلّ المخاطر التي تتهدّدهم من دون أن نمنحهم ما أمكننا من تضامن ومؤازرة.
قضية سوناطراك
ثمة قضية فساد ثانية بالغة الأهمية تمّ استخدام السريّة المصرفية فيها لمنع المحاسبة وهي دعوى سوناطراك[6]. ما يميّز هذه القضية عن قضية الأخوين سلامة هو أنّ السرّية فيها استخدمت ليس لحماية أشخاص من القطاع العام، بل أيضاً العديد من أشخاص وشركات القطاع الخاص. فرغم أهمّيّة التحقيقات التي قامت بها النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، إلّا أنّ هيئة التحقيق الخاصّة ردّت طلبها برفعَ السرّيّة المصرفية بحجّة أنّها لم تتبيّن بتقديرها الذاتي ما يشير إلى حصول تبييض أموال. وقد منعتْ السرّية القاضية عون وفق ما صرحت به في حديث متلفز في تاريخ 18/11/2020 من تكوين صورة واضحة عن شبكات العلاقات المالية بين مختلِف المشتبه بهم.
سردية الدفاع عن السرّية المصرفية
لعلّ أفضل من نظّر ممثلاً هذا النظام بدفاعه عن السرّية المصرفية كان نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي[7] الذي اعتبر أنّ المحافظة على هذه السرّية ضرورة يفرضها ماضينا التشريعي والمصرفي (إيفاؤنا لعهدٍ قطعناه للمودعين لاجتذاب أموالهم) كما المستقبل (استعادة لبنان سابق ازدهاره).
ومن أهمّ ما قاله حرفياً في هذا الخصوص: “هناك أجانب أتوا ووضعوا أموالهم في لبنان … من أين أملك الحقّ أن أعرّض هؤلاء لشتّى أنواع الملاحقات في بلدانهم لأنّي رفعت السرّية المصرفية عنهم؟ من أين لي الحقّ أن أنكث كطرف بعقد أحدهم أتى وقال أريد أن أودع لديك المال على أساس أن لديك سرّية مصرفية وآتي وأرفعها؟ أعتقد أنّ في استطاعتهم عندها مقاضاة الدولة لنكوثها بالعقد الذي وقّعه الطرفان. هذا في ما يتعلق بالماضي”. وفيما أنّ كلام الفرزلي حول وجود تعاقد بين الدولة والمُودعين وإمكانية مداعاتها من قبل هؤلاء هو نوع من السفسطائية العبثية، يستشفّ منه توجّه إلى تثبيت أمرين: الأوّل، أنّ المجتمع الذي حصد أغنام هذه السرّية (والتي تمثّلت في تدفّق الرساميل على المصارف اللبنانية)، عليه أن يتحمّل غرمها بمعنى أن يتقبّل أي نتائج سلبية قد تنتج عنها، حتى ولو أدّت إلى طمس المسؤوليات المالية كافّة. فـ “لولا السريّة المصرفية، لما كنّا حتى اليوم … نعيش كما نحن على قاعدة الأمل بالغد”. والثاني، قلب الحديث عن كيفية استعادة الثقة الدولية في لبنان رأسا على عقب. ففيما راج خطاب بأنّ التدقيق الجنائيّ شرطٌ لاستعادة الثقة الدولية في لبنان والحصول على قروض باتت أكثر من ضرورية للخروج من الأزمة، فإن الفرزلي نقض بما له من تمرّس للخطابة هذا المنطق من خلال اختزال الثقة الدولية بثقة المودعين الأجانب بلبنان والتي تختلّ من دون ريب في حال حصول أي مسٍّ بها. لا بل ذهب الفرزلي في هذا السياق حدّ التساؤل عن “الغاية من تدمير ممنهج لثقة هذا المجتمع الدولي بما تبقى في لبنان بسبب السرّية المصرفية إرضاء لهذا من الناس أو ذاك؟”
أما بما يتّصل بضرورات المستقبل، فقد أخذ تصريح الفرزلي هنا أيضا طابعاً وجودياً لا يترك مجالاً لأيّ رأي مخالف، معتبراً إيّاها شرطاً أساسياً لإعادة بناء الاقتصاد. “إذا أردت أن أرفع السرّية المصرفية في المستقبل بربكم قولوا لي من أين نعيش؟ من التفاح والعنب…؟”. وقد ختم بسؤال: “كيف يستطيع العامل أن يجد لنفسه عملاً بسبب عدم مجيء رأس المال إلى لبنان. وإذا لم يكن هناك رأسمال فكيف نستطيع إيجاد المعامل وإلى ما هناك من أعمال يستطيع فيها لبنان أن يعود إلى سابق ازدهاره واقتصاده؟” وقد خلص تبعاً لكل ذلك إلى اعتبار أنّ أيّ حديث عن إلغاء السرّية المصرفية هو “إساءة إلى مصلحة البلد العليا الاقتصادية والنقدية”.
من هذه الزاوية، بدا الفرزلي بما يمثّله من تعبير حقيقيّ عن توجّهات النظام السائد وكأنه يضع اللبنانيين أمام خيارٍ مشابه للخيار الذي واجهوه بعد انتهاء الحرب: فإمّا أن يتمسّكوا بالمحاسبة والحقيقة وهو أمر لا يتلاءم أصلاً مع ظروف والتزامات الماضي، وإمّا أن يختاروا الأمل بالمستقبل والذي لا يُبنى إلّا بقوّة النسيان وطيّ صفحة الماضي ومقولة “عفا الله عمّا مضى[5] “.
حماسة رفع السرّية المصرفية التي لم تدمْ طويلاً
منذ انتخاب مجلس النوّاب الحالي، خرجتْ كتل عدّة تعلن رغبتها في رفع السرّية المصرفية عن المسؤولين العامّين في سياق خطابها حول مكافحة الفساد. إلّا أنّ العديد من الكتل النيابية تراجعت عن تعهّدها هذا حين بلغ اقتراح قانون رفع السرّية عن العاملين في القطاع العام محطّة التصويت الأخيرة في الجلسة التشريعية المؤرخة في 28 أيّار 2020. فما أن بدأت مناقشة هذا الاقتراح حتى علتْ أصوات من كتل المستقبل واللقاء الديمقراطي والتنمية والتحرير تطالب بنزع صلاحية رفع السرّية المصرفية من يد القضاء تحت ذريعة الخوف من الممارسات الكيدية والانتقاميّة وضرورة إقرار قانون استقلالية القضاء قبل هذا القانون. وعليه، طالبوا بإبقاء هذه الصلاحية محصورة بيد هيئة التحقيق الخاصّة إلى جانب الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (والتي لم تنشأ بعد). وكان أبرز المدافعين عن هذا التوجّه النائب وائل أبو فاعور الذي استرسل في شرح الممارسات الكيدية للقضاء. كما صرّح رئيس المجلس النيابي نبيه برّي أنّ في لبنان قضاة لا قضاء. وطالب النائبان أنور الخليل وهادي حبيش بنزع صلاحية رفع السرّية المصرفيّة من القضاء. ورغم اعتراض نوّاب آخرين، أبرزهم النائب حسن فضل الله الذي اعتبر أنّه في حال نزع هذه الصلاحية من القضاء نصبح أمام قانون مفرّغ من مضمونه، صدّق المجلس النيابي اقتراح القانون بعد حصر رفع السرّية بالهيئتيْن المذكورتين. وعليه، يكون المجلس النيابي قد أفرغ أحد أهمّ القوانين الإصلاحيّة من جزء كبير من جوهره.
وفي حين ردّ رئيس الجمهورية ميشال عون في تاريخ 19 حزيران 2020 الاقتراح المصدّق بموجب المرسوم 6490/2020 إلى مجلس النوّاب طالباً إعادة النظر في إنكار دور القضاء في رفع السريّة، فإنّ الهيئة العامّة للمجلس لم تعدْ التصويت عليه حتى اللحظة. ومن الملفت أنّ ردّ رئيس الجمهورية للقانون استند بشكل رئيسي على عدم سدادَة حجب صلاحيّة رفع السرّية المصرفية عن القضاء معتبراً أنّه من الضروري إسناد ذلك للنيابات العامّة للقيام بهذا الدور لكونها صاحبة الاختصاص في ملاحقة كافة الجرائم.
نُشرت هذه المقالة في العدد 2 من “ملف” المفكرة القانونية | جرائم نظام من دون عقاب (المحور الأوّل – ممارسات الإفلات من العقاب(
[1] عماد صائغ، حين عطّل حاكم مصرف لبنان التدقيق الجنائي في حساباته: قراءة في الحجج والحجج المضادة، المفكرة القانونية، 30/11/2020.
[2] تغريدة للنائب إبراهيم كنعان في 14/11/2020.
[3] وسام اللحام،مسرحية التدقيق الجنائي في البرلمان: قرار اللا قرار، المفكرة القانونية، 28/11/2020.
[4] عماد صائغ، تمديد العمل بقانون رفع السرّية المصرفية لأغراض التدقيق الجنائي، الفكرة القانونية-المرصد البرلماني، 27/10/2021.
[5] نزار صاغية وعماد صائغ، “جمعية المصارف” تتربّع على علبة باندورا: توزيع أدوار لإخفاء التحويلات إلى الخارج، المفكرة القانونية، 14/10/2021.
[6] نزار صاغية وعماد صائغ، سوناطراك أو احتكار الفساد، المفكرة القانونية، ملف من 5 أجزاء نُشر بدءاً من 9/9/2020.
[7] “الفرزلي دافع عن رفع السرّية المصرفية: لولاها لما كنا حتى اليوم .. ولا للكيديات”، الشرق أونلاين، 4/11/2020.