ارتبطت السجون والمعتقلات في التاريخ السياسي المعاصر لتونس بالاستبداد وثقافة التفرّد بالحكم والرأي. فكانت من مظاهر بطش السلطة وقدرتها على إقصاء الآخر المعارض لها. فالسجن في وظيفته السياسية كان إقصاء للمسجون من ساحة الفعل ومنع بما له من رهبة وما يصنع ذكره من خوف لغيره من السير على دربه. فالسجن بالنسبة للسجين السياسي أو سجين الرأي، ليس مجرّد تقييد للحريّة، بل كلفة فرضتها السلطة غايتها حرمانه من ممارسة حقوقه وإسكات صوته، ولكن أيضًا غايتها إشاعة مناخ الخوف والترهيب في صفوف من هم خارج أسوار السجن. يتحوّل السجين هنا إلى قربان للحرية.
وكانت قد أظهرت العدالة الانتقالية في توثيقها لشهادات مختلف من مرّوا بالتجربة من سياسيين وحقوقيين المآسي التي عاشها السجناء ممّن حلموا بتونس غير تلك التي كانت، وكان يظن أنها بذلك كتبت صفحة في التاريخ لن تقرأ مستقبلًا إلا كعبرة. ولكن ومع تنامي الاستبداد مجددا، عادت أبواب السجن لتنفتح أمام معارضيها وأصحاب الرأي.
وعليه، عادت السجون بعد 25 جويلية 2021 لتستقبل السياسيين وأصحاب الرأي والنقابيين والمحامين، من مشارب أيديولوجية وسياسية مختلفة إمًا إيقافًا تحفظيًا أو تنفيذًا لأحكام سجنية، في محاكمات تستهدف في عمقها الحريات العامّة في مقدمتها حرية الرأي والنشاط السياسي، قضلا عن أنها تفتقد لضمانات المحاكمة العادلة من جهة واقع وضع يد السلطة يدها على القضاء، وكلّ ذلك في مناخ إرساء نظام سلطوي.
وقد كشفت التجربة الجديدة عن كون السجن بما هو وسيلة وأداة في إدارة الصراع السياسي تضيء فيما زاد عن الألم والإحساس بالحيف على أبعاد أخرى منها النضال عن حقوق المساجين.
المطالبة بظروف إنسانية في المحنة السجنية: طلب تمييزي؟
أودع جلّ المساجين السياسيين من الرجال في سجن المرناقية، الواقع في اطراف العاصمة ، أما النساء ففي السجن المدني للنساء بضاحية منوبة غير البعيد جغرافيا عنه . في السجنين وغيرهما من السجون التي استقبلت سياسيين، غابت العدائية في علاقة السجين الخاص بأعوان السجون الذين يحيطون به طوال الوقت. هذا يعود لكون الثاني حتى هذا التاريخ يحرص دوما على إبراز أنه يمارس عمله بمهنية. فلا ينكل بزواره من “القادة ” كما يسمونهم في أحاديثهم الداخلية ولأن الأولين بالذكر يعلمون أن معركتهم ليست مع من يشاركهم السجن بل مع من وضعهم فيه فيتفهمون الضغوط المسلطة على سجانيهم وظروف عملهم ولكن ذلك لم يمنعهم من الاحتجاج المتكرر على وضعهم بمعتقلاتهم.
أدان المتّهمون الموقوفون واقع إقامتهم وإعاشتهم ودعوا إلى تحسينها، خطابٌ استغلّه أنصار النظام للقول أن ظروف السجن الصعبة جامعة بين كل المودعين بما تشمل مساجين الحقّ العامّ وأنّ السياسيين يطلبون تمييزهم وهذا ما ترفضه الدولة العادلة. وهذا يغفل طبعا أن توفّر ظروف إنسانيّة في الوحدة السجنية هي حقّ لكل نزيل بغض النظر عن صفته أو مكانته أو طبيعة قضيّته. إن قدرة المساجين السياسيين على تبليغ احتجاجاتهم ومطالبهم عبر هيئات دفاعهم بالخصوص، والتي تتداولها بالتبعية وسائل الإعلام، هي بوّابة لإبلاغ نداءات كل المساجين على حدّ السواء.
من غير المختلف فيه أن السجن ليس مكانًا تُطلب فيه الرفاهية، ومما يجب الوعي به بموازاة ذلك أنه ليس مكانًا لانتزاع الآدمية. وهنا كشف المساجين السياسيين عن عديد مواطن الخلل. فقد أظهرت احتجاجاتهم أن السجن في الصيف معاناة بيّنة بالخصوص بسبب الحرارة وانقطاع الماء أحيانًا. ففي جوان 2023، وخلال موجة الحرّ، تسبّب انقطاع الماء بسبب عطل فنّي عن غرفة السّجين السياسي أمين عام الحزب الجمهوري عصام الشابي، الموقوف على ذمّة قضية “التآمر على أمن الدولة”، في حرمانه لأيام عديدة من الاغتسال. وأعلمت عائلته حينها أن تعطّب أداة التبريد أدّت لتعفّن المأكولات ما ألزمه بالاكتفاء بالخبز والزيت لمدة ثلاثة أيام.
كما بينت ذات الاحتجاجات أهمية الحق في العلاج، فلم تنكر أنّه مكفول في حدّه الأدنى لتوفّر وحدة صحيّة بالسجن، ولكنها نبهت لكون الأمراض الخصوصية التي تستدعي القيام بفحوصات لا تتمّ إلا بالمستشفيات العمومية بما تستلزمه من آماد انتظار. على سبيل المثال، في صيف 2023، واجه عبد الحميد الجلاصي، الموقوف على ذمة قضية “التآمر”، والذي عرف السجون سابقًا زمن الاستبداد في حقبتيْ بورقيبة وبن علي، متاعب بعد تعرّضه لأزمة حادّة على مستوى الكلى. لم تكن السرعة في معالجة حالته الصحية محقّقة.
و يظلّ الحق في متابعة الشأن العام من خلال قراءة الجرائد الورقية و متابعة التلفزيون مما يناضل من أجله مساجين الرأي ، إذ أنه مقيّد لتحديد إدارة السجن الأعداد الورقية الممكن اقتناؤها أو القنوات التلفزية الممكن مشاهدتها. هي سلطة تقديرية للإدارة مطلقة لا تخضع لأي معيار.
وإجمالًا دائمًا ما يتمّ تصدير مسوّغ “ضعف الإمكانيات” إثر الاحتجاج على محدودية توفر الظروف الإنسانية في الإقامة من اكتظاظ ونظافة أو الإعاشة. هذا المسوّغ الذي طالما يردّد في المنابر يُعاين كحقيقة مباشرة ولكن بشكل مؤلم داخل السجون بالنظر لآثاره.
وقد دفع السجن بعديد المعتقلين لشنّ إضرابات جوع منها الإضراب الذي خاضه القيادي في حركة النهضة الصحبي عتيق لما يزيد عن شهرين قبل رفعه استجابة لنداء شخصيات وطنية بعد تدهور حالته الصحية. الموقوفون في قضية “التآمر” خاضوا بدورهم في أكثر من مناسبة إضرابات جوع جماعية وفردية، متزامنة ومتلاحقة أيضًا، وأحيانًا كانت وحشية على غرار الإضراب الذي خاضه جوهر بن مبارك. ريان الحمزاوي بدوره في قضية “التآمر 2” كان ضمن قائمة المضربين عن الطعام. إذ يعدّ إضراب الجوع أداة نضالية لتسليط الضوء على المظلمة وأيضًا وبالخصوص توجيه رسالة مفادها افتداء الحياة من أجل الحرية.
عائلات المساجين.. بطولة أخرى
في خضمّ المحنة السجنية، تخوض عائلات المساجين بدورها بطولات خفيّة في إسناد ذويهم، ليس أقلّها إدارة شؤون العائلة دون دعم من الشريك، وتوفير الإعاشة “القفّة” للأخير مرتين في الأسبوع دون عن الزيارة الأسبوعية في طوابير انتظار طويلة. محنة عاشتها عائلات المساجين السياسيين من الإسلاميين على وجه الخصوص زمن ما قبل الثورة، وتوسّعت راهنًا لتشمل معتقلين من أطياف متعددة من سياسيين ومحامين وصحفيين ومدوّنين.
وهي محنة دفعت لتقارب إنساني وبناء علاقات صداقة بين هاته العائلات، ولكن أيضًا دفعت لتطوير أشكال نضالها. إذ تشكّلت تنسيقية لعائلات المعتقلين في قضية “التآمر” لتنظيم المد التضامني والإسنادي. تنسيقية حفّزت، في شهر مارس 2024، لتأسيس رابطة عائلات المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي تتبنّى، وفق بيانها التأسيسي، “كلَ ضحايا القضايا السّياسيّة ومحاكمات الرّأي دون تمييز”. وهي تعمل وفق مسارين أساسيين الأول الحياة المعيشية داخل السجن والثاني هو العمل على ضرورة توفير ضمانات المحاكمة العادلة. هيكل مستجدّ في الساحة الحقوقية يعكس تزايد الوعي بين عائلات المعتقلين حول وحدة القضية والمصير بما يدفع لوحدة العمل المشترك فيما بينها.
ونظمت الهياكل التنسيقية مبادرات جماعية ذات طابع تضامني على غرار الإفطار الجماعي خلال شهر رمضان أمام سجن المرناقية إسنادًا لذويهم داخل أسواره. كما تشاركت عديد العائلات في تنظيم تحركاتها الحقوقية كتقديم قضايا أو القيام بإجراءات تتبّع باسم المعتقلين عبر الآليات الدولية قارية كانت أو أممية.
ويعي السجين السياسي عمومًا أن كلفة السجن لا يدفعها لوحده، بل تدفعها عائلته معه، وإن ما كان الشعور الذاتي بالظلم، فهو يتعزّز بما سببّه من متاعب جسدية ونفسية لأقربائه. والمعضلة هو حرمان السجين السياسي المحال على معنى قانون مكافحة الإرهاب من مقابلة ذويه مقابلة شخصية ومباشرة، رغم الحصول على إذن قضائي أحيانًا، وذلك بسبب التراتيب الجاري بها العمل في السجون ضد ما يصطلح على تسميتهم في المتداول السجني بـ”المصنّفين”.
المحامون: لست وحدك أيها المعتقل
المحامي عن السجين السياسي أو سجين الرأي ليس فقط وكيلًا عن منوّبه ومدافعًا عن حقوقه، بل هو صوته، وأحيانًا العنوان الرئيسي لتحفيز مقاومته داخل أسوار السجن. زيارات المحامين النائبين في القضايا السياسية للمعتقلين هي متنفّس دوري للسجين ليشعر أنه ليس وحيدًا محاصرًا. في قضية “التآمر على أمن الدولة”، اختارت هيئة الدفاع تنظيم جدول زياراتها بشكل يومي كي يظلّ التواصل بين السجين السياسي، بوصفه شخصية عامّة، والعالم الخارجي متاحًا، ولكن أيضًا لتأمين متابعة مستمرّة لأطوار القضية وظروف الإقامة، بما يستدعي أحيانًا تدخل الهيئة مع إدارة السجن.
وأثارت هيئة الدفاع في عديد المناسبات مسائل تتعلّق بوضعية إقامة أو نقل المساجين على غرار عدم توفر سيارات تؤمن ظروف نقل إنسانية في الحد الأدنى. وهو احتجاج أدى لإحالة عضو الهيئة إسلام حمزة على التحقيق إثر شكاية من الهيئة العامة للسجون والإصلاح. السجين السياسي موقوف تحفظيًا ومحاميه محال على التحقيق. مشهد متكرّر شمل أيضًا منسق الهيئة عبد العزيز الصيد وزميلته دليلة بن مبارك مصدق.
والعلاقة بين المحامي والسجين السياسي هي علاقة مركّبة، ليس الحقوقي المحض إلا الجانب البيّن منها، ولكن في عمقها إنسانية خاصة بالنظر لعلاقات الصداقة الشخصية غالبًا بينهما قبل محنة السجن، دون عن تكوّن روابط إنسانية داخل أسوار السجن. والملاحظ أن جلّ المحامين في هيئات الدفاع عن المعتقلين ينتمون لذات العائلة السياسية أو الحزبية على غرار جلّ المعتقلين الإسلاميين أو عبير موسي، فيما تتنوّع الانتماءات الأديولوجية والسياسية للمحامين بتنوّع انتماءات المعتقلين في نفس القضية على غرار “قضية التآمر”.
وفي هذا السياق، تبيّن تباعًا أن الحق في زيارة المحام هو موضع استهداف مباشر من السلطة في قضية “التآمر” بعد التضييقات غير المشروعة عليه إثر إحالة ملف القضية على دائرة الاتهام، عبر تقييد الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف في عدد المحامين الزائرين لكل سجين من جهة وفي عدد المساجين الذين يمكن زيارتهم في يوم واحد من جهة أخرى. تضييق غير قانوني وغير مبرّر يأتي في سياق عامّ عنوانه استهداف حق الدفاع على نحو ما بيّنه إسهال التتبعات القضائية ضد المحامين الحقوقيين.
معانقة العالم من غرفة السجن
الغاية من وضع سياسي معارض أو صحفي أو محام حقوقي في السجن هو منعه من ممارسة حرياته وتكميم صوته أو مصادرة قلمه. تقييد تنجح السلطة السياسية في فرضه دون إطلاقية عبر استمرار قدرة المساجين السياسيين، على الأقل، عن التعبير عن مواقفهم من القضايا السياسية والوطنية عبر عائلاتهم وهيئات دفاعهم بالخصوص. لا يفقد السجين قدرته على الفعل السياسي ولو بهامش محدود في نهاية المطاف، وذلك عنوان مقاومة. ومن ذلك إعلان عدد من المعتقلين على غرار عصام الشابي وغازي الشواشي وعبير موسي عن نيّتهم الترشّح للانتخابات الرئاسية 2024، متمسّكين بحقهم في المشاركة السياسية رغم واقع الاعتقال من جهة وصعوبة ولوجهم لممارسة حق الترشح من جهة أخرى وذلك سواء فيما يتعلّق بجمع التزكيات أو التمكين من بطاقة السوابق العدلية التي فرضتها هيئة الانتخابات.
في جانب آخر، رغم إرهاق الإقامة السجنية ونسق الزمن البطيء والمملّ الذي تفرضه، يختطف السجين السياسي الفرصة للقراءة عبر توسيع اطلاعاته لمجالات خارج مجال تخصّصه بالخصوص، ويمثل التاريخ، في هذا الجانب، مادة جاذبة لعديد المساجين السياسيين للقراءة واستقاء العبر. ولكن أحيانًا لا تبدو فرصة توفير الكتب يسيرة في ظل طول مدة انتظارها قبل الموافقة عليها من الجهات المختصة في هيئة السجون بالنسبة لـ”المصنّفين”. هذا وتمثل الكتابة بدورها ملجأ للمساجين، على نحو يؤشر على موجة منتظرة في زمن قادم من “أدب السجون”، بعد أن ذهب الظن بطيّ صفحة السجون السياسية في تونس.
ويوفّر، في الأثناء، الاحتكاك مع بقية المساجين وخصوصًا مساجين الحق العام من مزيد الغوص في مشاغل عموم الناس واهتماماتهم وتقديراتهم في مختلف المواضيع. يفرض السجن نفسه هنا مساحة للسياسي للتأمل والتفكر بعيدًا عن صخب اليومي وضغوطاته. وتخبرنا قصص المساجين السياسيين زمن الاستبداد أن التجربة السجنية حفّزت بإعادة قراءة المواقف والخيارات وترتيب الأولويات. هناك في السجن، لا يفقد السجين السياسي حريّته في العمق، بقدر ما تفرض عليه ممارستها في حيّز مكاني ضيّق، وفي ظروف لم يخترها.
وتبدو مقولة أن السجين الحرّ هو طليق حرّ والسجان المقيّد هو أسير القيد محفّزة. رغم متاعب الإقامة القسرية في السجن، طالما يعبّر المحامون عن رباطة جأش المساجين وارتفاع معنوياتهم. فالسجن يبقى محطة عابرة وزائلة في نهاية المطاف.