كثيراً ما يخفي خطاب القيم النبيلة و”الصالح العامّ” واقعاً من الاستغلال الاقتصادي والامتيازات. لكلّ مهنة حرّة تصوّرها لوظيفتها الاجتماعية النبيلة، وهو تصوّر تتفاوت درجة الالتزام به، في الواقع، لدى ممارسيها. لكنّ استنجادهم بهذا المخزون القيمي يبلغ أقصاه كلّما تعلّق النقاش بالدفاع عن مصالح مادّية، في علاقة بواجباتهم الجبائية مثلاً أو بتنظيم المهنة. فخصوصيّة المهن الحرّة لا تكمن فقط في اشتراطها كفاءة علمية ما، حيث يكاد هذا الشرط يكون القاعدة في تونس في عشرات المهن. إنّما ما يميّزها هو، من جهة، أنّها تنتمي إلى القطاع الخاصّ، لكنّها تخدم أهدافاً مرتبطة بالصالح العامّ، ومن جهة أخرى، أنّ تنظيم المهنة وتعديلها، وحتّى النفاذ إليها، يتمّ أساساً عبر هيئات مهنية تمثّل منتسبيها. هذه الهيئات المهنية أصبحت محلّ اتّهام، بخاصّة من طرف الشباب حديثي التخرّج، بأنّها تحمي مصالح قدامى المهنة على حسابهم. ورغم أنّ الانقسام الجيلي يأخذ أشكالاً مختلفة حسب المهنة، كما في الطبّ[1] والهندسة المعمارية والمحاماة وغيرها، فإنّه يبلغ أقصاه في قطاع صيدليّات البيع بالتفصيل، حيث يحدّ القانون بشكل واسع من فرص نفاذ منافسين جُدُد، عبر “الشرط العددي” الذي يضبط إسناد الرخص، والقواعد المنظِّمة لوراثة الرخصة. وقد نجح حراك الصيادلة الشبّان، في السنوات الأخيرة، في تصعيد قضيّتهم إلى النقاش العامّ وإلى الأجندة الحكومية. وأثمر ذلك تخفيفاً للشرط العددي، صدر في أمر حكومي سنة 2019، بدون أن يلبّي تطلّعاتهم. كما خصّصت منظّمة “ألرت”، المناهضة للاقتصاد الريعي، حيّزاً هامّاً من حملاتها الإعلامية لمثال الصيدليات الخاصّة، متبنّية مطلب تحريره أمام المنافسة. يبقى أنّ هذا النقاش لا يقتصر على تونس، بل ينخرط في سياق عالمي، بدأ منذ أواخر التسعينيّات، يعتبر المهن الحرّة قطاعات اقتصادية ينبغي أن تخضع للمنافسة كغيرها، وفي مقدّمتها قطاع الصيدلة. لكن، خلافاً لما يقال أحياناً، لا تزال دول كثيرة تقاوم هذا التوجّه، باسم سياساتها في مجال الصحّة والنفاذ إلى الدواء.
الشرط العددي، استئثار أقلّيّة بالأرباح باسم نفاذ الجميع إلى الدواء؟
يخضع فتح واستغلال صيدليّات البيع بالتفصيل، حسب القانون عدد 55 لسنة 1973 المتعلّق بتنظيم المهن الصيدلية، إلى رخصة استغلال، يُسندها وزير الصحّة بعد أخذ رأي مجلس هيئة الصيادلة. لكنّ هذه الرخصة، على خلاف الرخص الأخرى، لا تُعطى للمتدخّلين في قرار منحها سلطة تقديرية، مع ما قد يعنيه ذلك من محسوبيّة أو اعتباطيّة. إنّما ما يميّزها، على العكس، هو ارتباطها ليس بشرط احترام مسافة دنيا بين الصيدليات[2] فقط، بل أيضاً بشرط عددي صارم، حسب عدد السكّان، وفق الترتيب في قائمات الانتظار. تطوّر هذا الشرط منذ 1973، حين كان المعيار موحَّداً بالقانون، بحساب صيدليّة لكلّ 5 آلاف ساكن، قبل أن يميّز تنقيح 1976 بين صيدليّات النهار وصيدليّات الليل، وهي خصوصيّة تونسيّة[3]، ويحيل إلى أمر حكومي ينظّم التوزيع الجغرافي للصيدليّات. حافظ الأمر التطبيقي لسنة 1976 على معيار 5 آلاف ساكن لصيدليّات النهار (صنف أ)، لكنّه أضاف معيار 100 ألف ساكن لصيدليّات الليل (صنف ب). إلّا أنّ التطوّر الأبرز، على الأقلّ قبل إصلاح نوفمبر 2019، يعود إلى أمر 22 جوان 1992، الذي قسّم، في علاقة بصيدليّات النهار، التراب الوطني إلى خمس مناطق، حسب “معدّل رقم معاملات الصيدليّات بالنسبة إلى كلّ ساكن”. حسب هذا النصّ، يبدأ الشرط العددي بـ 4 آلاف ساكن في المنطقة الأولى، ليتضاعف من منطقة إلى أخرى حتّى يبلغ 64 ألف ساكن في المنطقة الأخيرة. أي أنّ “إصلاح” سنة 1992 رفّع في الشرط الديمغرافي في جميع المناطق، باستثناء 36 معتمديّة في المدن الكبرى. أمّا صيدليّات الليل، فظلّت تخضع إلى معيار موحَّد، وهو 70 ألف ساكن، لكن مع اقتصارها على البلديات، رغم أنّ هذه الأخيرة لم تكن تغطّي، إلى حدود سنة 2014[4]، سوى ثلثي سكّان البلاد. وكاستثناء للمعيار العددي، أجاز أمر 1992 فتح صيدليّة نهار في كلّ معتمديّة لا توجد فيها واحدة، وصيدليّة ليل في كلّ بلديّة لا توجد فيها واحدة، بغضّ النظر عن عدد سكانها.
لكن سرعان ما ظهرت حدود هذه المعايير، ممّا حتّم مراجعة الأمر مرّات عديدة. أوّلاً، سنة 1993 لإضافة استثناءات بخصوص بعض معتمديّات المدن الكبرى التي لم يسعفها رقم المعاملات المصرَّح به كي تُصنَّف في المنطقة 1؛ ثمّ سنة 2004 عبر المرور إلى ستّ مناطق بدل خمس، بشرط عددي يتراوح بين 4 آلاف و24 ألف. أمّا تنقيحا سنة 2007، فقد تضمّنا تخفيض الشرط العددي لصيدليّات الليل إلى 60 ألف ساكن، وحذف المنطقة السادسة بخصوص الشرط العددي لصيدليّات النهار، وإضافة استثناءات أخرى، سواء للبلديّات الأكثر استهلاكاً للدواء، أو للعمادات خارج التراب البلدي التي تضمّ 4 آلاف ساكن على الأقلّ.
رسميّاً، يهدف هذا النظام إلى تفادي تَمَركُز جميع الصيدليّات في المناطق الحضرية، ودفع الصيادلة الجُدد الراغبين في فتح صيدليّة خاصّة، بدون البقاء سنوات طويلة، وأحيانا عقود، على قائمات الانتظار، إلى التوجّه إلى المناطق الأقلّ نموّاً. فاشتراط عدد كبير من السكّان في المناطق الأفقر لم يكن فقط ناتجاً عن الفرق في استهلاك الدواء، وإنّما هدف أيضاً إلى ضمان مردوديّة عالية لصيدليّات المناطق النائية، كتعويض عن “التضحية” التي يشكّلها الانتصاب بعيداً عن كبرى المراكز الحضرية. لكنّ محاولة التوفيق بين مردوديّة الصيدليّات من جهة، وحقّ الناس في النفاذ إلى الدواء، أدّت إلى تغليب الأولى. فرغم انتشار الصيدليّات جغرافياً طيلة عشريّة التسعينيّات وارتفاع عددها بـ 44%، ظلّ نفاذ سكّان المناطق الريفية إلى الدواء ضعيفاً، بخاصّة قبل تنقيح 2007، إذ يحتّم عليهم هذا النظام، في أحيان كثيرة، قطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى صيدليّة.
ليس هاجس التشريع تسهيلَ النفاذ إلى الدواء، بل تقسيم الكعكة المالية على الصيادلة المنتصبين.
تزامنت هذه السياسة مع استقالة الدولة تدريجياً من دورها في توفير الدواء. فقد واجهت دولة الاستقلال معضلة اقتصار الصيدليّات على المدن الكبرى، ومحدوديّة الصيادلة بعد رحيل معظم المعمّرين، بسياسة فتح وكالات صيدلية ريفية تابعة للصيدليّة المركزية. منذ التسعينيّات، توقّفت الدولة تقريباً عن فتح وكالات جديدة، وتوجّهت إلى تحويل الوكالات الموجودة إلى رُخص صيدليّات خاصّة[5]. كما لم تذهب في خيار تشجيع فتح صيدليّات جديدة في الأرياف عبر المِنَح المالية، كما في بعض الدول كإنجلترا والدانمارك، وفضّلت تحميل سكّان الأرياف عبء ضمان مردوديّة الصيدليّات، حتّى على حساب حقّهم في النفاذ إلى الدواء. خيارٌ ينسجم مع سياسة الدولة منذ نهاية الثمانينيّات في قطاع الصحّة، القائمة على تراجع الاستثمار العمومي مقابل تشجيع الخوصصة وتحميل “المستهلك” نفقات الصحّة. فبين 1985 و2000، تراجعت نسبة المساهمة العمومية في نفقات الصحّة من النصف إلى أقلّ من الثلث (31 %)، في حين ارتفعت مساهمة الأُسر بصفة مقابلة، من الثلث إلى النصف (49 %)[6]. وبما أنّ سوق الدواء تمثّل جزءاً هامّاً من هذه النفقات، فإنّ الهاجس الأكبر للسلطة لم يكن تسهيل نفاذ جميع التونسيين إلى الدواء، بل ضمان أفضل تقسيم ممكن للكعكة المالية على الصيادلة الموجودين.
توريث الصيدليّات، أو إعلاء الثروة والأصل العائلي على الاستحقاق
يبقى أنّ الاحتجاج على نظام الشرط العددي أتى بالأخصّ من طرف الصيادلة الشبّان، الذين انسدّت أمامهم آفاق فتح صيدليّة خاصّة، ليس فقط في المدن الكبرى، بل حتّى في المناطق الداخلية. إذ إنّ عدد الرخص الجديدة المفتوحة سنوياً أقلّ بكثير من عدد الصيادلة الجدد المتخرّجين، بدون اعتبار الموجودين أصلاً على قائمات الانتظار. تفاقمت هذه الفجوة سنة بعد سنة، ممّا عقّد وضعيّة كلّ دفعة جديدة من الصيادلة أكثر من سابقاتها، بخاصّة في ظلّ محدوديّة آفاق الشغل الأخرى. حسب الجمعيّة التونسية للصيادلة الأحرار، بلغ عدد الصيادلة العاطلين عن العمل 1800. ورغم صعوبة التأكّد من دقّة الرقم فإنّه قابل للتصديق عندما نقارنه برقم الهيئة الوطنية للصيادلة، في تقريرها الأدبي السنوي لسنة 2019، حول الصيادلة المسجَّلين الذين لم يصرّحوا بنشاط معيّن، والبالغ 2255[7]. فالأكيد أنّ آلاف الصيادلة الشبّان وجدوا أنفسهم، بعد تخرّجهم، أمام ضرورة الاختيار بين البطالة أو الهجرة أو القبول بمهن لا تلبّي طموحاتهم، بأجور متوسّطة، كالاشتغال في صيدليّات خاصّة بصفة نائب صيدلي، أو لدى الشركات المصنّعة للأدوية، مندوبين مكلّفين بالترويج لمنتوجاتها لدى مهنيي الصحّة، بخاصّة في ظلّ تقلّص فُرص الانتداب في القطاع الاستشفائي العامّ القليلة أصلاً.
وضعيّة الصيادلة الشبان نموذج صارخ عن أزمة انسداد العقد الاجتماعي القائم على التعليم مصعداً اجتماعياً.
هنا، تبدو وضعيّة الصيادلة الشبّان نموذجاً صارخاً عن أزمة انسداد العقد الاجتماعي الذي حاولت دولة الاستقلال بناءه، والقائم على التعليم مصعداً اجتماعياً. فلئن كانت التراتبية التي أفرزتها منظومة التعليم بين الشعب الجامعية مرتبطة بأفق الرخاء المادّي، والصيدلة، التي تحتلّ مرتبة متقدّمة فيها، لم تعُدْ تلبّي هذا الانتظار لسوى أقليّة. بل إنّ هذه الأقلّية المحظوظة تتألّف، بمعظمها، إمّا من أبناء أُسَر ثريّة قادرة على شراء صيدليّة موجودة بمبالغ تصل في أحيان كثيرة إلى مليون وحتّى مليوني دينار، أو أبناء صيادلة.
ولعلّ ما عقّد وضعيّة الصيادلة الشبّان وزاد سخطهم، بقطع النظر عن وجاهة الشرط العددي في مبدئه كما في تفاصيله، هو القواعد المنظِّمة لانتقال رخصة الصيدليّة الخاصّة بالوراثة. فرغم أنّ المبدأ، حسب القانون، هو غلق الصيدليّة وسحب الرخصة بوفاة صاحبها، تضمّن القانون استثناءً أصبح في الواقع القاعدة. فإذا كان أحد أبناء صاحب الصيدليّة يزاول دراسة الصيدلة، سواء في تونس أو في الخارج، “تنتظره” الرخصة إلى غاية تحصّله على الشهادة، في حدود سبع سنوات. لم يكن هذا الاستثناء، خلافاً لما ورد في أحد فيديوهات جمعيّة “ألرت”[8]، موجوداً في الصيغة الأصلية من قانون 1973، الذي كان يسمح للعائلة بالتمتّع بأرباح الصيدليّة في السنة الموالية لوفاة الصيدلي فقط، قابلة للتمديد مرّة واحدة. لكنّ تنقيحه سنة 1989[9] أدخل هذا الاستثناء، بضغط من الصيادلة المنتصبين. منذ ذلك التاريخ، أصبح أبناء الصيادلة، حتّى مِمَّن لم تسعفهم نتائجهم في البكالوريا للالتحاق بكليّة الصيدلة بالمنستير، يدرسون الصيدلة في جامعات روسيا وأوروبا الشرقية، ثمّ يعودون بشهائد مشكوك في قيمتها، رغم المحاولات المتواصلة لإصلاح شروط معادَلة هذا النوع من الشهائد، بدون أن يتحمّلوا عناء الانتظار على القائمات كنظرائِهم. حسب أرقام الهيئة الوطنية للصيادلة، جاء أكثر من 44% من طلبات التسجيل في جدول الصيادلة في السنة الأخيرة (2021/2020)، من أصحاب شهائد أجنبية، ومن بين هؤلاء، 63% درسوا في رومانيا، في حين عادت البقيّة أساساً من جامعات روسية وأوكرانية[10].
إصلاح حقيقي، أم حلول ترقيعية لتأجيل الأزمة؟
رغم أنّ وراثة المهنة تكاد تكون ظاهرة عامّة، وهي تشمل جميع المهن الحرّة تقريباً، فإنّها على الأرجح أشدّ وقعاً في قطاع الصيدليّات الخاصّة. ليس فقط لأنّ القانون ينظّم هذه الوراثة ويحميها، بل أيضاُ لأنّها، مرفوقةً بالشرط العددي الذي يحدّ كثيراً من عدد الرخص الجديدة، تكاد تحوّل المهنة إلى ريع عائلي. لكنّ احتجاجات الصيادلة الشبّان ونظرائهم الأكبر سنّاً، الذين سبقوهم على قائمات الانتظار منذ التسعينيّات وبداية الألفية، دفعت سلطة الإشراف إلى فتح هذا الملفّ. وبعد مخاض عسير دام سنوات عدّة، لم يشارك الصيادلة الشبّان في سوى مراحله الأولى، صدر الأمر الحكومي عدد 1013 لسنة 2019 في الأسابيع الأخيرة لحكومة يوسف الشاهد، لينسخ ويعوّض أمر 1992. اعتمد هذا الأمر، بخصوص صيدليّات النهار، تقسيماً جديداً للمعتمديّات، يشمل 13 منطقة بدل 5 بشرط عددي يتراوح بين 3300 ساكن في المنطقة 1 و16 ألف ساكن في المنطقة الأخيرة، كما حافظ على الاستثناء المتعلّق ببعض البلديّات في المدن الكبرى. أمّا بخصوص صيدليّات الليل، فقد اعتُمد تقسيم جديد بمنطقتَيْن، بشرط عددي يتراوح بين 50 ألف ساكن في الأولى و60 ألف في الثانية.
وبحسب الهيئة الوطنية للصيادلة، تسمح هذه المعايير الجديدة بإنشاء 160 صيدليّة جديدة تبعاً للمعطيات الديمغرافية الحالية[11]. وقد تطوّر عدد الرخص الممنوحة منذ صدور الأمر الحكومي، إذ مُنحت 89 رخصة جديدة في 2019-2020[12] و67 في السنة الأخيرة[13]، في حين كان المعدّل في السنوات الخمس السابقة 44 رخصة، جزء منها لم يكن بفضل النموّ الديمغرافي، بل سمح به إحداث بلديات جديدة.
حافظ إذن أمرُ نوفمبر 2019 على فلسفة النصّ السابق بدون تغيير جوهري، واقتصر على تخفيف بسيط للشرط العددي، في مواصلة للتنقيحات المتكرّرة التي طالت أمرَ 1992. فقد كانت سياسة الدولة وهيئة الصيادلة، كلّما بلغ الضغط على قائمات الانتظار درجة تهدّد بالانفجار، استيعاب دفعة جديدة عبر تنقيح الشرط العددي أو إدخال بعض الاستثناءات سواء على أمر 1992 أو على طريقة تنظيم قائمات الانتظار. وقد ترافق إصلاح 2019، هو الآخر، بتنظيم جديد لقائمات الانتظار[14]، أبرزُ إضافاته ضرورةُ تجديد التسجيل كلّ سنتَيْن، ما من شأنه أن يساعد على غربلتها.
يبقى أنّ هذه الاصلاحات تبقى قاصرة على حلّ الأزمة بشكل دائم، إذ إنّ عدد الرخص الجديدة سنوياً، سيبقى أقلّ بكثير من الطلب الجديد عليها، لتعود الفجوة وتتعمّق. فمعظم الصيادلة الذين يتصدّرون قائمة الانتظار في المعتمديّات، مسجّلون منذ بداية سنوات الألفين، وأحياناً منذ التسعينيّات[15]. كما تتأتّى نسبة هامّة منهم من أصحاب المخابر البيولوجية، أو الصناعيين، أو الاستشفائيين، الذين يتمتّعون في آخر مسيرتهم برخصة صيدليّة بيع بالتفصيل على حساب الصيادلة الشبّان. وبغضّ النظر عن جدوى مبدأ الشرط العددي، فإنّ سهولة انتقال الرخصة بالوراثة تحدّ كثيراً من فرص تجدّد خريطة مالكي الصيدليّات، وتعيد إنتاج اللامساواة، ليس فقط على حساب مبدأ تكافؤ الفرص، بل أيضاً على حساب الاستحقاق. فالأجدر هو إقرار سنّ لتقاعد الصيادلة الخواصّ، تنقضي بعدها الرخصة لتمرّ إلى مَن له استحقاق الدراسة والأولويّة في قائمة الانتظار، بدل أن تنتظر مَن ليس له سوى امتياز الولادة. لكنّ ذلك يمرّ عبر مراجعة القانون، لا الاقتصار على مناقشة تفاصيل النصوص التطبيقية.
الهيئة الوطنية للصيادلة: حصن الصيادلة الخواصّ لحماية مصالحهم
محدوديّة أفق الإصلاح لا تعود فقط إلى سلبيّة وزارة الصحّة، وإنّما إلى موازين القوى داخل القطاع. يظهر ذلك بالأخصّ عبر الدور الذي تؤدّيه الهيئة الوطنية للصيادلة، بوصفها شريكاً متميّزاً في جميع عمليّات الإصلاح. هذه الأخيرة تضمّ وجوباً “جميع الصيادلة الذين لهم الصفة القانونية لمباشرة فنّهم”، أي أنّها تشمل مختلِف المهن الصيدلية، من أصحاب صيدليّات البيع بالتفصيل، إلى القطاع الاستشفائي العمومي، مروراً بالصيادلة البيولوجيين والصناعيين وغيرهم، ولكن أيضاً، الصيادلة غير المباشرين الذين يشغلون مهناً هشّة. لكنّ مواقفها لا تختلف كثيراً عن مواقف النقابة التونسية لأصحاب الصيدليّات الخاصّة. إذ تدافع الهيئة بقوّة عن مبدأ الشرط العددي، بصفته شرطاً “لديمومة المهنة”، كما يظهر سنوياً في كامل تقاريرها الأدبية، لا بل تربط أيّ تخفيض جدّي في معاييره، بزيادة هامش الربح القانوني في أسعار الأدوية[16]. وأمام مطالبة الصيادلة الشبّان بإلغاء الشرط العددي، تَعِد الهيئة بشكل متكرّر بالعمل على تحسين الآفاق الأخرى لاختصاص الصيدلة، كمهنة نائب الصيدلي أو الصيدلي الاستشفائي.
حاول الصيادلة الشبّان، في 2014، خوض المعركة ديمقراطياً، عبر المنافسة في انتخابات الهيئة بدعم قائمة أقرب للدفاع عن حقوقهم، لكن، تمكّنت نقابة أصحاب الصيدليّات الخاصّة من حشد منخرطيها بشكل حسم الانتخابات لصالحها، كالعادة.
ويضبط الفصل 50 من القانون المنظّم للمهن الصيدلية تركيبة الهيئة، إذ ينصّ على أنّها تضمّ 11 عضواً، منهم على الأقلّ صاحب صيدليّة من صنف “أ”، وصاحب صيدليّة صنف “ب”، وصيدلي بائع بالجملة، وصيدلي صناعي، وصيدلي بيولوجي وصيدلي استشفائي، إلّا في صورة عدم تقديم أيّ ترشّح من أحد الأصناف. لكنّ القانون يغفل فئة هامّة، وصاحبة مصلحة مباشرة، هي الصيادلة الشبّان، سواء مِمَّن لا يزاولون نشاطاً، أو مِمَّن يشتغلون نوّاب صيادلة أو مندوبين لدى الشركات المصنّعة للأدوية. حتّى إنّ القانون يقصيهم أصلاً من إمكانيّة الترشّح، عبر اشتراط الترسيم في جدول الصيادلة منذ عشرة أعوام على الأقلّ. ليست مصادفة أن يأتي هذا الشرط نتيجة تنقيح سنة 1989، الذي سمح أيضاً بانتقال الصيدليّات بالوراثة، في حين لم تكن الصيغة الأصلية تشترط سوى ثلاث سنوات على جدول الصيادلة.
بهذا الشكل، حصّن أصحاب الصيدليّات الخاصّة سيطرتهم على الهيئة بالقانون. ففي مجلس الهيئة الحالي، سبعة أعضاء على الأقلّ من أصل 11 هم من أصحاب الصيدليّات الخاصّة، أي أنّ لهم مصلحة مباشرة، بغضّ النظر عن نواياهم، في تعطيل أيّ إصلاح جدّي قد يقلّص أرباحهم.
هكذا يكون المدخل إلى إصلاح شامل للقطاع، يمرّ إمّا عبر تحجيم دور الهيئة والتعامل معها كطرف ممثّل لا لجميع الصيادلة، وإنّما لفئة مخصوصة منهم، أو تحريرها من سيطرة أصحاب الصيدليّات الخاصّة، عبر مراجعة شرط الأقدميّة، ولِمَ لا، تخصيص مقاعد في مجلسها للفئات الأخرى من الصيادلة الأقلّ حظّاً.
هل يكون الحلّ في التحرير الكامل للقطاع؟
يبقى أنّ عدداً من الصيادلة الشبّان يرون أنّ الحلّ الوحيد الذي يقطع المشكل من جذوره، يكمن في تحرير قطاع صيدليّات البيع بالتفصيل، بحيث يخضع إلى كرّاس شروط لا إلى رخصة وشرط عددي. تُدافع الجمعيّة التونسية للصيادلة الأحرار عن هذا الحلّ، وفق مقاربة اقتصادية للقطاع، لا تخفي تبنّيها منطق اقتصاد السوق كمحدِّد ومعدِّل لمردوديّة الصيدليّات.
إلّا أنّ مطلب تحرير القطاع، بغضّ النظر عن واقعيّته في ظلّ موازين القوى الحالية، يطرح أسئلة كثيرة. فهل سيشمُل تحرير القطاع، كما في عدد من الدول، مراجعة احتكار الصيدليّات عمليّة بيع الدواء، وتمكين المساحات التجارية الكبرى مثلاً من بيع عدد من الأدوية؟ وهل سيشمل إلغاء شرط الكفاءة العلمية لامتلاك صيدليّة، كما في النرويج والسويد على سبيل الذكر لا الحصر؟ فالمفوضيّة الأوروبية كانت تعتبر هذا الشرط إقصائياً، قبل أن تنصف محكمة العدل الأوروبية إيطاليا، وبعض الدول التي تشاركها موقفها[17]. اعتبرت المحكمة أنّ الصيادلة، بفعل تكوينهم وتجربتهم والمسؤوليّة الملقاة عليهم، لا يمارسون المهنة وفق منطق اقتصادي بحت، بل يكونون أحرص على احترام واجباتهم المهنية[18]، وأنّ امتلاك الصيدليّات من طرف غير الصيادلة لا يوفّر هذه الضمانات، حتّى إذا وظّفوا فيها صيادلة.
وهل يتوافق تحرير القطاع مع منع امتلاك أكثر من صيدليّة من طرف شخص واحد، كما في القانون الحالي؟ إذ قد يؤدّي إلغاء هذا الشرط، على المدى الطويل، إلى تركّز ملكيّة الصيدليّات بيد مجموعات كبرى تتحكّم في السوق، على عكس الهدف الأصلي من تحرير المنافسة. مثلاً في انجلترا، تحتكر مجموعة واحدة قرابة ألفَيْ صيدليّة، أي 18% من مجموع الصيدليّات، ومجموعة أخرى 13%. أمّا في النرويج، فيضع القانون حدّاً أقصى لتركّز الصيدليّات، وهو 40%، والسبب أنّ تحرير القطاع أدّى إلى احتكار مجموعة واحدة 80%، إلى غاية تدخّل هيئة المنافسة[19]. فتركُّز الصيدليّات يفتح الباب أمام مخاطر عديدة ليس فقط في علاقة بالأسعار، بل أيضاً بعلاقات واتّفاقات قد تُعقَد مع مصنّعي الأدوية، على حساب المرضى.
كما قد يترافق تحرير القطاع مع تحرير هامش الربح الذي تضبطه الدولة في الأدوية، والتعويل على المنافسة للضغط على الأسعار. وعلى عكس الفكرة المسبقة التي يُروَّج لها، والتي تعتبر المنافسة مفتاحاً للضغط على الأسعار لصالح المستهلك، لم تحقّق تجارب تحرير قطاع صيدليّات البيع بالتفصيل نتائج ملموسة في هذا المجال، كما يظهر من الدراسات التي أُنجزت حول الموضوع [20]. جميع هذه الشكوك تُضاف إلى سؤال مركزي حول حقّ الجميع في النفاذ إلى الدواء. فهل منطق السوق كفيل بدفع الصيادلة إلى فتح صيدليّات في الأرياف، طالما كانت إمكانيّة الانتصاب في المدينة متاحة؟
فرغم التوجّه العالمي لتحرير قطاع الصيدلة، سواء في إحداث الصيدليّات أو في ملكيّتها أو في بيع الأدوية، إنّ نتائج التجارب المقارَنة في العقود الأخيرة ليست بالوضوح الكافي، وبالعادة تحتاج الدول التي تنتهج هذا الخيار إلى سياسات مرافِقة للتوقّي من آثاره الجانبية.
وخلافاً لما يروّج له أنصار تحرير القطاع، ليس مبدأ الشرط العددي استثناءً تونسياً، إذ نجده مثلاً في إسبانيا وفرنسا وغيرها من الدول التي تقوم على اقتصاد السوق. لكنّ القواعد المنظِّمة للقطاع في تونس تخدم، بوضوح، مصلحة الصيادلة المنتصبين على حساب الأجيال الجديدة. وخلافاً للخطاب الرسمي، لا ترجّح كفّة استحقاق نفاذ التونسيين إلى الدواء أمام هاجس الحفاظ على مردوديّة عالية للصيدليّات. ولئن كان التخفيض في معايير الشرط العددي بشكل جدّي ومؤثّر أحد الحلول الممكنة، ثمّة استحقاق لا يقلّ أهمّيّة، واقعيّاً ورمزيّاً، وهو مراجعة قواعد وراثة الصيدليّات، كي لا يدوس النَّسَب على الاستحقاق الدراسي، وتعيد اللامساواة إنتاج نفسها تحت حماية القانون.
نشرت هذا المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم
[1] Institut Afkar, La face cachée de l’Activité Privée Complémentaire : un système qui ne forme plus ses médecins, novembre 2018.
Selim Barouni, Médecine en Tunisie : la lutte des strates, Nawaat, octobre 2021.
[2] يتمثل الشرط الجغرافي في احترام مسافة 200م بين كل صيدليتين صنف أ، و500 م بين كلّ صيدليتين صنف ب.
[3] OMS, Le secteur pharmaceutique tunisien : son organisation, son fonctionnement et sa performance par rapport à la disponibilité et à l’accessibilité financière des médicaments, p. 62.
[4] اقتضى دستور 27 جانفي 2014 تعميم البلديات على كافّة التراب الوطني، وهو ما تمّ تطبيقه على مراحل سنة 2016.
[5] الفصل 19 من الأمر عدد 1206 لسنة 1992 ينصّ على إحالة الوكالات الصيدلية التابعة للصيدليّة المركزية في أيّ وقت لأيّ صيدلي يقدّم طلباً في الغرض.
[6] OMS, op. cit., p. 14.
[7] تجدر الملاحظة هنا أنّ من مصلحة الصيادلة عدم التصريح بنشاط لدى الهيئة الوطنية للصيادلة التونسيين، لأنّ تصنيفهم صيادلة بدون نشاط كان يمنحهم نوعاً من الأولويّة وفق شروط معيّنة في قائمات الانتظار لرخص الصيدليّات الخاصّة.
[8] فيديو نشر على صفحة منظّمة “ألرت” على فيسبوك، تضمّن تعليقاً على مقتطفات من تدخّل إعلامي لرئيس نقابة الصيادلة في برنامج ميدي شو على إذاعة موزاييك.
[9] القانون عدد 101 لسنة 1989 مؤرَّخ في 11 ديسمبر 1989 يتعلّق بتنقيح القانون عدد 55 لسنة 1973 المؤرَّخ في 3 أوت 1973 المتعلّق بتنظيم المهن الصيدلية.
[10] CNOPT, Assemblée générale ordinaire, Rapport moral, Exercice 2020/2021, Novembre 2021, p. 13.
[11] CNOPT, Assemblée générale ordinaire, Rapport moral, Exercice 2019/2020, Novembre 2020, p. 25.
[12] Ibid.,p. 14.
[13] CNOPT, Assemblée générale ordinaire, Rapport moral, Exercice 2020/2021, Novembre 2021, p. 14.
[14] قرار وزيرة الصحّة بالنيابة مؤرَّخ في 19 ديسمبر 2019 يتعلّق بضبط شروط إعداد قائمات الانتظار لإحداث صيدليّات البيع بالتفصيل.
[15] يمكن النفاذ إلى قائمة الانتظار في كلّ معتمديّة عبر البوّابة الإلكترونية التي أتاحتها وزارة الصحّة.
[16] CNOPT, Assemblée générale ordinaire, Rapport moral, Exercice 2015/2016, Juillet 2016, p. 18.
[17] من بينها إسبانيا وفرنسا واليونان والنمسا.
[18] Cour de justice de l’Union européenne, Arrêt du 19 mai 2009, Affaire C-531/06, Commission c. Italie, §61 et 62.
[19] OCDE, Concurrence dans la distribution de produits pharmaceutiques, Contribution de Mme. Sabine Vogler, Forum mondial de la concurrence, 2014, p. 4.
[20] Ibid., p. 6 et suivants.