تاريخيًّا، ترتبط أجهزة الرقابة المالية، ومنها ديوان المحاسبة، بمهمّة ممارسة الرقابة على حسابات الدولة وسائر الجهات الخاضعة لرقابتها. وقد حدّد قانون تنظيم ديوان المحاسبة هذه المهمّة في المادّة الأولى منه، التي نصّت على مهمّة الديوان المتمثّلة في السهر على الأموال العمومية، عن طريق مراقبة استعمال هذه الأموال، وانطباقها على القوانين، والفصل في صحَّة المعاملات والحسابات وقانونيتها.
إلّا أنّه عند التدقيق في أعمال ديوان المحاسبة، يظهر أنّ نشاطه في هذا الخصوص يبقى محدودًا كمِّيًّا بالنسبة إلى مهامّه الأخرى، وبالأخصّ دوره في ممارسة الرقابة المُسبَقة، أو، كذلك، دوره الاستشاري. فعدا عن محدودية الجهد المبذول في هذا الخصوص، يبقى قيام الديوان بهذه المهمّة مشوبًا بتأخيرٍ يؤدّي غالبًا إلى انفصال الرقابة زمنيًّا، وما يتفرّع عنها من ملاحظات ومُقترَحات، عن الواقع الذي ترتبط الحسابات به. ومن شأن هذا الانفصال الزمنيّ أن يجعل الرقابة شكليّة غير قادرة على فرض أيّة نتائج على أداء الجهات الخاضعة للرقابة.
وقبل المضيّ في توصيف هذا الواقع، يجدر التذكير بأنّ ترداد اسم الديوان، الذي غالبًا ما يتّصل بالعوائق التي تمنعه من ممارسة الرقابة على قطوعات حساب الموازنات العامة للدولة، لا ينسحب على الرقابة على حسابات الجهات الأخرى الخاضعة لرقابته، بحيث نَلحَظ غياب أيّ ذكرٍ له.
وعليه، سنعالج في جزءٍ أوّل رقابة الديوان على حسابات الجهات الخاضعة لرقابته عمومًا، قبل أن نتوقّف عند مُعضِلة الرقابة القضائية على قطع الحساب للموازنة العامة للدولة.
الرقابة على الحسابات في جردة التقارير السنوية
لغاية تقييم دور ديوان المحاسبة في أداء مهمَّة الرقابة على الحسابات، راجعْنا التقريرَين الثلاثيَّين الصادرَين عنه، واللذَين شملا تباعًا سنوات 2013- 2015 و2010-2012.
وقد سمحت لنا هذه المراجعة باستخلاص ثلاث خلاصات جدّ معبِّرة:
تتمثّل الخلاصة الأولى في قلّة عدد القرارات القضائية بشأن الحسابات. ففي التقرير الثلاثي 2013-2015، بلغ مجموع القرارات على الحسابات 12 قرارًا فقط، أي بمعدّل 4 قرارات سنويًّا. وفي الواقع، يظهر، عند التدقيق في ماهيَّة هذه القرارات، أنّ ديوان المحاسبة اكتفى، في 7 من هذه القرارات، بتدوين إعادة الحسابات إلى مصدرها من دون تدقيق بعد صدور القانون 715/2005 الذي أخرج حسابات سنتَي 1991 و1992 من إطار الرقابة. بمعنى أنّ قراراته في شأن الحسابات انحصرت بـ 5 على مدى 3 سنوات، أي بأقلّ من قرارَين في السنة الواحدة. يتبيّن لنا الأمر نفسه من التقرير الثلاثيّ السابق 2010-2012، حيث بلغ عدد القرارات على الحسابات 24 قرارًا، أي بمعدَّل 8 قرارات سنويًّا، وهو عدد ينخفض إلى 16 في حال حسمنا منها القرارات الثمانية التي اكتفى فيها ديوان المحاسبة بإعادة الحسابات إلى مصدرها من دون أيّ تدقيق، عملًا بالقانون 715 المذكور أعلاه. علمًا أنّه، وبحسب القرار الأخير حول توزيع الأعمال، يصل عدد الهيئات العامة الخاضعة لرقابة ديوان المحاسبة، من بلديّات واتّحادات بلديّات ومؤسَّسات عامة، وغيرها، إلى ما يزيد عن 102، مع الإشارة إلى أنّ العديد من الجهات الخاضعة لرقابة ديوان المحاسبة لا يَرِد ذِكرُها أصلًا صراحةً في هذا القرار.
أمّا الخلاصة الثانية فتتمثّل في التأخير الفائق لإنجاز هذه الرقابة، حيث إنّ القرارات المشمولة بالتقرير الثلاثيّ 2013-2015 اتّصلت بحساباتٍ يعودُ أحدثُها إلى العام 2003، فيما يعود أقدمها إلى العام 1991؛ وقد بلغ مُعدَّل الوقت الفاصل بين تاريخ صدور القرار والسنة التي تناولتها الحسابات نحو 21 عامًا، من دون أن تبيِّن التقارير أسباب التأخير، وتحديدًا فيما إذا كان مردّه تأخُّر الإدارات المعنيَّة في إيداع حسابات المهمّة المتَّصلة بها لدى الديوان. نتبيّنُ الأمرَ نفسه بشأن التقرير الثلاثيّ الثاني 2010-2012: ولئن خلا هذا التقرير من تفاصيل القرارات المشمولة فيه، لجهة الجهات المعنيَّة أو تواريخ السنوات التي اتَّصلت بها، يبقى أنّه ورد فيه، كما سبق بيانه أنّه تمّت إعادة 8 حسابات تعود إلى سنتَي 1991 و1992 إلى مصدرها، ممّا يشير إلى أنّ بعض الحسابات التي كانت معروضة لرقابته إنّما كانت تعود إلى بداية التسعينيّات، أي إلى قرابة عقدَين إلى الوراء.
ويلحظ هنا أنّ المادّة 7 من المرسوم 4001/2010 (نظام إرسال حسابات الإدارات العامة والمستندات والمعلومات العائدة إليها إلى ديوان المحاسبة)، قد فرضت أن يودع حساب المهمّة مع مُرفَقاته مديريّة المحاسبة العامة لدى وزارة المالية، قبل 30 نيسان من السنة التالية لسنة الحساب، وأن يودع مدير المحاسبة العامة حساب المهمّة جانب ديوان المحاسبة مُصدَّقًا أو مشفوعًا بملاحظاته، قبل 30 حزيران من السنة التالية لسنة الحساب. في المقابل، لم يلحظ القانون أيّة مهلة لإنجاز ديوان المحاسبة التدقيق في الحسابات، وهو أمر إشكاليّ، لا لأنه يؤدّي فقط إلى فصل رقابة الديوان، أقلَّه زمنيًّا، عن واقع الإدارة، بل لأنَّه يؤدّي أيضًا إلى إطالة أمَد المحاكمات على نحوٍ يتعارض مع مبادئ المحاكمة العادلة.
أخيرًا، تتمثّل الخلاصة الثالثة في شمول الرقابة القضائية على الحسابات عددًا قليلًا من الجهات الخاضعة لرقابة الديوان، وأغلبها ذات موازنات محدودة، فيما أنّ العدد الأكبر من هذه الجهات، ومنها جهات ذات موازنات مرتفعة، بقيت بمنأى عن هذا النوع من الرقابة؛ إذ بمراجعة التقرير الثلاثيّ 2013-2015، يتبيّن أنّ الرقابة الفعلية شملت فقط بلديَّتَين، هما بلديَّتا الشيّاح (1993 و1995) والدكوانة (1993)، فيما لم تمارَس الرقابة القضائية على حسابات سائر البلديّات، ومنها بلديّات أكبر حجمًا، مثل بلديّة بيروت وطرابلس وصيدا إلخ… كما أنّ الرقابة شملت مؤسَّسة عامة واحدة هي معهد باسل فليحان المالي، وذلك عن العام 2003، فيما لم تُمارَس أيّ رقابة على سائر المؤسَّسات العامة، مثل مجلس الإنماء والإعمار أو صندوق المهجَّرين أو صندوق الجنوب أو الجامعة اللبنانية.
واللافت أكثر أنّ الحساب العائد إلى معهد باسل فليحان المالي، والذي شمله التدقيق، إنّما يعود إلى العام 2003، أي إلى ما قبل 11 سنة من التدقيق، فيما يجدر بهذا المعهد أن يكون، بفعل المهامّ المنوطة به، نموذجًا يُحتذى به في هذا المضمار.
ويعزو ديوان المحاسبة في تقاريره التأخُّر في التدقيق في الحسابات إلى أسباب عدّة، أبرزها تأخُّر الجهات الخاضعة لرقابته في إرسال الحسابات إليه ضمن المهل القانونية، وعدم مراعاتها الأصول القانونية والقواعد المحاسبية المطلوبة، وعدم وجود جهاز إداري قادر على إعداد حسابات صحيحة لدى بعض الإدارات والمؤسَّسات، بالإضافة إلى المشكلات المحاسبية المورورثة التي لم يتمّ حلّها. كما يعزو الديوان التأخير إلى المشكلات التي يعاني منها الديوان لجهة النقص في مِلاكه، لا سيّما مِلاك مُدقِّقي الحسابات.
مُعضِلة قطع حساب الموازنات العامة للدولة
أوَّل ما يجدر لحظه هنا أنّ استحضار ديوان المحاسبة في الخطاب العام يرتبط عمومًا برقابته القضائية على قطوعات حساب الموازنات العامة للدولة، ويتمّ ذلك في سياق تحميله مسؤوليّة التأخُّر في إقرار قطوعات الحساب هذه، أو تأكيد وجوب تعزيز موارده للقيام بهذه المهمَّة. وعدا عن كونه مُوجِبًا دستوريًّا وفق المادّة 87 من الدستور، تتأتّى أهمِّيَّة إقرار قطع الحساب على الموازنات العامة من أهمِّيَّة المُعطَيات التي يجدر أن يتضمّنها قطع الحساب، والتي تسمح للمجلس النيابيّ بالتحقُّق من كيفيّة تنفيذ الموازنة السابقة فعليًّا، وتاليًا التحقُّق من مدى صدقيَّة التوقُّعات الواردة في مشروع الموازنة الجديدة[1]، وكلُّها مُعطَيات يحتاج إليها مجلس النوّاب لممارسة دوره الرقابي، كما دوره التشريعي في إقرار قانون موازنة جديدة.
على الرغم من ذلك، فإنّ قانون 408/1995 يمثّل آخر قانون قطع حساب، وقد اتّصل بالتدقيق في كيفيّة تنفيذ قانون موازنة 1993، وتمّ في موازاة إقرار قانون الموازنة العامة للعام 1995. إذ منذ ذلك الحين، دأب المجلس النيابي، عند إقرار الموازنات العامة، إلى إصدارها من دون أن يقرنها بقوانين قطع الحساب، وعلى نحوٍ يخالف بصورة مباشرة المادَّة 87 من الدستور.
وفي وقتٍ يتمّ عمومًا تحميل ديوان المحاسبة مسؤولية التأخير على خلفيَّة النقص في موارده، يتَّضِح بلا رَيْبٍ أنّ التأخير يعود إلى تقاعُس الحكومات المُتعاقِبة عن إرسال قطوعات الحسابات منذ العام 1993، خلافًا للمادّة 195 من قانون المحاسبة العمومية التي تفرض عليها القيام بذلك “قبل 15 آب من السنة التي تلي سنة الموازنة، على أن تُقدِّم حساب المهمّة قبل الأوّل من أيلول”. ويستمرّ تقاعُس الحكومة في هذا الخصوص على الرغم من أنّ كلًّا من المجلس النيابي والمجلس الدستوري، منحاها الفرصة تلو الأخرى، والاستثناء تلو الآخر، هذا عدا عن توالي دعوات البرلمان للحكومة بوجوب تعزيز موارد الديوان، لكن، من دون أن تقوم بأيّ خطوة لذلك.
وقد تمثّل آخر الشواهد على هذا النهج في إرسال الحكومة مشروع موازنة 2025 إلى المجلس النيابي ضمن المهل الدستورية والقانونية، من دون أن يترافق ذلك مع إرسال مشروع قطع الحساب للعام 2023 إلى ديوان المحاسبة لتمكينه من التدقيق فيه. ومن اللافت أنّ جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء في 10 أيلول 2024 لحظ، في المقابل، طلب وزارة المالية الموافقة على تحويل قطع حساب العام 2020 إلى مجلس النوّاب، فيما المطلوب أن يُصدّق على قانون قطع الحساب الخاص عن عام 2023 وليس العام 2020 (بحسب المادّة 87 من الدستور، والمادّة 118 من نظامه الداخلي).
ومن شأن هذا التقاعُس أن يُشكّل دليلًا قاطعًا على نيّة الحكومات المُتعاقِبة إخفاءَ حقيقة المعالم الأساسية للموازنة، ليس فقط بخصوص الإنفاق، بل أيضا الإيرادات، حيث نصّت المادّة 15 من قانون المحاسبة العمومية على أنّه يتمّ احتساب الإيرادات استنادًا إلى إيرادات السنة الأخيرة التي أنجز المشروع قطع حسابها، وهي مخالفة ما كانت لتستمرّ حتّى اليوم لولا تماهي مجلس النوّاب والمجلس الدستوري معها بحجَّة أنَّ وجود موازنة من دون قطع حساب أفضل من عدم وجود أيّ موازنة.
نشر هذا المقال في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”
لقراءة وتحميل الورقة البحثية بصيغة PDF
[1] القرار الصادر عن المجلس الدستوري الفرنسي رقم 32/1992 في تاريخ 1992/6/21.