تمثّل الرقابة المُسبَقَة أحد أبرز الأدوار التي يضطلع بها ديوان المحاسبة، مع العلم أنّها تأخذ قسطًا كبيرًا من جهوده، ذلك أنّ الديوان يقوم بالتثبُّت من قانونية المعاملات المالية وانطباقها على الموازنة قبل المباشرة بها. وقد أكّد قانون تنظيم ديوان المحاسبة أنّ “رقابة الديوان المُسبَقة هي من المعاملات الجوهرية لنفاذ أيّ صفقة أو معاملة تخضع لهذه الرقابة، وتُعتَبر كلّ معاملة لا تجري عليها هذه الرقابة غير نافذة ويحظر على المُوظَّف المُختَصّ وضعها في التنفيذ”. أمّا في حال حجب الديوان المُوافَقة، فإنّه يتعيّن على الإدارة الالتزام بذلك ما لم يتَّخِذ مجلس الوزراء قرارًا مُعلَّلًا يُجيز لها تجاوز رفض الديوان، وفق ما سنعود إليه تفصيليًّا.
من هذه الزاوية، وبفعل ارتباط رقابة الديوان بإتمام المعاملة الإدارية ونفاذها، تُصنَّف ضمن مهامّ “الرقابة الإدارية” للديوان التي تتميّز عن مهامّ “الرقابة القضائية”. وبشكل عام، تتّجه المعايير الناظمة للمجالس والهيئات العليا لممارسة الرقابة المالية إلى تقليص صلاحيات الرقابة المُسبَقة ضمن اتِّجاهٍ إلى ترسيخ دورها القضائي. وهذا ما نستشفُّه، بشكل خاص، من المبدأ الثالث من إعلان مكسيكو الصادر عن المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية العامة والمحاسبة “إنتوساي”، حيث جاء أنّ من المتطلّبات الضرورية لاستقلالية الأجهزة العليا للرقابة عدم قيامها برقابة سياسة الجهات الحكومية، بحيث يقتصر عملها فقط على رقابة تنفيذ السياسات، ما عدا في الحالات التي يطلب منها القانون فعل ذلك. كذلك، وضمن المُتطلِّبات المهمّة، لا ينبغي للأجهزة العليا للرقابة، بأيّ شكل من الأشكال، أن تتدخّل، أو تعطي الانطباع بأنّها تتدخّل، في إدارة الجهات الخاضعة لرقابتها. وهذا ما تجلّى في مطالبات وتوصيات عدّة بضرورة إلغاء رقابة ديوان المحاسبة المُسبَقة، والاكتفاء برقابته الإدارية اللاحقة والقضائية. وقد تُرجمت هذه المطالبات بالعديد من المساعي على مدار السنوات، من بينها مشروع القانون الذي أقرّه مجلس الوزراء في تاريخ 2000/12/12، بناءً على اقتراح وزير المالية لتعديل قانون المحاسبة العمومية، بشكلٍ يلغي موجب الحصول على المُوافَقة المُسبَقة.
إلّا أنّه، وبالرغم من هذا التوجُّه الدولي والمطالبات المُتعدِّدة، فإنّ التوجُّهات التشريعية الأخيرة أعادت التأكيد على دور الرقابة المُسبَقة، وبخاصّة في ظلّ ضعف نجاعة المحاسبة اللاحقة وعدم وجود أيّ رقابة مالية فاعلة داخل الإدارات الخاضعة للرقابة. لكن، حتّى في حال الإبقاء على هذه الرقابة، تبقى إشكاليّات عدّة مطروحة بما يتّصل بكيفيّة ممارستها، والأهم بإمكانيّة تجاوز القرار بحجب المُوافَقة من قبل السلطة التنفيذية، بما يمنحها الكلمة الأخيرة.
وما يفاقم من إشكاليّة ممارسة هذه الرقابة الإدارية هو أنّ المعيار المُعتمَد لممارستها، وقوامُه تجاوز قيمة المعاملات عتبة مالية مُعيَّنة، لم يعد مُنتِجًا بعد انهيار قيمة العملة الوطنية، فضلًا عن أنّ فرض الرقابة المُسبَقة على بعض الجهات من القانون العام، أو المستفيدة من الأموال العامة، لا تتمّ بموجب نصّ قانوني، بل بموجب مراسيم تتّخذها السلطة التنفيذية. ومُؤدّى ذلك هو أنّ صلاحيات الديوان ليست ثابتة بموجب القانون، بل يقبل بعضها تَوسِعةً أو تضييقًا من قبل السلطة التنفيذية.
وقبل المضيّ في مناقشة هذه الإشكاليّات، سنتبيّن بدايةً حجم معاملات الرقابة المُسبَقة.
1- حجم معاملات الرقابة المُسبَقة
بالنظر إلى تقارير ديوان المحاسبة، يتبيّن أنّ عدد معاملات الرقابة المُسبَقة شهدت ارتفاعًا مُطَّردًا في العقود الماضية. فبعد أن كان هذا العدد 1600 معاملة في العام 2001، تضاعف هذا العدد في العام 2015 بحيث وصل إلى 3055، مرورًا بـ 2756 معاملة في العام 2013. في المقابل، لا تتوفّر لدينا أرقام عن السنوات اللاحقة بعدما توقّف ديوان المحاسبة عن إصدار تقاريره.
ويجد هذا الأمر تفسيره في ثلاثة أمور: الأوّل، أنّ العتبات المالية للرقابة المُسبَقة كان قد تمّ تحديدها في العام 1997، ولم يحصل أيّ تعديل عليها بالرغم من التضخُّم الحاصل بعدئذٍ، وهو أمرٌ تفاقم بدرجة كبيرة مع انهيار قيمة العملة الوطنية، على نحوٍ جعل مُجمَل المعاملات المالية، من حيث المبدأ، خاضعة للرقابة المُسبَقة؛ والثاني، تمّ زيادة حجم إنفاق الدولة من 6.6 مليارات دولار أميركي في العام 2001، ليصل إلى ما يقارب 17.5 مليار دولار أميركي في العام 2017، وهي السنة الأولى التي أُعدَّت فيها موازنة سنوية بعد 12 سنة من دونها؛ والثالث، توسيع دائرة الهيئات الخاضعة للرقابة المُسبَقة لتشمل بلديات جديدة.
ويؤكّد العديد من القضاة الذين استمعنا إليهم أنّ الرقابة المُسبَقة تستغرق جزءًا مهمًّا من جهود الديوان، على نَحوٍ يحدّ من قدرتهم على ممارسة الرقابة اللاحقة التي يُفترَض، بحسب العديد منهم، أن تكون عملهم الأساسي.
وهذا ما نتبيّنه من الإحصاءات الواردة في “التقرير السنوي” لسنوات عن أعوام 2013-2014-2015، حيث بلغت معاملات الرقابة المُسبَقة 8378 قرارًا، في حين وصلت قرارات الرقابة القضائية على المُوظَّفين إلى 268 قرارًا، من بينها قرارات مؤقَّتة وضمنية، بالإضافة إلى 12 قرارًا فقط ضمن الرقابة القضائية على الحسابات و17 قرارًا إداريًّا ضمن الرقابة على الحسابات. في المقابل، لا يشير هذا التقرير عن السنوات الثلاث المذكورة إلى تنظيم أيّ تقارير خاصة في معرض رقابته الإدارية اللاحقة.
2- ماذا تشمل الرقابة المُسبَقة؟
سوف نتناول المعاملات والمسائل التي تخضع للرقابة المُسبَقة؛ فما هي المعاملات التي تخضع للرقابة المُسبَقة؟ وما هي الجهات التي تخضع معاملاتها للرقابة المُسبَقة؟ وهل تنحصر الرقابة المُسبَقة في الرقابة على قانونية المعاملات أم أنّها تتناول أيضًا مدى توازُن الموجبات المُتبادَلة أو مدى ملاءمتها؟ هذا ما سنحاول تفصيله أدناه.
يتمثّل أوّل المعايير المعتمدة في تجاوز قيمة المعاملة عَتَبة مالية معيّنة. وقد تراوحت قيمة العَتَبة المالية للمعاملات الخاضعة للرقابة، كما حدّدها القانون رقم 286 الصادر في العام 1994، بين 5 ملايين ليرة لبنانية بالنسبة إلى الإيرادات، و15 مليون ليرة لبنانية بالنسبة إلى المصالحات الحبِّية، و75 مليون ليرة لبنانية بالنسبة إلى صفقات الأشغال واللوازم، بمعنى أنّ العَتَبة المالية المُحدَّدة في العام 1997 تراوحت عند تحديدها بين ما يُعادل 3300 دولار أميركي، و50000 دولار أميركي. وبالرغم من التضخُّم الحاصل في العقود الماضية، لم يطرأ أيّ تعديل على هذه العَتَبة، ممّا أدّى عمليًّا إلى توسيع دائرة الرقابة المُسبَقة لتشمل معاملات أقلّ قيمة فعليًّا من القيمة التي قصدها التشريع.
وقد فقد هذا المعيار إنتاجيته، بشكل شبه تام، تبعًا لانهيار قيمة العملة الوطنية ابتداءً من تشرين الأوّل 2019، ممّا أثقل كاهل الديوان بمعاملات ذات قيم متدنّية، ومن دون أن يترافق ذلك مع تعديل تشريعي للعَتَبة المالية، بالرغم من انقضاء ما يزيد على 5 سنوات من بدء الأزمة.
وفيما عَمَدت الحكومة في مشروع القانون الذي أحالَته إلى مجلس النوّاب في العام 2012 إلى مضاعفة قيمة العَتَبة المالية بين 4 و20 ضعفًا، بحسب نوع المعاملة، فإنّ هذا المشروع بقيَ عالقًا أمام لجنة المال والموازنة، بالرغم من المصادقة عليه من قبل لجنة الإدارة والعدل في تاريخ 2019/9/5.
أمّا بعد الانهيار المالي بعد العام 2019، فقد برزت 3 مساعٍ، أخذ بعضها شكل قرارات (غير قانونية) لتعديل العَتَبة، وذلك بهدف تقليص عدد المعاملات المعروضة على الديوان. تمثّلت هذه المساعي في الآتي:
المسعى الأول تمثّل في مُذكّرة صادرة عن رئيس ديوان المحاسبة، في تاريخ 2024/2/20، وقد نصّت على عدم وجوب عرض معاملات الشراء بالفاتورة على الديوان في حال قلَّت قيمتها عن 500 مليون ليرة لبنانية. وبمعزل عن مدى سدادة مضمون المُذكّرة، من البيِّن أنّه ليس لرئيس الديوان أيّ صلاحية من أيّ نوع كانت لتعديل العَتَبة المالية، طالما أنّه من شأن تعديل هذه العَتَبة أن يؤدّي عمليًّا إلى إعفاء الديوان من مسؤوليات حدّدها القانون له. وبالرغم من عدم قانونية هذه المُذكّرة، فقد عملت بها بعض غرف الديوان، فيما رفضت غرف أخرى الأخذ بها؛
المسعى الثاني تمثّل في قرار اتَّخَذته الحكومة في جلستها المنعقدة في تاريخ 2024/8/14 بعدم عرض معاملات الشراء بواسطة طلب عروض الأسعار التي لا تقلّ قيمتها عن 5 مليارات ليرة لبنانية (نحو 56 ألف دولار أميركي) على ديوان المحاسبة للحصول على موافقته المُسبَقة. ويُستشَفّ من القرار أنّ الحكومة حرّرت نفسها ومُجمَل الإدارات الخاضعة لرقابة الديوان من هذه الرقابة في مُجمَل المعاملات التي تقلّ عن المبلغ المذكور، بخلاف نصّ قانوني صريح يُخضِعها لها. وقد سجّلت المفكّرة آنذاك تخوُّفها من أن يقود هذا القرار إلى فوضى قانونية، طالما أنّ القرار الحكومي يؤدّي إلى تعطيل معاملة جوهرية بصورة غير قانونية، ممّا سيُخوِّل كلّ ذي مصلحة الطعن بصحّة المعاملات المُعفاة على هذا الوجه.
المسعى الثالث تمثّل في اقتراح قانون قدّمه نوّاب من كتلٍ عدّة، وهم ابراهيم كنعان وحسن فضل الله ومحمّد خواجة وبلال عبدالله وعلي حسن خليل وجهاد الصمد في تاريخ 2024/7/23، وهو يرمي إلى مضاعفة العَتَبة المالية للصفقات الخاضعة لرقابة ديوان المحاسبة المُسبَقة بين 200 و1000 مرّة. وقد تمّ إقرار هذا الاقتراح مؤخرا في جلسة 28/11/2024 التشريعية.
لئن أخضع القانون الإدارات العامة كافة للرقابة المُسبَقة، فإنّ المُشرّع أعفى صراحةً بعض أشخاص القانون العام، وبخاصّة المُؤسَّسات العامة والشركات المملوكة من الدولة منها، وقد برّر ذلك بضرورة إيجاد أطر أكثر مرونة لإدارة قطاعات معيّنة. فضلًا عن ذلك، ترك القانون، بالنسبة إلى بعض فئات أشخاص القانون العام (البلديات أو المستفيدين من المال العام مثلًا)، أن تحدّد الخاضعين لرقابة الديوان وآليّة الرقابة عليهم، ممّا أفقد الديوان مرجعيّته كهيئة رقابية وقضائية ذات صلاحية شاملة.
وبالفعل، يعفي النظام العام للمُؤسَّسات العامة رقم 4517/72 هذه المُؤسَّسات من الرقابة المُسبَقة. ولا يُستثنى من هذا الإعفاء إلّا مُؤسَّستان أخضعهما مرسوم إنشائهما إلى هذه الرقابة، وهما: الجامعة اللبنانية والمعهد العالي للموسيقى. ومُؤدّى هذا الإعفاء لا يقتصر فقط على تمكين هذه المُؤسَّسات العامة من الإنفاق من دون رقابة مُسبَقة، إنّما تمكين الإدارات العامة، في حالات عدّة، من التفلُّت من الرقابة المُسبَقة من خلال تفويض هذه المُؤسَّسات صرف الاعتمادات الممنوحة لها بعد تحويلها إليها.
ومن أبرز الحالات التي رُصِدت في هذا المضمار، تولّي مجلس الإنماء والإعمار تنفيذ العديد من المشاريع الداخلة في اختصاص إدارات ومُؤسَّسات ووزارات، وذلك تبعًا لنقل الاعتمادات منها إلى مجلس الإنماء والإعمار لهذه الغاية. الأمر نفسه سُجِّل مُؤخَّرًا في مسعى وزارة الاتِّصالات إلى نقل الاعتمادات المُخصَّصة لها إلى هيئة أوجيرو، بما يتيح لهذه الأخيرة صرفها من دون الخضوع للرقابة المُسبَقة. وهو ما تصدّى له الديوان في قراره الصادر في تاريخ 29 آب 2024، حيث جاء أنّ “الصلاحية المُعطاة لوزير الاتّصالات ترتبط بامتيازات السلطة العامة، وهي كلّ لا يتجزّأ، ومن غير الجائز تفويضها إلى هيئات أخرى من دون وجود قانون في هذا الخصوص”، و”أنّ أيّ تخلٍّ من الوزارة عن صلاحياتها لهيئة أوجيرو إنّما يرشح عن مخاطر بالنظر إلى اختلاف أنظمة الرقابة التي تخضع لها وزارة الاتّصالات عن أنظمة الرقابة التي تخضع لها هذه الهيئات”. وقد علّقت المفكّرة على ذلك بقولها إنّ الديوان اعتبر أنّ نقل الصلاحية بهذا الشكل يكون مَعيبا، لا لأنّه مخالف للقانون فقط، بل لكونه يشكّل تحايُلًا على رقابته، وإن تجنّب استخدام عبارة الاحتيال مُراعاةً لحساسية وزير الاتّصالات.
أمّا بالنسبة إلى البلديات، وبعدما حدّد قانون تنظيم ديوان المحاسبة البلديات الخاضعة للرقابة المُسبَقة من قبل الديوان وهي على التوالي: بيروت وطرابلس والميناء وبرج حمود وصيدا وزحلة المعلّقة، فإنّه فتح أمام السلطة التنفيذية مجال إخضاع بلديات أخرى للرقابة المُسبَقة بمرسوم في حال فاقت إيراداتها مليون ليرة لبنانية. وقد صدرت، عملًا بذلك، مراسيم عدّة أخضعت قرابة 50 بلدية (أي ما لا يتعدّى نسبة 5% من مجموع البلديات) وعددًا من اتّحادات البلديات للرقابة المُسبَقة. ومؤدّى ذلك أنّ بلديات كبرى مثل الحازمية وبعبدا وجونية ما تزال مُستثناة من الرقابة بفعل تخلُّف الحكومة عن اتِّخاذ مراسيم لإخضاعها، على نَحوٍ يعكس الكثير من الاستنسابية في هذا المضمار.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشركات والمُؤسَّسات والجمعيات التي للدولة مساهمة فيها، والهيئات الرقابية التابعة للدولة. فبعدما كان يُفترض أن يحدَّد بمرسوم يُتَّخَذ في مجلس الوزراء مدى الرقابة على هذه الهيئات وأصولها، فإنّ هذا المرسوم لم يصدر حتّى اليوم. وعليه، بقيت أحكام المرسوم 13615/1963 سارية، لجهة حصر الرقابة عليها بالرقابة اللاحقة.
يُضاف إلى ذلك أنّ بعض الهيئات تبقى خارجة عن الرقابة المُسبَقة تبعًا لعدم اندراجها تحت أيّ من هذه الخانات. ونذكر هنا على سبيل المثال الهيئة العليا للإغاثة التي لم يحدّد نصّ إنشائها طبيعتها القانونية، ما أخرجها من دائرة الرقابة المُسبَقة.
وقد هدف مشروع قانون العام 2012 إلى تصحيح هذه الثغرات بحيث شمل، ضمن اختصاص الديوان، جميع البلديات واتّحاداتها. كما أدخل المشروع تعديلًا مهمًّا على الشركات التي تخضع لرقابة الديوان، بحيث أخضع لرقابة الديوان أيّ شركة يملك فيها الدولة أو البلدية أو المُؤسّسَة العامة أو أشخاص معنويّون يخضعون لرقابة الديوان، على الأقلّ 40% من المساهمات فيها.
كما وسّع المشروع من صلاحيات الديوان لتشمل رقابته حسابات الامتيازات.
- رقابة على قانونية المعاملات أو مدى ملاءمتها؟
كما أسلفنا، إنّ الغاية من الرقابة الإدارية المُسبَقة حدّدها تنظيم ديوان المحاسبة بـ”التثبُّت من صحّة المعاملة وانطباقها على الموازنة وأحكام القوانين والأنظمة” (م.32). يُفهَم من حرفية النصّ أنّ مهمّة الديوان في ممارسة الرقابة المُسبَقة تقتصر على التثبُّت من مدى قانونية المعاملة من دون اشتمال مدى ملاءمة الصفقة، علمًا أنّ المُشرّع كان حسم المسألة في هذا الخصوص في بدايات نشوء ديوان المحاسبة، بعدما سحب منه صراحةً في العام 1954 هذه الصلاحية التي كان منحه إيّاها في العام 1953. وبالرغم من ذلك، فإنّ الديوان اجتهد لتوسيع صلاحيّته لتشمل مدى اعتدال الأسعار انطلاقًا من قاعدة التوازن المالي[1]، مؤكِّدًا أنّ هذا الأمر إنّما يتأتّى عن مهمّته في السهر على الأموال العمومية.
والواقع أنّ توسيع رقابة الديوان لتشمل هذه المعايير دونها محاذير عدّة. فالديوان يبقى هيئة رقابية ولا يُمكن أن يحلّ محلّ الإدارة وسلطتها الاستنسابية، لتقدير ملاءمة النفقة من عدمها، مع مراعاة القواعد القانونية ومبدأ المشروعية. لا بل إنّه يصعب على الديوان، في ظلّ كثرة المعاملات التي يضطلع بها، أن يقيّم الملاءمة خلال مهلة قصيرة، كمهلة الـ 10 أيّام الممنوحة له لإصدار قراره في شأن الرقابة المُسبَقة.
ويلحَظ ختامًا، في هذا الصدد، أنّ الديوان اجتهد ليتوسّع في ممارسة رقابته فعليًّا، بحيث حاول مراقبة اعتدال الأسعار بأكثر من طريقة انطلاقًا من قاعدة التوازن المالي، إضافةً إلى ما حُدِّد في المادة الأولى من تنظيمه، حيث إنّ مهمّته هي السهر على الأموال العمومية.
3- إجراءات الرقابة المُسبَقة
سوف نتناول في ما يلي الإجراءات التي يعتمدها ديوان المحاسبة في ممارسة رقابته المُسبَقة، وصولًا إلى اتِّخاذ قراراته وأصول الطعن بها. وتثير هذه الإجراءات، في الواقع، إشكالات عدّة تتّصل أغلبها بالطبيعة الإدارية لهذه الرقابة، كما هي حال فرض مهل قصيرة على ديوان المحاسبة لاتِّخاذ قرار بشأنها، منعًا لإعاقة عمل الإدارة، أو كذلك لتمكين مجلس الوزراء من تجاوز حجب المُوافَقة المُسبَقة بقرار إداري. وهذا ما سنحاول الإحاطة به تفصيليًّا.
- من يتولّى النظر في الرقابة المُسبَقة؟
من أهمّ الإشكالات التي تثيرها الرقابة الإدارية هي ما تتيحه من تداخُل بين الإدارة والقضاء. ومن هنا، يصبح من المهمّ جدًّا وجود ضمانات قانونية لمنع هذا التداخُل، وبخاصّة بما يتّصل بتوزيع الأعمال المتّصلة بالرقابة المُسبَقة بين قُضاة الديوان وغرفه. وكان مجلس الديوان قد درج على توزيع الأعمال بين هؤلاء على أساس الجهات الخاضعة للرقابة، بمعنى أنّ كلّ من قضاة الديوان يتولّى، بموجب قرار توزيع الأعمال، الرقابة على إدارات مُحدَّدة فيه، على أن يتّخذ قرار إعطاء المُوافَقة أو حجبها من قبل الغرفة التي ينتمي إليها هذا القاضي، مُجتمِعَةً. وعدا عن عدم توفُّر ضمانات الاستقلالية الكافية في مكتب الديوان، كما بيَّنّا في مكان آخر، يجدر التوقُّف أيضًا عند الملاحظات الآتية:
أوّلًا: الخلل الناتج من المادّة 37 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة وسوء تفسيرها
فقد نصَّت هذه المادّة على أن “يتولّى الرئيس إحالة المعاملة على القاضي المُختَصّ وفقًا لقرار توزيع الأعمال، وله أن يتولّاها بنفسه عند الاقتضاء أو في الحالات التي تعين في قرار توزيع الأعمال”. وعلى أساس هذه المادّة، اعتبر رئيس الديوان نفسه مُخوَّلًا توزيع المعاملات الواردة إلى الديوان، مع وضع يده على ما يريده منها، ولو خلافًا لمبدأ توزيع الأعمال. لا بل إنّ رئيس الديوان محمّد بدران ذهب في هذا الخصوص إلى إنشاء غرفة خاصة به تتولّى، بالإضافة إلى صلاحيات خاصة بها، النظر في أيّ معاملة يقرّر إحالتها إليها على الوجه الذي تقدّم. وقد أثار هذا الأمر اعتراضات عدّة، وبخاصة من قِبَل رئيسة الغرفة الأولى لدى ديوان المحاسبة جمال محمود، التي رأت فيه تحويرًا لقانون تنظيم الديوان الذي يقوم على توزيع الأعمال على ثماني غرف وليس على تسعٍ. كما من شأن هذه الممارسة أن تؤدّي إلى الانتقاص من صلاحية القضاة والغرف، فضلًا عمّا تتيحه من محاباة بين رئيس الديوان والإدارات المعنيّة. وما يزيد من قابلية هذه الممارسة للانتقاد هو النقص في الشفافية، بحيث أنّ رئيس الديوان يتّخذ في هذه الحالة قراره باستبقاء معاملات لديه، حتّى من دون إعلام الغرفة المُختصَّة به، ومن دون أيّ تعليل. يُضاف إلى ذلك أنّ الإمعان في نصّ المادّة 37 يدحض ممارسة الصلاحية على هذا الوجه، طالما يُفهَم منها أنّ عبارة “الرئيس” إنّما تحيل إلى رئيس الغرفة وليس إلى رئيس الديوان، بدليل أنّ “الرئيس” يُحيل المعاملة إلى القاضي المُختَصّ (أي ضمن غرفته) وليس الغرفة المُختَصّة كما تكون عليه الحال لو أنّ المادّة قصدت فعلًا رئيس الديوان.
ثانيًا: توزيع الإدارات على القضاة وفق ولاءاتهم السياسية
يُضاف إلى ذلك أنّ قرار توزيع الأعمال يؤدّي عمليًّا إلى تحديد القاضي المُختَصّ من حيث المبدأ، ما لم تُنتَزَع المعاملة منه وفق المادّة 37، كما سبق بيانه. ومن شأن ذلك، في ظلّ نقص ضمانات استقلالية مجلس ديوان المحاسبة المُختَصّ في توزيع الأعمال، أن يمهّد لتعيينات سياسية، بمعنى أن يتولّى الرقابة على إدارات معيّنة قضاةٌ مُقرَّبون منها. وبالرغم من عدم توفُّر معطيات وافية في هذا الخصوص، بين أيدينا، يُستشَفّ من قرارات توزيع الأعمال أنّ بعض قرارات توزيع الأعمال تمّ على أساس معيار طائفي، وأنّ بعضها عُدِّل بعد اعتراض الإدارة حيال التشدُّد في مراقبتها. كما يُلاحظ، عند مراجعة قرارات توزيع الأعمال، أنّ عددًا من القضاة احتفظوا بملفّات لوزارات معيّنة على مدى سنوات، وهذا ما يثير خشية نشوء علاقة وطيدة بين هذه الوزارة أو الإدارة الخاضعة للرقابة مع هذا القاضي، مؤدّاها الحدّ من إمكانيّة ممارسة رقابة فعلية عليها.
وفيما كان نصّ القانون (قبل تعديل قيمة العَتَبة المالية في العام 1997) يميّز قرارات رقابية يتّخذها القاضي المُختَصّ بمفرده من القرارات التي يتّخذها على ضوء تقريره مع الهيئة المُكوّنة لغرفته، فإنّ هذا التمييز زال عمليًّا بعد ذلك، الأمر الذي يعزّز ضمانة الهيئة الجماعية، ويحدّ من مجالات المحاباة في هذا الخصوص. وهذا ما أكّده مشروع إعادة تنظيم ديوان المحاسبة الذي أقرّته الحكومة في العام 2012، بحيث حصر دور القاضي المُختَصّ في الرقابة المُسبَقة بوضع تقرير حول المعاملة، على أن تقرّر الغرفة بشأنها.
وفق قانون تنظيم ديوان المحاسبة، تتمّ ممارسة الرقابة ضمن مهل قصيرة، بحيث تفرض المادّة 39 منه مهلة 10 أيّام على الديوان للبتّ في المعاملة، تحت طائلة صرف النظر عن رأي الديوان، في حين يؤدّي طلب الحصول على معلومات أو استيضاح إلى تمديد هذه المدّة خمسة أيّام من تاريخ استلام المُستندات أو الإيضاحات. وإذ ينسجم قصر المهلة مع طبيعة الرقابة التي يجدر ألّا تُعيق عمل الإدارة وموضوعها الذي ينبغي أن يبقى التدقيق في قانونية المعاملة وليس ملاءمتها، فإنّه، في المقابل، يفترض أن يترافق مع منح ديوان المحاسبة صلاحيات واسعة للنفاذ إلى سجلّات الإدارات والحصول على إيضاحات من دون أيّ تأخير.
وقد عَمَد ديوان المحاسبة، وفق معلومات حصلنا عليها، في الكثير من الحالات التي تحتاج إلى تعليل واسع، إلى تدوين قرار الرفض في سجلّات الديوان، على أن يُحرَّر التعليل لاحقًا. وفي هذه الحالة، لا تُبَلَّغ الإدارةِ قرارَ الرفض إلّا بعد إتمام صياغته. وفيما تسمح هذه الممارسة بتطوير التعليل القانوني، وبخاصّة بما يتّصل بالصفقات المهمّة أو الجديدة نسبيًّا، فإنّه يُخشى أن تؤدّي عمليًّا إلى إعاقة العمل الإداري، وأن تولّد مزيدًا من الاعتراضات على الرقابة المُسبَقة.
أخيرًا، يلحَظ أنّ مشروع قانون العام 2012 زاد المهلة الممنوحة للديوان للبتّ في المعاملة عند طلبه مُستندات إضافية، لتصبح 10 أيّام بدلًا من 5، بما يسهم في تعزيز قدرة الديوان على التمحيص في المستندات أكثر، بخاصّةٍ مع توسيع رقابته لتشمل الملاءمة وجميع البلديات وعددًا أكبر من الهيئات العامة.
بخلاف القرارات القضائية، تَقبل قرارات الرقابة المُسبَقة طلبات إعادة نظر من جهات عدّة؛ فبإمكان كلّ من رئيس الديوان والنائب العام لديه والإدارة المُختَصَّة أن يطلب إعادة النظر من دون أن يحدّد القانون أيّ مهلة للقيام بذلك. وقد أفادنا عدد من القضاة بتعرُّض بعض قراراتهم لطلبات مُتعدّدة ومُتكرّرة لإعادة النظر، وغالبًا من دون أيّ تعليل أو شرح للأسباب الموجِبة لإعادة النظر، على نَحوٍ يجعلُهم محلّ ضغط من داخل الديوان أو من خارجه.
وقد حدّ مشروع قانون العام 2012 من التعسُّف في تقديم طلبات إعادة النظر، من خلال حصر هذه الآليّة بمهلة عشرة أيّام من تاريخ صدور القرار، وحصر الحقّ في ممارستها بمرّة واحدة من قبل أيّ من هذه المراجع.
- إمكانيّة تجاوُز حجب المُوافَقة في مجلس الوزراء
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنّ القانون الحالي يُجيز لمجلس الوزراء أن يتجاوز حجب المُوافَقة عن المعاملة بقرار مُعلَّل، وذلك بناءً على طلب من الإدارة المعنيّة. وقد أتاحت المادّة 40 من تنظيم ديوان المحاسبة إمكانيّة عرض المعاملات على مجلس الوزراء، خلافًا لقرار الديوان، سواء عن طريق الوزير المُختَصّ أو وزير المالية أو الإدارة المُختَصَّة. وعلى أساس هذه المادّة، مارسَ مجلس الوزراء صلاحيته في هذا الشأن بشكل واسع في العقود السابقة. ومن الأمثلة الفاقعة على ذلك، أنّ مجلس الوزراء كسر بين عامَي 2010 و2012 23 قرارًا لديوان المحاسبة، 18 منها يعود إلى وزارة الأشغال العامة والنقل (في فترة الوزير غازي العريضي). وبالرغم من أنّ القانون يشترط في المادّة 41 منه أن يكون كسر قرار الديوان مُعلَّلًا، وبعد الاستماع لرئيس الديوان، فإنّ معظم قرارات مجلس الوزراء التي كَسَرَت قرارات الديوان بَدَت بمثابة قرارات استنسابية خالية من أيّ تعليل. وعليه، ليس من شأن أيّ كسرٍ لقرار ديوان المحاسبة من قبل مجلس الوزراء أن يُزيل المخالفة التي ضبطها الديوان، لا بل يعكس نيّة مجلس الوزراء السير بالصفقة أو المعاملة، على الرغم ممّا قد يعتريها من شوائب قانونية ومالية.
وفيما امتنعت الحكومة الحالية عن تجاوز قرارات الديوان، وفق ما أفادنا به بعض القضاة الذين تمّ الاستماع إليهم، يبقى أنّ النظر في طلب وَرَدَ إلى الحكومة من وزارة الاتّصالات، اعتراضًا على حجب المُوافَقة على قبول العارض الوحيد في قضيّة تلزيم البريد، قد تخلّله تعرُّض واضح لدور الهيئات الرقابية التي اتُّهِمَت بتعطيل الصفقات العامة بصورة مُنتظمة.
وبالرغم من خطورة هذه الممارسة، فإنّ مشروع قانون العام 2012 لم يُدخِل أيّ تعديل إليها. وقد أفادنا عدد من قضاة الديوان أنّ السلطة السياسية تبرّر هذه الأصول في كون القرارات المُتَّخَذة بشأن الرقابة المُسبَقة إنّما هي قرارات تندرج ضمن الرقابة الإدارية، وتتمايز تاليًا، من حيث كيفيّة اتِّخاذها أو قوّتها أو حتّى مضمونها، عن القرارات القضائية. إلّا أنّه على خلاف ذلك، فإنّ منظمة الإنتوساي (المنظّمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية العامة والمحاسبة) توصي بمزيد من الضمانات في حال تولّي أيّ من أجهزة الرقابة المالية مهامّ رقابية من هذا النوع، وذلك تحسُّبا للتداخل بينها وبين الإدارة، ومن أهمّها أن لا يُطعَن بقرارات الجهاز أمام أيّ مرجع غير قضائي.
4- مآلات الرقابة المُسبَقة
فضلًا عمّا تقدّم، وفي حين كانت قرارات ديوان المحاسبة تنحصر في حجب المُوافَقة أو منحها، فإنّ التقارير الصادرة عنه في العقود الأخيرة قد شهدت تنوُّعًا لافتًا بشأن مضمون قراراته.
فبالاطِّلاع على تقارير ديوان المحاسبة، يتبيّن أنّ القرارات في العامَين 1968 و1969 انحصرت بالمُوافَقة أو عدمها، أو بإعلان عدم الصلاحية أو عدم إمكانية إجراء الرقابة المُسبَقة بسبب وضع المعاملة موضع التنفيذ. إلّا أنّه، وعلى خلاف ذلك، يتبيّن من تقريرَي عامَي 1999 و2000، بالإضافة إلى قرارات حجب المُوافَقة أو منحها، ظهور قرارات متنوّعة، منها القرارات بالمُوافَقة الجزئية والمُوافَقة المشروطة والمُوافَقة المقرونة بتوصيات، أو إعادة المعاملة إلى مصدرها لإكمال نواقصها. وعند مراجعة تقارير الديوان الأخير عن الأعوام 2013-2014-2015، يتبيّن أنّه أضاف سلسلة قرارات جديدة إلى هذه القرارات، وهي المُوافَقة المشروطة مع لفت النظر، والمُوافَقة مع لفت النظر، والمُوافَقة مع لفت نظر وتوصية، والمُوافَقة مع احتفاظ الديوان بملاحظاته، أو الاحتفاظ بالمعاملة مع توصية، وغيرها من القرارات المختلفة. وفيما لم نتمكّن من الاطّلاع على هذه القرارات، وتاليًا من تقييمها، من البيِّن أنّ تنويعها يهدف إلى تمرير صفقة غير قانونية، مع تسجيل تحفُّظ غير مُعطِّل للديوان على قانونيّتها. وما يؤكّد ذلك هو غياب أيّ أصول للتثبُّت من معالجة التحفُّظات، أو العمل بالتوصيات، أو تحقيق الشروط التي اقترنت الموافقة بها.
ويشير التقرير الصادر عن الأعوام 2013 و2014 و2015 إلى 14 شكلًا من أشكال القرارات، تمثّل 10 منها مُوافَقات، هي الآتية: مُوافَقة كاملة، ومُوافَقة مشروطة، ومُوافَقة مشروطة مع توصيات، ومُوافَقة مع توصيات، ومُوافَقة جزئية، ومُوافَقة مشروطة مع لفت نظر، ومُوافَقة مع لفت نظر وتوصية. وقد بلغت نسبة المُوافَقات الكاملة تباعًا في السنوات المذكورة (62% و58.5% و52.8%)، ونسبة المُوافَقات في إحدى الحالات التسع الأخرى (34% و37.1% و41.5%) مقابل نسبة ضئيلة لحجب المُوافَقة (2.8% و3.3.% و2.7%) أو لإعلان عدم الصلاحية (0.8% و0.81% و055%).
وقد أفادنا عددٌ من القضاة الذين تمّ الاستماع إليهم أنّ اللجوء إلى هذه المُوافَقات المقرونة بـ “لكن” أو بشروط، إنّما يعكس إرادةً بتسهيل عمل الإدارة، من دون إغفال التحفُّظات والملاحظات القانونية، وهي إرادة تأتي أحيانًا نتيجةَ ضغوطٍ من الإدارة نفسها.
نشر هذا المقال في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”
لقراءة وتحميل الورقة البحثية بصيغة PDF
[1] تقرير ديوان المحاسبة عن السنوات 2013- 2014- 2015: الفصل السادس.