أصدرت لجنة البندقية بجلستها العامة المنعقدة في 26-10-2015 رأيها الاستشاري حول "مشروع القانون الأساسي المتعلق بإجراءات خاصة بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي". لا يلزم رأي لجنة البندقية المجلس التشريعي التونسي الذي يتعهد حاليّا على مستوى لجانه الفنية بنظر مشاريع القانون في مضمونه. لكن مكانتها الاعتبارية قد يجعل من رأيها وثيقة أساسية ستحدد مستقبل مشروع قانون المصالحة الذي دفع الصراع السياسي حوله لطلب الرأي الاستشاري.
تحول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية إلى موضوع صراع سياسي حاد بين من يرفض هذا القانون ومن يدعمه. تتزعم الشق الداعم لمشروع القانون رئاسة الجمهورية التي تعتبر سنه شرطا ضروريا لإطلاق دينامية اقتصادية يتحرر فيها أصحاب الأعمال والمستثمرون من مخاوفهم إزاء النبش في ملفات الماضي. بالمقابل، تتزعم هيئة الحقيقة الكرامة الشق المعارض لمشروع القانون: فهي تعتبر أنه محاولة انقلاب على مسار العدالة الانتقالية ومؤسساتها يهدف لحماية الفساد ومنع كشف الحقيقة.
حاولت هيئة الحقيقة والكرامة إحراج الكتلة الداعمة لمشروع القانون بمجلس نواب الشعب من خلال البحث عن رأي ذات مصداقية قانونية دولية يساند رأيها المناوئ للمشروع. فطلبت رأياً استشارياً من لجنة البندقية. وحاولت في الجهة المقابلة رئاسة الجمهورية التونسية أن تقنع الخبراء المقررين باللجنة بدستورية مشروع القانون أولا وبأن مشروع القانون بصدد المراجعة وأنها ستطور أحكامه على ضوء الاعتراضات التي تمت عليه محليا ثانيا.
اعتبرت لجنة البندقية أنّ مشروع القانون الذي تعهدت بالنظر فيه لا يتعارض مع الدستور التونسي في فكرته. لكنها كشفت أن أحكام هذا القانون في تفاصيلها تخرق الدستور ومبادئ العدالة الانتقالية.
بيّن تعليل اللجنة لرأيها أن خبراءها يقدرون أن صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة التونسية موسعة جدا ويصعب ان تنهض بها في الآجال المحددة أمام كثرة القضايا التي تعهدت بها مقارنة مع عدد العاملين بها وأعضائها أولا وضعف التجاوب الرسمي معها ثانيا. ويقدر الخبراء أن التفكير في آلية أخرى تساعد في تحقيق العدالة الانتقالية في المجال الاقتصادي والمالي مبرر. وأكد رأي اللجنة في هذا الإطار أن الدستور التونسي لا يمنع فكرة إرساء مسار للعدالة الانتقالية خاص بالانتهاكات المالية والاقتصادية وأن الدور الأساسي لهيئة الحقيقة يكون في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.
تأكيد لجنة البندقية لدستورية فكرة مشروع قانون المصالحة قابله تأكيد منها لعدم دستورية أغلب أحكام مشروع القانون وتعارضها مع قواعد أساسية في العدالة، أولها الأمان القانوني وثانيها المساواة أمام القانون.
بينت لجنة البندقية أن تركيبة اللجنة التي يستحدثها مشروع قانون المصالحة وصلاحياتها لا تضمن الاستقلالية الواجبة لدى هيئات ولجان العدالة الانتقالية ولا يمكن مقارنتها بهيئة الحقيقة والكرامة التي تتميز بالاستقلالية .كما أكدت اللجنة أن عمل لجنة المصالحة لا يؤدي لكشف الحقيقة بما يتعارض مع أهداف قانون العدالة الانتقالية.
لم ترفض لجنة البندقية قانون المصالحة بشكل مبدئي لكنها أسقطت عند النظر في تفاصيله فصوله الإثني عشر في عدم الدستورية. ويؤدي موقف اللجنة لدعم أنصار مشروع قانون المصالحة لجهة طرح فكرة القانون، فيما يؤدّي ذات الرأي لكشف أن تجسيد الفكرة يتعارض مع اصول العدالة الانتقالية والدستور.ويفسر الطابع المركب لرأي لجنة البندقية الاختلاف بين أنصار قانون المصالحة والمناوئين له في تأويله: فتبعا لنشره، سعى كل فريق للاحتفاء بالجزء الذي ينتصر لموقفه وأهمل ما يحرجه. ولكن النظر في هذا الرأي في اجماله يكشف أنه غير النقاش حول مشروع القانون في اتجاه يبعده عن الطابع السياسي ويدفع به نحو المبادئ القانونية والدستورية في اطار علاقتها بمنظومة العدالة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.