الرأي الاستشاري حول عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي: مكاسب تاريخية للقضية الفلسطينية


2024-10-03    |   

الرأي الاستشاري حول عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي: مكاسب تاريخية للقضية الفلسطينية
المصدر: الموقع الالكتروني لمحكمة العدل الدولية www.icj-cij.org

في 19 تموز، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري المنتظر بشأن الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهو رأي تاريخي قدّم مكاسب قانونية عديدة للقضية الفلسطينية. وقد خلص الرأي إلى اعتبار الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني وإعلان موجب إسرائيل بإنهائه ووقف الاستيطان وتعويض الفلسطينيين، كما الإقرار بمسؤولية الأمم المتحدة وجميع الدول بوقف دعمها للاحتلال، وتاليًا ضمان حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.

صدر الرأي بعد خمسة أشهر من اختتام المرافعات الشفهية في شباط 2024 لـ 65 دولة ومنظمة الدولية في هذه القضية، بموافقة أغلبية قضاة المحكمة الـ 15، مع اعتراض 4 قضاة فقط على معظم بنوده، وهم نائبة الرئيس سيبوتندي (أوغندا)، والقضاة أوريسكو (رومانيا)، أبراهام (فرنسا) وتومكا (تشيكوسلوفايكيا). وقد أصدر جميع القضاة (باستثناء القاضي بندري من الهند) بيانات وآراءً منفصلة يفصّلون فيها بعض جوانب الرأي، وهو أمر نادر يؤشر على أهمية الرأي وأبعاده. 

في اعتراضهم على الرأي، عبّر القضاة المعارضون عن استيائهم لاختيار المحكمة “عرض الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بطريقة متحيّزة وأحادية الجانب، تتجاهل تعقيداته التاريخية والقانونية”. وعبّروا عن أسفهم لكون المشاركات صبّت كلّها في سردية جانب واحد، الجانب الفلسطيني، من دون أخذ بعين الاعتبار الجانب الإسرائيلي. لكن ما غاب عن أذهانهم هو أنّ هذا “التحيّز” إنّما هو تحيّز للقانون الدولي ولحقّ شعب يعاني منذ أكثر من 7 عقود من الاحتلال والإخضاع والظلم واللاعدالة وصولًا إلى الإبادة الجماعية المصوّرة والمنقولة التي يُشاهدها الجميع مباشرة على الهواء. ولو لم تمارس المحكمة دورها الاستشاري في هذه القضية، لكانت وكأنهّا وقّعت على وثيقة وفاتها بنفسها بعد أن تزعزعت الثقة في منظومة العدالة الدولية برمّتها من جرّاء عجزها عن وقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.

وكما هو متوقّع، ما أن أصدرت المحكمة رأيها حتى جاء الاستهجان الاسرائيلي على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي وصف الرأي بالعبثيّ، وعلى حساب الخارجية الإسرائيلية على موقع “إكس” الذي اعتبر الرأي “خاطئًا، منحازًا، منفصلًا عن واقع الشرق الأوسط، ومتناقضًا مع مبدأ حلّ الصراع عبر المفاوضات المباشرة بين الطرفين”، خاتمًا بيانه بالتأكيد على “التزام إسرائيل بسيادة القانون”. وإذ رفضت إسرائيل رأي المحكمة للبتّ في الصراع متمسّكة جهارًا بالمفاوضات، اغتالت في الشهر نفسه إسماعيل هنية، أي الشخص الذي تفاوضه حول العمليات العسكرية في غزة. بدورها رفضت الخارجية الأميركية الرأي وانتقدت “اتساعه” (breadth) معتبرةً أنّ من شأن ذلك أن “يعقّد الجهود الرامية إلى حلّ الصراع”. يبقى أنّ الموقفين الأميركي والإسرائيلي معزولان دوليًّا حيث رحّب عدد واسع من الدول بالرأي، من ضمنهم الاتحاد الأوروبي. إلّا أنّ هذا الترحيب لا يجب أن يبقى مجرّد شعارات، بل يجب أن يستتبعه خطوات عملية واضحة بما أنّ الرأي أقرّ بوجود موجبات قانونية على جميع الدول من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ للأراضي الفلسطينية.

وهذه هي المرّة الثانية التي تقول فيها محكمة العدل الدوليّة “كلمة القانون” بشأن القضية الفلسطينية بعد رأيها الأوّل والمؤسّس بشأن الجدار الفاصل منذ عقدين. لم تنجح محاولات إسرائيل وحلفائها اليوم في ثني المحكمة عن إبداء رأيها، مثلما فشلت المحاولات السابقة عام 2004. لا بل تناول الرأي الثّاني الذي يمتدّ على 80 صفحة جوانب عدّة من القضية الفلسطينية وأعطى توصيفات قانونية مهمة وخطيرة للممارسات الإسرائيلية.

وقد أجمع عددٌ واسعٌ من القانونيين والمناضلين الفلسطينيين أنّ أهمية الرأي لا تكمن في كونه وثيقة منفصلة، بل في قدرته على تمهيد الطريق وشرعنة تحرّكات لاحقة في اتجاه إنهاء الاحتلال، سواء كان ذلك من خلال الضغط على الدول الأطراف أو من خلال إعطاء دفعة للحراكات المدنية المناصرة للقضية الفلسطينية. فكما نشأت حركة المقاطعة الواسعة عام 2005 استنادًا إلى صدور الرأي الاستشاري بشأن عدم قانونية الجدار الفاصل عام 2004، يُتوقع أن يساهم هذا الرأي أيضًا في تأسيس حركة واسعة وأكثر متانة لمناهضة الاحتلال الإسرائيلي بالنظر إلى شموليّته وأهمّية المكاسب القانونية التي سجّلها.

نتناول في هذه المقالة أبرز المكاسب القانونية التي حققها هذا الرأي الاستشاري بالنسبة للقضية الفلسطينية، على أن نخصّص مقالة أخرى حول الموجبات القانونية التي أعلنت المحكمة أنّها تقع على إسرائيل وكافة الدول نتيجة توصيفها لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، والنتائج المتوقّعة لهذا الرأي بخاصّة تبعًا لقرار الجمعية العامّة للأمم المتحدّة في 13 أيلول 2024 الذي طالب إسرائيل وجميع الدول بالالتزام برأي المحكمة وبإنهاء الوجود الإسرائيلي غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلّة خلال مهلة سنة.

محكمة العدل الدولية

المكسب الأوّل: الرأي ضروريّ لأن الصراع يتعلّق بالسلام الدولي

إذا كان “مجرّد قبول محكمة لاهاي إعطاء رأي استشاريّ حول الموضوع رهانًا أساسيًّا” عام 2004، فالوضع اختلف بعد عقدين حيث قرّرت المحكمة بأغلبيّة أعضائها الواسعة (14 قاضيًا من أصل 15) ممارسة صلاحيّتها بإبداء الرأي على الأسئلة التي طرحتها الجمعية العامّة للأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية. وكانت تسع من الدول المشارِكة في إجراءات هذه القضية قد دعمت موقف إسرائيل لجهة حثّ المحكمة على الامتناع عن إبداء رأيها في هذه القضية (كندا، إيطاليا، بريطانيا، هنغاريا، تشيكيا، نورو، توغو، فيجي، زامبيا)، مقابل تشديد غالبية المشاركات على ضرورة أن تصدر المحكمة رأيها وأن “تقول” كلمة القانون فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. وفيما خصّصت المحكمة ما يقارب نصف رأيها عام 2004 لمناقشة المسائل الأوّلية حول الاختصاص وملاءمة إعطاء الرأي، اكتفت هذه المرّة بعشرين فقرة من أصل 285 لتؤكّد أنّه ما من أسباب حاسمة تمنعها عن ممارسة دورها الاستشاريّ.

دحضتْ المحكمة حجج إسرائيل وحلفائها، مؤيدةً مواقف دول الجنوب العالمي التي تمسّكت بالقانون الدولي في مرافعاتها. إذ لم تعتبر المحكمة أنّ المسألة المطروحة عليها تتعلّق بصراع ثنائيّ بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي فحسب، بل أنّها قضية تعني الجمعية العامّة للأمم المتحدة كون المسألة الفلسطينية مدرجةً على جدول أعمالها منذ عدة عقود، وتتعلّق بالسلام والأمن الدوليين. والأهم، أنّ الأسئلة المطروحة عليها تتتضمّن بعض الموجبات التي تقع على عاتق جميع الدول. واعتبر القاضي تلادي (جنوب أفريقيا) في إعلانه الفردي أنّه “سواء أكانت الأمم المتحدة مسؤولة أم لا، فإنّ حرمان الشعوب من بعض الحقوق الأساسية هي قضية تهم البشرية جمعاء”.

رفضت المحكمة الحجج التي شكّكت في حاجة الجمعية العامّة إلى هذه المشورة القانونية لأداء مهامها والتي رأت في تدخّل الجمعية العامة محاولة لـ “تأكيد نتائج قانونية معيّنة بهدف حلّ النزاع الثنائي بين فلسطين وإسرائيل” (المملكة المتحدة البريطانية). واعتبرت المحكمة أنّه لا يعود لها أن تحلّ محلّ الجمعية العامة في تقييم الحاجة إلى هذا الرأي. فأن تطلبه هذه الأخيرة يعني أنّها في حاجة إليه. كما رفضت المحكمة حجّة إسرائيل حول “تحيّز” الأسئلة المطروحة من قبل الجمعية العامّة لكونها تفترض وجود انتهاكات للقانون الدولي من قبلها، وهو ما لحظته أيضًا القاضية سيبوتندي (أوغندا) في رأيها المخالف. وقد رفضت المحكمة أن يكون هذا سببًا حاسمًا يمنعها عن أداء دورها، معتبرةً أنّه ليس للجمعية العامّة النيّة في الحدّ من حرّية المحكمة وصلاحيّتها في الإجابة على الأسئلة، إذ تبقى هذه الأخيرة قادرة على استخلاص التوصيف القانوني بغضّ النظر عن شكل السؤال المطروح عليها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المحكمة حافظت على صيغة الأسئلة المطروحة عليها من دون أن تقوم بإعادة صياغتها.

وكما هو متوقّع، لم تصمد حجّة بعض المشاركات حول “غياب المعطيات الكافية” التي تخوّل المحكمة ممارسة دورها بشكل يحترم “نزاهة وظيفتها القضائية”. فقد رأت المحكمة أنّ الجمعية العامّة لا تتوقع منها أن تحدّد الوقائع الدقيقة لسياسات إسرائيل وممارساتها، بل أن توضح التوصيف القانوني لهذه السياسات والممارسات (فقرة 77). واستندت المحكمة على المشاركة الدولية الواسعة، والملفّ الضخم المقدّم من أمين عام الأمم المتحدة والذي يحتوي قدرًا كبيرًا من المعلومات حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتخلص إلى اعتبار أنّ المعطيات أمامها كافية لتحديد التوصيف القانوني للممارسات والسيّاسات الإسرائيلية.

وقد جاء رأي المحكمة مفصّلًا خلافًا لطلب الولايات المتّحدة الأميركية بإبداء رأي “بحذر” من دون تقويض المبدأ الأساسي المتمثل في “الأرض مقابل السلام”. ففيما طلبت الولايات المتحدة الأميركية ألّا تبتّ المحكمة “بالمسائل المرتبطة بالأوضاع الدائمة المخصصة للمفاوضات، مثل مسألة الحدود أو الترتيبات الأمنية”، أتى جواب المحكمة واضحًا حول وجوب انسحاب إسرائيل إلى خط الهدنة لعام 1949 (أي ما يُعرف بحدود عام 1967) وفصل هذا الموجب عن أيّة اعتبارات أمنية إسرائيلية. 

المكسب الثاني: تكريس وحدة الأرض المحتلّة

في إطار تحديد النطاق الجغرافي للأسئلة المطروحة عليها، أكّدت المحكمة على وحدة الأراضي الفلسطينية وضرورة المحافظة على “وحدتها واستمراريّتها وسلامتها” (فقرة 78)، مما يناقض محاولات إسرائيل تجزئة هذه الأراضي. واستنتجت هذا التوصيف القانوني بالاستناد إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة[1] ومجلس الأمن[2] واتفاقيات أوسلو[3].

وفي سياق تحديد النطاق القانوني المادي للمسائل المطروحة، وجب عليها التأكّد من الفرضية التي تقوم عليها الأسئلة ومفادها أنّ “الأرض الفلسطينية تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي”. لم تكن مسألة خضوع الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى الاحتلال شائكةً، ذلك أنّ المحكمة كانت قد بتّت فيها في قضية الجدار عام 2004. ولكنّها لم تتطرّق حينها إلى وضع غزة كون السؤال المطروح كان متعلّقًا بالجدار الفاصل في أراضي الضفة.

وفي رأيها الأخير، أكّدت المحكمة بشكل واضح أنّ غزة هي جزء من الأراضي المحتلة عام 1967 وبقيت كذلك حتى عام 2005 حين أنهت القوّات الإسرائيلية انسحابها الميداني من غزة، وهي أيضًا محتلّة بعد 7 أكتوبر 2023. أمّا حول وضعية غزة بين عامي 2005 و2023، فاستندت المحكمة إلى تقارير لجنة التحقيق الدولية المستقلّة المعنيّة بالأراضي الفلسطينية المحتلّة، معتبرةً أنّ إسرائيل بقيت تسيطر على “المجال الجوي والمياه الإقليمية [لغزة]، وكذلك المعابر الحدودية البرية، والبنية التحتية المدنية، بما في ذلك إمدادات المياه والكهرباء، والوظائف الإدارية الرئيسية مثل إدارة سجلّات الأحوال المدنية للسكان الفلسطينيين” (فقرة 89). وعليه، وعلى الرغم من محاولات إسرائيل تحريف القانون الدولي من خلال إعادة تأكيد “انسحابها من غزة” وأنّ غزة بالتالي لم تعدْ محتلّة بعد العام 2005، أكّدت المحكمة على بديهيات القانون الدولي بأنّ تعريف الاحتلال لا ينحصر بالوجود العسكريّ الميداني، بل هو “سيطرة فعلية لجيشٍ معادٍ على أرض معينة، حيث يكون له سلطة قائمة وقابلة للممارسة”[4]. واعتبرت المحكمة أنّ إحكام السيطرة على أرض معيّنة لا يعني بالضرورة وجود عسكري ميداني، “فقد تتمكّن سلطة الاحتلال من الاحتفاظ بهذه السيطرة والاستمرار في ممارسة سلطتها حتى في حالة غياب وجود عسكري ميداني” (فقرة 91). واستندت المحكمة أيضًا في تفسيرها هذا على اجتهادات محاكم دولية ووطنية عدّة.

وإن لم تؤكّد المحكمة حرفيًا أنّ غزة كانت تعتبر أرضًا محتلّة بعد العام 2005، إلّا أنّها أكّدت أنّ إسرائيل التي بقيت تمارس “بعض الصلاحيات الأساسية في قطاع غزة”، مثل “السيطرة على الحدود البرية والبحرية والجوية، وفرض القيود على حركة الأشخاص والبضائع، وتحصيل ضرائب الاستيراد والتصدير، والسيطرة العسكرية على المنطقة العازلة”، تبقى “ملزمة بالالتزامات الناشئة عن قانون الاحتلال بشكل متناسب مع درجة سيطرتها الفعلية على قطاع غزة” (فقرة 92 و93).

وفي هذا الإطار، لحظت القاضية كليفلاند (الولايات المتحدة) أنّ المحكمة لم تحدّد بشكل واضح ما هي هذه الالتزامات، وعابت عليها تقديمها لهذا الاستنتاج من دون ذكره لاحقًا في قرارها وكانّه “لا يلعب أيّ دور لاحق في تحليل المحكمة.” أمّا القاضي ايواساوا (اليابان)، ففسّر الرأي على أنّه لا يدل بالضرورة إلى وضع غزة القانوني، بل يركّز على موجبات سلطة الاحتلال، معتبرًا أنّ المحكمة سلّمت بمسؤولية إسرائيل في قطاع غزة من دون أن تتخذ موقفًا بشأن ما إذا كانت غزة ظلّت “محتلة” بعد عام 2005. من جهتهم، اعتبر القضاة المخالفون (أوريسكو وتومكا وأبراهام) أنّه كان يجب على المحكمة أن تخلص إلى إقرار عدم قدرتها على البتّ في مسألة وضع غزة القانوني قبل 7 أكتوبر 2023 لافتقارها إلى معلومات كافية أمامها.

بغض النظر عن الغموض الذي تضمّنه الرأي في هذا الإطار، يبقى أنّه ينتج عن موقف المحكمة مفاعيل واضحة، ألا وهو موجب إسرائيل بالانسحاب من غزة والتعويض عن كلّ الأضرار التي سبّبتها خلال 57 عام في القطاع. وأبعد من ذلك، من الممكن أن يكون لهذا الموقف أثرٌ في دعوى الإبادة الجماعية المقامة من جنوب افريقيا على إسرائيل، إذ لا تزال المحكمة حتى اللحظة حذرة في مقاربتها للقضية وتتفادى مناقشة مسألة شرعية العملية العسكرية الإسرائيلية، رغم أنّ جزءًا أساسيًا من الدفاع الإسرائيلي أمامها يقوم على اعتبار هذه العملية “دفاعًا عن النفس”. فحين تعتبر المحكمة في هذا الرأي  أنّ غزة “تخضع لدرجة من السيطرة الإسرائيلية” بين 2005 و2023، فإنّ ذلك يدعم القول بسقوط حجة الدفاع عن النفس لتبرير العمليات العسكرية الإسرائيلية على أرض محتلة بناءً على اجتهاد المحكمة السباق في قضية الجدار.

بناء المستوطنات جنوب بيت لحم يقطّع أوصال الأراضي الفلسطينية

المكسب الثالث: تحديد الانتهاكات الإسرائيلية

تمهيدا للإجابة على الأسئلة المطروحة عليها، أجرت المحكمة استعراضا مفصّلا للممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية انطلاقًا من قواعد القانون الدولي الإنساني (معاهدات جنيف ولاهاي) الذي يحدد موجبات سلطة الاحتلال. وعليه، استنتجت مخالفة إسرائيل لعدد واسع من هذه القواعد، ومنها:

 
(1) حظر نقل المستوطنين إلى الأراضي المحتلة، ولم تميّز المحكمة بين المستعمرات التي تصفها السلطات الإسرائيلية ب “القانونية” وبين البؤر الاستيطانية التي غالبًا ما تعود الحكومات الإسرائيلية وتعترف بقانونيتها في مرحلة لاحقة لإنشائها، على اعتبار أنّ الاستيطان في كلا الحالتين يتمّ بدعم من الدولة الإسرائيلية (فقرة 119).

(2) مصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة والعامة لتطوير المستوطنات الإسرائيلية ما يعود بالنفع على السكان المدنيين من المستوطنين على حساب السكان الفلسطينيين المحليين (فقرة 122).

(3) استغلال إسرائيل للموارد الطبيعية الفلسطينية، بما في ذلك المياه والمعادن، لصالح سكانها، مما يضر بالسكان الفلسطينيين المحليين، أو حتى يحرمهم منها تمامًا (الفقرة 126).

(4) توسيع نطاق التشريع الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة، واستبدال إسرائيل قانونها العسكري بالقانون المحلي الذي كان ساريًا في الأرض الفلسطينية المحتلة عند بداية الاحتلال في عام 1967 (فقرة 136).

(5) التهجير القسري للسكان الفلسطينيين من خلال عمليات الإخلاء القسري، وهدم العديد من المنازل، والقيود المفروضة على الإقامة وحرية التنقل، ومصادرة الأرض في كثير من الأحيان لإعادة تخصيصها للمستوطنات الإسرائيلية (فقرة 147).

(6) العنف الممارس على الفلسطينيين من قبل المستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية على حد سواء والذي يؤثر بشكل خاص على النساء الفلسطينيات اللواتي يتعرضن لأعمال تحرش جنسي ترتكبها قوات الأمن الإسرائيلية والمستوطنون (فقرة 153).

الدمار في غزّة
مركز إيواء نازحين تابع للأونروا بعد تهجيرهم قسرًا من أحيائهم- غزّة

المكسب الرابع: حق تقرير المصير لا يخضع لشروط الاحتلال

أحد أهمّ المكاسب الذي حققه هذا الرأي هو الاعتراف بالطبيعة الآمرة لحق الشعوب بتقرير المصير. وهذا مكسب لا ينحصر فقط على الشعب الفلسطيني، بل يطال أي شعب لا يزال خاضعًا أو قد يخضع مستقبلًا لسلطة أجنبية. فبعد أن اقرّت المحكمة بهذا الحق في رأيها في قضية الجدار عام 2004، وجدت من الضروري “تحديد نطاقه” في الرأي الثاني (فقرة 230). وبدأت المحكمة بعرض النصوص القانونية التي تتّصل به، موضحةً أنّه “أحد المبادئ الأساسية للقانون الدولي الحديث”، ومشددةً على أهميته كونه “شرطا أساسيا لضمان الحقوق الفردية لحقوق الإنسان”[5]. كذلك تطرّقت المحكمة إلى سياق الاستعمار الذي رافق نشأة هذا الحق وتطوّره. وفي تحديد مكانته القانونية، أعادت التأكيد على أنّه “حق غير قابل للتصرف” ويخلّف موجبات تقع على عاتق جميع الدول.

لكنّ التقدّم الذي أحرزته المحكمة يكمن في توصيفها الجديد لهذا الحق على أنّه قاعدة آمرة في القانون الدولي (jus cogens)، فاعتبرت أنّه “في حالة الاحتلال الأجنبي، كما هي الحال في هذه القضية، فإنّ الحقّ في تقرير المصير يشكل قاعدة قطعية من قواعد القانون الدولي” (الفقرة 233).  تجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة ليست هي من يعطي هذا الطابع القطعي لقاعدة معينة، بل هي تقوم فقط باستخلاص وترسيخ طبيعته هذه.  والقواعد الآمرة أو القطعية هي مجموعة من القواعد في القانون الدولي التي، بالنظر إلى أهميتها، تتمتّع بمرتبة أعلى من القواعد الأخرى، ولا تجوز مخالفتها أو الانتقاص منها حتى رضائيًا. وعلى الرغم من غياب الهرمية في القانون الدولي مقارنة بالأنظمة القانونية الوطنية، تشكّل القواعد الآمرة الاستثناء بحيث تتمتع بمرتبة قانونية أعلى من سائر القواعد ولا يمكن انتهاكها تحت أية ذريعة.

وعلى الرغم من ترحيبهم بهذا الاعتراف، تأسّف بعض القضاة، مثل شيويه (الصين)، غوميز روبليدو (المكسيك) وتلادي (جنوب أفريقيا)، إلى حصر الصفة الآمرة لحق تقرير المصير في حالة الاحتلال الأجنبي، معتبرين أنّه كان من الأجدى أن تعترف المحكمة بالطبيعة الآمرة لهذا الحق في جميع الحالات. فرأت القاضية شيويه (الصين) أنّ “آثار الاحتلال الإسرائيلي لا تختلف كثيراً عن تلك التي خلّفها الحكم الاستعماري، المدان بشدة في القانون الدولي”، وأنّ “الطابع الحاسم لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير يرتكز على هذا الأساس المتين للقانون الدولي، وليس الظروف الخاصة للاحتلال الإسرائيلي”. من جهته، اعتبر القاضي يوسف (الصومال) أن الاحتلال الإسرائيلي يخرج عن “الاحتلال العادي المشروع في مفهوم القانون الدولي الحديث”، وأعاد توصيفه على أنّه “احتلال استعماري” استنادًا إلى طول أمده، معتبرًا أنّه لم يعد له مكان في القانون الدولي الحديث تبعًا لنشأة حق تقرير المصير المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة.

وبعد أن استخلصت المحكمة هذا الطابع القطعي لحق تقرير المصير، دققت في إمعان السلطات الاسرائيلية في إنكار هذا الحق للشعب الفلسطيني، سواء عبر (1) تجزئة الأراضي الفلسطينية والمساس بوحدتها وسلامتها، وتطويق المجتمعات الفلسطينية في “جيوب” منفصلة عن بعضها، وضم أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية؛ (2) تشتيت السكان ومنع وحدتهم وسلامتهم؛ (3) حرمان الشعب الفلسطيني على مدى عقود من التمتع بالموارد الطبيعية الموجودة في الأرض الفلسطينية المحتلة؛ (4) حرمان الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره السياسي بحرية وتحقيق تنميته الاقتصادية والاجتماعية من خلال فرض اعتماد كامل الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبشكل خاص قطاع غزة) على إسرائيل في توفير السلع والخدمات الأساسية.

وأشارت المحكمة إلى الضرر الذي يلحق الشعب الفلسطيني ككل، بالإضافة إلى الضرر اللاحق بالأفراد. واستندت على تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا عام 2023 لتلحظ تداعيات الممارسات الإسرائيلية “التراكمية ومتعددة الأبعاد والممتدة بين الأجيال” مشيرةً إلى “عمق تأثيرها على الاقتصاد الفلسطيني” بشكل يعزز “اعتماد الاقتصاد الفلسطيني غير المتكافئ على الاقتصاد الإسرائيلي وازدياد اعتماد المؤسسات الفلسطينية على المساعدات الخارجية” (فقرة 242).

وعليه، اعتبرت المحكمة أنّ اسرائيل استخدمت احتلالها الطويل “لترك الفلسطينيين في حالة من الترقب وعدم اليقين إلى أجل غير مسمّى”، وأعلنت أنّ “حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره لا يمكن أن يخضع لشروط دولة الاحتلال، باعتباره حقّا غير قابل للتصرف” (فقرة 257). وبناء على الطبيعة الآمرة لحق تقرير المصير وإلى استخدام إسرائيل لاحتلالها كوسيلة لإنكار هذا الحقّ، خلصت المحكمة إلى اعتبار أنّ “لانتهاك هذا الحق تأثير مباشر على شرعية وجود إسرائيل في الأراضي المحتلة”.

المكسب الخامس: الاحتلال غير قانوني

تماشيًا مع طلب غالبية المشاركات، لم تكتفِ المحكمة باستخلاص عدم قانونية الممارسات والسياسات الإسرائيلية بشكل منفصل، بل فسّرت الأسئلة المطروحة عليها –  من دون الحاجة إلى إعادة صياغتها – على نحو يسمح لها بتقييم مدى قانونية الاحتلال الإسرائيلي المتواصل بحد ذاته. فاعتبرت أنّ السؤال الثاني المطروح عليها لا يقتصر على ما إذا كانت الممارسات الإسرائيلية تؤثّر على الوضع القانونيّ للاحتلال، بل كيف تؤثّر عليه. إذًا، انطلقت المحكمة من فرضيّة أنّ لهذه الممارسات تأثير أكيد على الوضع القانوني للاحتلال، ليصبح السؤال مباشرة: “هل الاحتلال – أي استمرار وجود إسرائيل كقوة احتلال – قانوني”؟ (فقرة 250) ويأتي الجواب عليه بالنفي.

أثارت هذه القراءة حفيظة القضاة المعترضين (ابراهام، اوريسكو وتومكا) الذين اعتبروا أنّ الجمعية العامة لم “تسأل مباشرة عن شرعية الاحتلال”. كما اعتبروا أنّ المحكمة ارتكبت خطأً قانونيًا حين خلصت إلى اعتبار الاحتلال غير قانوني معيبين عليها غياب السند القانوني والتماسك في تحليلها. وفيما أعاب هؤلاء القضاة وبعض المعلّقين غياب الوضوح في رأي المحكمة حول السند القانوني الذي أتاح لها الوصول إلى هذه الخلاصة، يظهر التدقيق في رأي المحكمة أنّها وصلت إلى هذه النتيجة بناء على تعارض الممارسات الإسرائيلية مع حق تقرير المصير كما أسلفنا، ولكن أيضًا مع قواعد قانون ضد الحرب (jus ad bellum) بخاصة مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، لتعتبر بصورة واضحة لا لبس فيها أنّ الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني.

تجنّب البحث في مشروعية الأعمال العسكرية الإسرائيلية

بالرغم من وضوح موقف المحكمة لجهة اعتبارها الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني، إلا أنها تفادت التطرّق بشكل مباشر إلى شرعية الأعمال العسكرية الإسرائيلية، سواء في عام 1967 أو فيما يتعلق بالاستخدام المستمر للقوة. وقد ظهر هذا التفادي من زاويتين:

بداية، لم تتطرّق المحكمة إلى العملية العسكرية التي أنشأت الاحتلال عام 1967. ففي إطار عرضها لسياق القضية المطروحة أمامها، ذكرت المحكمة النزاع المسلّح الذي نشب عام 1967 بين اسرائيل وسوريا ومصر والأردن من دون أيّ توصيفٍ له لا على أنه عدوان[6] أو عملية دفاع عن النفس (فقرة 57). وقد برر رئيس المحكمة القاضي سلام (لبنان) خيار المحكمة هذا من خلال العودة إلى صيغة السؤال المطروح عليها والذي يتعلّق بـ”استمرار الوجود الاسرائيلي”، لا بالظروف التي أدّت إلى نشأته ab initio. بالتالي، اعتبر سلام أنّه ليس على المحكمة أن تبدي رأيها بشأن شرعية العملية الأساسية. على الرغم من ذلك، وجد سلام أنّه من الضروري التذكير بمواقف الجمعية العامة المتكررة التي تدين عدم شرعية الاحتلال منذ نشأته. وفي موقف معاكس، رأى القاضي تومكا (سلوفاكيا) أنّ المحكمة لاحظت في رأيها أنّ “بعض الإجراءات اللاحقة التي اتخذتها إسرائيل جعلت الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية غير قانوني”، أي أنّ المحكمة اعتمدت صياغة تشير إلى أنّ الاحتلال نتج عن عمل عسكري قانوني، فيما المخالفة القانونية جاءت نتيجة إجراءات “لاحقة” لهذا العمل.

أمّا الزاوية الثانية، فهي عندما لحظت المحكمة أنّ “الاحتلال ينطوي بطبيعته على استمرار استخدام القوة على أرض أجنبية” (فقرة 253)، وأنه بالتالي يبقى “خاضعًا لقواعد القانون الدولي التي تحكم مشروعية استخدام القوة”، وتحديدًا مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة. وإن كان هذا التحليل صحيحًا، يبقى أنّ المحكمة قفزت فوق جزء مهم من تسلسل القواعد في القانون الدولي الحديث المرتبط بـ”نظام السلامة الجماعية” الذي يرعى استخدام القوة في العلاقات الدولية بعد العام 1945، والذي يقوم على الحظر المبدئي لاستخدام القوة (المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة)، مع استثناء في حالة حق الدفاع عن النفس (المادة 51 ميثاق الأمم المتحدة) أو الترخيص من مجلس الأمن (المادة 42 من ميثاق الأمم المتحدة). وإذ أكّدت المحكمة أنّ الاحتلال هو بطبيعته استعمال مستمرّ للقوة، إلّا أنّها لم تطبّق الإطار الذي يرعى شرعية هذا الاستخدام. فلم تبحث إذا ما إذا كان استمرار الاحتلال يخالف هذا النظام: هل لاسرائيل الحق في استمرار ممارسة القوة من دون إذن مجلس الأمن؟ هل تحققت شروط الدفاع عن النفس؟ هل ممارسة اسرائيل تحترم مبدأي التناسب والضرورة؟ كلّها أسئلة تفادت المحكمة الغوص فيها مكتفيةً بالتركيز على مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة لتخلص إلى عدم قانونية الاحتلال.

اعتبرت المحكمة أنّ سعي إسرائيل للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية هو أمر قائم ومخالف للقانون، فلم تهتم بدراسة شرعية الأعمال العسكرية من عدمها، ولم تبحث في مدى وجود سند قانونيّ لهذه الأعمال العسكرية (تحديدًا الدفاع عن النفس).

لكنّ اعتبارها أنّ “الاحتلال هو ممارسة مستمرة للقوة” يخوّلنا استنتاج عدم قانونية هذا الاحتلال بمعزل عن مسألة الاستيلاء على الأراضي، طالما أن ذلك يفرض وجوب أن تكون شروط الدفاع عن النفس – الصارمة – متوافرة بشكل دائم. وهذا ما لمّحت إليه القاضية شارلزورث (أستراليا) حين اعتبرت أنّه “يجب على الاحتلال أن يكون متوافقا في جميع الأوقات مع إطار حظر استخدام القوة”. وقد تناول القاضي يوسف (الصومال) هذا الجانب أيضّا حيث اعتبر أنّه من غير الممكن ” تبرير الاحتلال المديد على أساس هذه القواعد ما لم تستمر الظروف اللازمة للدفاع المشروع عن النفس طوال فترة الاحتلال”. بمعنى آخر، يجب أن تكون سلطة الاحتلال من أجل تبرير استمرار احتلالها، قادرة في جميع الأوقات على إثبات أنّه يعود إلى ضرورة عسكرية، و”لا يمكن التذرّع بحقّ الدفاع عن النفس ضدّ تهديد محتمل أو مستقبليّ قد ينبع من الأراضي المحتلة”. لم تكن المحكمة بهذا الوضوح، لكنها عمليًا أسقطت عن إسرائيل حجة “المخاوف الأمنية المشروعة” كذريعة تسمح لها بارتكاب مخالفاتها في معرض رأيها، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

ولم تكتفِ المحكمة بإزاحة ذريعة المخاوف الأمنية الإسرائيلية لتبرير الاحتلال، بل ذهبتْ أبعد من ذلك واعتبرتْ أنّ الاحتلال الذي يراد من استمراره بسط السيادة والسيطرة على أرض أجنبية يشكّل ضمّا، وبالتالي يكون في حد ذاته  غير قانوني (فقرة 254).

متظاهر يحمل يافطة كتب عليها: أنهوا الاحتلال غير القانوني الآن

استنباط نيّة الاستيلاء على الأراضي

أكّدت المحكمة أنّه “مهما كانت الظروف التي أدّت إلى الاحتلال، لا يمكن للاحتلال أن يمنح حقّ السيادة لقوة الاحتلال. وبالتالي، فإن سلوك سلطة الاحتلال الذي يعكس نية ممارسة سيطرة دائمة على الأراضي المحتلة قد يشكل عملاً من أعمال الضم” (فقرة 159). وبوضوح تامّ، وجدت المحكمة أنّ الممارسات الإسرائيلية التي “تخلق بيئة غير مرحِّبة للسكان الفلسطينيين”، وتُعامل الأراضي الفلسطينية على أنّها أراضٍ إسرائيلية[7]، هي أعمال ترتقي إلى سياسة ضم، مشدّدةً على أنّها إجراءاتٌ “لا يمكن عكس مفاعيلها أو التراجع عنها بسهولة” وتهدف إلى إبقاء الوجود الإسرائيلي وإحكام سيطرته إلى أجل غير مسمّى. وبالتالي، رأت المحكمة أنها بمثابة ضمّ لأجزاء كبيرة من الأرض الفلسطينية المحتلة (فقرة 173).

وفي هذا السياق، اعتبر بعض القضاة (أوريسكو، ابراهام، تومكا) أنّ عدم قانونية عملية الضمّ لا يؤثر على شرعيّة الاحتلال بحد ذاته، وأنّه كان يفترض على المحكمة أن تخلص إلى فرض موجب إنهاء “الضمّ”، كونه هو العمل غير الشرعي، لا موجب إنهاء الاحتلال. إلا أن التّدقيق في رأي المحكمة يشير إلى تلاشي الحدود القانونية النظرية بين “الاحتلال” و”الضمّ” في الممارسات الإسرائيلية، وكأنّ المحكمة تُعيد توصيف هذه الأخيرة من كونها احتلالا إلى كونها عملية ضمّ.

وقد بحثت المحكمة في النيّة الإسرائيلية خلف هذه الممارسات، لتجد أنّ اسرائيل “تستمر في إساءة استخدام موقعها كسلطة احتلال” من أجل “ضمّ الأرض الفلسطينية وفرض سيطرتها الدائمة عليها” (فقرة 261). وهي لا تحترم جوهر النظام القانوني للاحتلال الذي يُنظر إليه على أنّه “وضع مؤقت، يتمّ خلاله التسامح مع ممارسة سلطة الاحتلال على الأراضي الأجنبية لصالح السكان المحليين” (فقرة 106). على العكس تمامًا، بيّنت المحكمة أّن الاحتلال الاسرائيلي يهدف في جوهره إلى بسط سيطرة دائمة على الأراضي الفلسطينية وضمّها، وإخضاع الشعب الفلسطيني ونكران حقّه في تقرير المصير.

هذا أيضًا ما يفهم من موقف القضاة المؤيّدين للرأي، حيث اعتبر القاضي تلادي (جنوب أفريقيا) أنّ المحكمة توصّلت إلى هذا الاستنتاج لأنّ “السياسات والممارسات في الأراضي الفلسطينية المحتلة كشفت عن الغرض الحقيقيّ لإسرائيل وهو الاستيلاء بالقوة على الأراضي الفلسطينية في انتهاك للقواعد الأساسية للقانون الدولي”. من جهتهما، اعتبر القاضيان نولت (المانيا) وكليفليند (الولايات المتحدة) في موقفهما المشترك أنّ “وجود قوات الاحتلال هو وسيلة لتحقيق الضم”، وبالتالي “أي تبرير محتمل لسلطة الاحتلال يُفقد حين يتم استغلال الوجود [العسكري] من أجل تطبيق الضم وإلغاء حق تقرير المصير”.

المكسب السادس: الاحتلال يمارس الفصل والعزل العنصري

حصرت المحكمة دراسة التدابير التمييزية التي تمارسها إسرائيل في الأراضي المحتلة واعتبرت أنّ التدابير التمييزية في “الداخل الإسرائيلي” تبقى خارجة عن إطار الأسئلة المطروحة عليها. وخصّصت 49 فقرة من رأيها لهذه الممارسات التي شملت تدابير الإقامة، تقييد حرية التنقل، سياسة هدم المنازل إمّا عقابيا أو بحجة “غياب تراخيص بناء”، وبيّنت انعدام أيّ مبرر لها. وخلصت إلى اعتبار أنّ “نظام التقييد العام الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكل تمييزًا منهجيًا يعتمد، بشكل خاص، على العرق أو الدين أو الأصل العرقي، وهو ما يشكل انتهاكًا “لعدد من المواثيق الدولية، أبرزها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري” (فقرة 223).

وختمت المحكمة الجزء المخصص لدراسة الممارسات والسياسات التمييزية بإعلان انتهاك إسرائيل للمادة الثالثة من “الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري” والتي تنصّ على أن  “تشجب الدول الأطراف بصفة خاصة العزل العنصري والفصل العنصري، وتتعهد بمنع وحظر واستئصال كل الممارسات المماثلة في الأقاليم الخاضعة لولايتها” (فقرة 229). فهل قصدت المحكمة أنّ اسرائيل ترتكب جريمتي العزل والفصل العنصري، أم فقط جريمة واحدة منهما؟ وفي هذه الحال أيهما؟

على الرغم من كون العزل العنصري (racial segregation) والفصل العنصري (apartheid) يشكّلان أخطر أشكال التمييز العنصري، إلّا أنّهما غير معرّفين في الاتفاقية، مما يؤدي إلى الاعتماد على أساليب تفسير أخرى لتعريفهما، كدراسة الأعمال التحضيرية للاتفاقية أو الاعتماد على التعريفات الواردة في اتفاقيات أخرى. وعليه، يُعرّف العزل العنصري على أنّه “فصل الأشخاص، بحكم القانون أو بحكم الأمر الواقع، وفقًا لمعايير تعتمد على العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو العرقي” وهو ما يشير مثلًا إلى نظام العزل تجاه السود المُمارس سابقًا في الولايات المتحدة الأميركية. أمّا جريمة الفصل العنصري، والتي يشكّل حظرها قاعدة قطعيّة، فقد عرّفتها “الاتفاقية الدولية بشأن قمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها”،[8] على أنّها مجموعة من الأفعال اللاإنسانية  المرتكبة “لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر على أية فئة عنصرية أخرى واضطهادها إياها بصورة منتظمة”، وتنطبق على سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين التي مورست في جنوب أفريقيا خلال نظام الأبارتهايد.

أمام ضبابية التعريفات القانونية، تأسّف القاضي برانت (البرازيل) في بيانه لعدم اعتماد المحكمة تفسيرًا تطويريًّا لهذين المفهومين، واعتبر أنّ المحكمة وجدت  أن إسرائيل انتهكت المادة الثالثة من الاتفاقية من دون أن ترى أنه “من الضروري في هذه القضية تحديد معالم مفهومي الفصل العنصري والفصل العنصري”. وقد اعتبر مايكل لينك، المقرّر الخاص السابق المعنيّ بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ عام 1967، “إن تحليل المحكمة لهذه المسألة بالذات يكشف عن التسويات التي كان لا بدّ  منها بين القضاة أثناء سعيهم إلى التوصل إلى إجماع الأغلبية”.

وتظهر مواقف القضاة في بياناتهم الفردية تعدد الاتجاهات بينهم، بين من اعتبر أنّ الرأي وصّف الممارسات الإسرائيلية على أنّها “أبرتهايد”، ومن يفهم من الرأي ترجيح “العزل”. من جهته، رفض القاضي نولت (ألمانيا) أيًا من التصنيفيْن، معتبرًا أنّ المحكمة تفتقر إلى المعلومات الكافية لاستخلاص النية الجرمية الخاصة لكلتا الجريمتين، وبالتالي لا يمكنها استنتاج أن سياسات إسرائيل تشكل إما فصلًا أو عزلًا عنصريًا. أمّا القاضي ايواساوا (اليابان) فاعتبر أنّ المحكمة ركّزت في تعليلها على “العزل” الذي تمارسه إسرائيل في الضفة الغربية بين السكان الفلسطينيين والمستوطنين من دون أن تصفه بالفصل العنصري.

يبقى أن أغلبية القضاة اعتبروا أنّ الرأي يدين بشكل أكيد وواضح نظام الأبرتهايد الذي تمارسه اسرائيل. فاعتبر القاضي سلام (لبنان) أنّ أحد أهمّ ما ورد في الرأي هو تسمية الفصل العنصري باسمه، “حيث هناك دائمًا تردد من جانب بعض الخبراء الدوليين في استحضار هذه الجريمة الشنيعة خارج سياق جنوب أفريقيا”. وشرح توّفر جميع عناصر هذه الجريمة من الأفعال المادية التمييزية مرورًا بوجود سياسة منهجية لارتكابها، ووصولًا إلى النية الخاصة المتمثلة بفرض هيمنة مجموعة على أخرى. واعتبر أنّه “لا يمكن إنكار السياسة الإسرائيلية التي تصل إلى حدّ الفصل العنصري” والتي تقوم على “ارتكاب أعمال غير إنسانية ضدّ الفلسطينيين في إطار نظام مؤسساتي يقوم على القمع والسيطرة المنهجيين، فضلا عن نيتها الإبقاء على هذا النظام”.

أمّا القاضية شيويه (الصين)، فأدرجت في متن رأيها تصريحا لرئيس أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند توتو حول تشابه الممارسات الإسرائيلية التمييزية مع ممارسات نظام الابرتهايد في جنوب افريقيا. وركّز القاضي تلادي الجنوب افريقي على أوجه التشابه الصارخة بين النظام الإسرائيلي ونظام جنوب افريقيا معتبرًا أنّه “من المستحيل ألا نصل إلى استنتاج مفاده أنهما متشابهان”. كما اعتبر أنّ التفسير الوحيد لممارسات إسرائيل التي تم تفصيلها أمام المحكمة – سيما قانون حصر حق تقرير المصير باليهود الإسرائيليين وحجبه عن الفلسطينيين –  يظهر بوضوح  هدف الهيمنة على الفلسطينيين، وهو ما يميّز جريمة الفصل العنصري. وختم بموافقته المحكمة “عندما خلصت إلى أن السياسات والممارسات التي تنتهجها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة تشكل خرقاً لحظر الفصل العنصري والفصل العنصري (..) وهو الاستنتاج الذي يعترف ضمناً بطبيعة الفصل العنصري التي تتسم بها الممارسات والسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.

جانب من الجدار العازل في الأراضي المحتلّة وتظهر عليه عبارة: فلسطين حرّة

المكسب السابع: اتفاقيات أوسلو تحت سقف القانون الدولي وليست بديلًا عنه

خلال المرافعات، أثارت المشاركات مسألة اتفاقيات أوسلو وإطار المفاوضات التي يفرضها كسبيل وحيد لحلّ النزاع إمّا لحثّ المحكمة إلى عدم إصدار رأي التزاما بهذا الإطار، أو لحثها على ضرورة التركيز عليه كأداة من شأنها أن تدفع نحو استئناف المفاوضات.

لكن المحكمة اعتبرت أنّ مسألة تأثير الرأي على المفاوضات تبقى في إطار التكهنات مستندةً على اجتهادها السابق في قضية “مشروعية التهديد بالأسلحة النووية أو إستخدامها” (1996). ورأت أنّ هذا التأثير المرتقب هو مجرّد تخمينات لا تستند على وقائع ولا يمكن الحسم فيها، ولا يمكن للمحكمة أن تقرر ممارسة صلاحيتها من عدمها بناء على مجرّد تخمينات. بالتالي، لا يشكّل ذلك سببا حاسمًا يمنعها من ممارسة صلاحيّتها الاستشارية.

ولعلّ أهم ما جاء في الرأي هي القراءة القانونية التي قدّمتها المحكمة بشأن اتفاقيّات أوسلو. فبدلاً من أن تشكّل هذه الاتفاقيات إطارا سياسيا يسمح بتجاوز القانون الدوليّ، أعادت المحكمة تأكيد وضع “أوسلو” تحت سقف القانون.

فعلى مدى ثلاثة عقود، استغلّ الإسرائيليون والأميركيون اتفاقيات أوسلو لتهميش القانون الدولي وتحييد دوره في حماية الحق الفلسطيني وإرغام الفلسطينيين على “التفاوض السياسي على حقوقهم مع الذين يحتلّهم  ويضطهدهم ومع حليف محتلّهم”[9] واضطرت “السياسة الفلسطينيّة إلى إعادة رسم نفسها بما يتلاءم مع هذه الشروط”[10]، من دون الاستفادة من الضمانات القانونية التي يؤمنها القانون الدولي.

وعليه، أنهت المحكمة في رأيها صراحة “بدعة أوسلو” كذريعة تسمح بتأجيل النقاش حول الحقّ الفلسطيني، وأعادت توصيف الاتفاقيات وسبل قراءتها بناء على واقع الاحتلال. فاستندت إلى المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على أنه “لا يجوز حرمان السكان المحميين من الاستفادة من الاتفاقية بموجب اتفاق بين سلطات الأراضي المحتلة ودولة الاحتلال” (فقرة 102)، واعتبرتْ أنّه لا يمكن لاتفاقيات أوسلو أن “تحدّ بأيّ شكل من الأشكال من الالتزامات الملقاة على عاتق إسرائيل فيما يتعلق بقواعد القانون الدولي”، ولا أن “تعطي صلاحيات إضافية لإسرائيل أكثر من تلك التي يلحظها القانون الدولي” (مثلا كأن تقوم بتوسيع نطاق تشريعاتها ليشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقرة 140).

كذلك رفضت المحكمة تبرير استمرار الاحتلال بحجة اتفاقيات أوسلو (فقرة 263) انطلاقًا من إقرارها بحق تقرير المصير كقاعدة آمرة تعلو هرم قواعد القانون الدولي ولا تقبل الانتقاص أو الاستثناء، ومن إعادة توصيفها للاحتلال على أنّه عملية لضمّ الأراضي. واعترضت القاضية سيبوتندي (أوغندا) على هذا الموقف لأنّه “يتجاهل الإطار القانوني الدولي المعمول به (lex lata) ويقوّض صيغة “الأرض مقابل السلام””.

أمّا القاضي تلادي، فذهب أبعد من رأي المحكمة، واعتبر أنّ من شأن القراءة (المختلفة) التي تعتبر أنّ اتفاقيات أوسلو تبرر الوجود الحالي لإسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة أن تبطل هذه الاتفاقيات لأنّها تنتهك القاعدة الآمرة لتقرير المصير.

وإن لم تعلن المحكمة بطلان اتفاقيات أوسلو بحد ذاتها، إلا أنّها فرضت تفسيرها بشكل يحترم القانون ولا يحرم الفلسطينيين من حقوقهم المحفوظة قانونًا، ورفضت أن تكون هي “الإطار القانوني المفروض” لمناقشة الحقوق الفلسطينية، بل وصفتها على أنها “ليست أكثر من اتفاقيات ثنائية خاصة” لا يمكن أن تخالف القانون الدولي[11].

المكسب الثامن: إسقاط حجّة “المخاوف الأمنية المشروعة”

بالإضافة إلى إسقاط “بدعة أوسلو”، أسقطت المحكمة أيضّا حجة “المخاوف الأمنية المشروعة” التي تستند إليها إسرائيل لتبرير مجمل انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين.

من “حق الدفاع عن النفس” إلى “المخاوف الأمنية المشروعة”

لطالما بررت إسرائيل ممارساتها بناء على حق “الشعب اليهودي بدولة” وحقها “بالأمن”، ودأبت على عرض كلّ أفعالها على أنّها ممارسات دفاعيّة. فحتى خيار تسميّة الجيش “قوات الدفاع الإسرائيلية” يندرج ضمن هذه السياسة الخطابية، إذ تُصوّر اسرائيل نفسها على أنّها الضحية الوحيدة والأبدية وعلى أنها تدافع باستمرار عن نفسها، حتى وصل بها المطاف إلى ارتكاب إبادة جماعية كاملة العناصر باسم الدفاع عن النفس.

في الماضي، حاولت إسرائيل توسيع مفهوم الحق في الدفاع عن النفس من خلال إسقاط مراجع دينية وأخلاقية على مرجعية القانون. على سبيل المثال، حين دمّرت مفاعلًا نوويًا قيد الإنشاء في العراق في عام 1981، صرّح المندوب الإسرائيلي أمام مجلس الأمن أنّ إسرائيل “قامت بعمل أساسي لبقائها، وهي بريئة على الصعيدين الأخلاقي والقانوني. وبذلك، مارست حقها بالدفاع عن النفس بما يتناسب مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة”[12]. كذلك في عام 1986، برّر المندوب الإسرائيلي حينها – بنيامين نتنياهو – اعتراض إسرائيل طائرة مدنية ليبية انطلاقًا من “أولوية قدسية الحياة على مبدأ السيادة على المجال الجوّي”، ورفض تفسير القانون الدولي القائم على “المنع المطلق” على استخدام القوة (أي صرامة حدود حق الدفاع عن النفس) معتبرًا إيّاه “تفسيرًا خاصًّا” للقانون الدولي، و”غير قابل للتطبيق في الممارسة العملية”[13].

لم تنجح محاولات إسرائيل في صياغة حق الدفاع عن النفس في حدود واسعة (تكاد تكون غير موجودة) كقاعدة قانونية دولية بسبب رفض كافة الدول تبنّي هذا المفهوم الواسع للحق. فما كان منها إلّا أن ابتدعت مفهومًا غير قانونيّ، وهو حجة “المخاوف الأمنية المشروعة” التي حكمت قواعد حلّ النزاع في العقود الأخيرة. فجعلت من حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره حقًا مشروطًا بحفظ أمنها.

المخاوف الأمنية لا تبرر الممارسات غير القانونية

فيما تأسّف بعض القضاة من غياب الموقف الاسرائيلي في المرافعات أمام صرح المحكمة، اعتبرت المحكمة أنّ مذكّرة إسرائيل الخطية “تحتوي على معلومات حول المخاوف الأمنية الإسرائيلية”، وبالتالي تتمتّع المحكمة بالمعطيات الكافية لإبداء رأيها (الفقرة 47).

 
وعليه، أكدّت المحكمة بوضوح كلّي أنّه لا يمكن لحجة المخاوف الأمنية أن تغلب مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة (فقرة 254). وقد وصلت إلى هذه النتيجة بعد أن اعتبرت أنّ حق تقرير المصير هو قاعدة قطعية لا تقبل الاستثناء ولا التأجيل ولا الشروط، وأنها تتمتع بالأولوية القانونية على جميع القواعد الأخرى، وتاليًا أسقطت معادلة ربط حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بوجوب تحصين إسرائيل من التهديدات الأمنية.

بالإضافة إلى ذلك، نزعت المحكمة أيضًا إمكانية تبرير الممارسات التمييزية بحجة المخاوف الأمنية (فقرة 205)، بخاصّة أنّ هذه المخاوف تتعلّق بأمن المستوطنين الذين يتعارض وجودهم في الأرض الفلسطينية المحتلة مع القانون الدولي. وعليه، لا يمكن تبرير انتهاك القانون الدولي بضرورة حمايتهم.

وكان لافتًا موقف بعض القضاة الذين أشاروا إلى غموض مفهوم “المخاوف الأمنية” وإلى كونه لا يشكّل مفهومًا قانونيا منفصلًا يمكن الاستناد إليه. فذكّر القاضي تلادي (جنوب أفريقيا) بأنّ لجميع الدول مصالح أمنية، وليست مسألةً حصرية تتعلّق باسرائيل، وأنّه “عندما يتمّ طرح ادّعاء “المخاوف الأمنية”، يبدو الأمر كما لو أن إسرائيل وحدها هي التي لديها مخاوف أمنية أو أن المخاوف الأمنية الإسرائيلية، بطريقة أو بأخرى، تتجاوز المصالح الأمنية لفلسطين”[14]. ورفض أن تبرر المصالح الأمنية في حد ذاتها، بغض النظر عن مدى جديتها أو مشروعيتها، تجاوز قواعد القانون الدولي.


في السياق نفسه، أشارت القاضية شارلزورث (استراليا) إلى أنّ “المخاوف الأمنية” ليست سندًا قانونيًا، فالسند القانوني الوحيد هو حق الدفاع عن النفس الذي يشترط لممارسته حصول اعتداء مسلّح، وهو مفهوم أضيق بكثير من مفهوم “التهديد الأمني” المرتبط بمفهوم “المصلحة الأمنية”. وهي، إن قبلت أرجحية وجود “تهديدات أمنية تواجه إسرائيل”، إلّا أنّها اعتبرت أنّ هذه التهديدات لا تكفي وحدها لتبرير استخدام القوة، ما لم ترقَ إلى مستوى الهجوم المسلح.

ولعلّ أبرز ما طرحته في موقفها يكمن في فضح العبثية المنطقية التي تفرضها حجة المخاوف الأمنية الإسرائيلية. ذلك أنّ “التهديدات الأمنية” ستستمر ما دام الاحتلال مستمرًا ودائما. وعلى خلاف الحظر القانوني على استخدام القوة من قبل سلطة الاحتلال، “لا يوجد في القانون الدولي ما يمنع السكّان في الأراضي المحتلة من استخدام القوة لمقاومة الاحتلال”، فهم “لا يدينون بالولاء لسلطة الاحتلال”. ولذلك، فإن “لجوء السكان في الأرض الفلسطينية المحتلة إلى القوة لمقاومة الاحتلال لا يبرر في حد ذاته استمرار إسرائيل في احتلالها”.


[1]Résolution 77/247 de l’Assemblée générale, par. 12; résolution ES-10/20 (2018) de l’Assemblée générale, seizième alinéa du préambule

[2]Résolution 1860 (2009) du Conseil de sécurité, deuxième alinéa du préambule ; résolution 2720 (2023) du Conseil de sécurité, quatrième alinéa du préambule

[3]Article XI de l’accord d’Oslo II

[4] المادة 49 من معاهدة جنيف الرابعة.

[5] مثلما عبر عدد من الدول خلال المرافعات أبرزها جنوب افريقيا

[6] مثلما أكّد عدد واسع من المشاركات : ناميبيا، لبنان، فلسطين، مصر، السعودية، اسبانيا، مالديف، الإمارات العربية المتحدة، باكستان، الكويت، الصين، غامبيا، بليز، بوليفيا، كوبا، مورتيس، اندونيسيا، جامعة الدول العربية، الاتحاد الأفريقي، مجلس التعاون الإسلامي

[7] بما في ذلك  إقامة وتوسيع المستوطنات، وبناء البنية التحتية ذات الصلة، بما في ذلك الجدار، واستغلال الموارد الطبيعية، وإعلان القدس عاصمة للقدس إن إسرائيل، فضلاً عن التطبيق الكامل للقانون المحلي الإسرائيلي في القدس الشرقية وتطبيقه على نطاق واسع في الضفة الغربية.

[8]  كما أورد نظام روما الأساسي تعريفا في مادته السابعة

[9] Craig Mokhiber, “The World Court has ended the Oslo ruse”. Mondoweiss, August 7 2024.

[10] مجد كيال، “”أوسلو” أيديولوجيا وليست اتفاقيّة!”. السفير العربي، تاريخ 21 أيلول 2016.

[11]Amicus Curiae Observations of Prof. Michael Lynk and Prof. Richard Falk Pursuant to Rule 103, p.6

[12] « En détruisant Osirak, Israël s’est acquitté d’un acte élémentaire de survie, tant moralement que juridiquement. Ce faisant, Israël a exercé son droit inhérent de légitime défense, tel qu’il est entendu dans le droit international général et consacré à l’Article 51 de la Charte des Nations Unies ». S/PV.2280

[13]  S/PV.2651 : Israël, p. 16-20

[14] حتى القضاة تومكا، اوريسكو وابراهام المخالفين للرأي، والذين اعتبروا أنّ المحكمة أخطأت حين لم تلحظ المخاوف الأمنية في متن رأيها، كرروا أنّ المصالح الأمنية هي حق لإسرائيل ولفلسطين على حد سواء.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، فلسطين ، محكمة العدل الدولية ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني