“استعادة الدّور الاجتماعيّ للدّولة”؛ باتت هذه الجملة مُكوّنا خطابيّا أساسيّا في سرديّة النظام السياسيّ التونسيّ، ويَحرص الرئيس سعيّد على إدراجها في اللقاءات المتكررة التي يعقدها مع وزرائه ورئيس حكومته. يقول الرئيس إن تسعينات القرن الفائت تُشكّل حقبة مرجعية لبداية انحطاط الدولة الاجتماعية في تونس، ولا يُعفي السنوات العشر التي تلت الثورة من المساهمة في مراكمة هذا الانحطاط وتوسيعه.
لم يَعد خافيا على أحد التآكل التراجيدي لمعظم المنظومات الاجتماعية (الصحة، النقل، التعليم، السكن…) التي ركَّزتها الدولة الاستقلالية في تونس. وربّمَا تعود جُذور هذا التآكل إلى تاريخ سابق لفترة التسعينات مثلما يقول الرئيس. وهذا التآكل ليس منفصلا عن بنية السلطة الاستبداديّة منذ نشأتها في ستينات القرن الماضي، والتي أسَّسَت لحرمان فئات ومناطق بأكملها من خدمات عامة متساوية مع مناطق وفئات أخرى. ولكن بعيدًا عن وقائع الخطاب الرسميّ، هل يَطرَح بالفعل النظام السياسي الحالي خططًا وبرامج لإعادة هيكلة الدولة في اتجاه استعادة دورها الاجتماعيّ؟ هل شرَع النظام الجديد في بناء سياسات عامّة مُعبِّرَة فعلا عن شعار الدولة الاجتماعية؟ هل هناك -في الحدّ الأدنى- بوادر للتقليص من آثار تآكل المنظومات الاجتماعية العامّة؟ هل أن الإجراءات الماليّة والاقتصادية المُدرجة في قانون المالية لسنة 2025 تَعكس خيارا سياسيًّا لاستعادة الدولة الاجتماعية؟
الرئيس يَدعو إلى “التقشّف”
من المتعارف عليه في الحقول المعرفيّة المهتمّة بالسياسات العمومية واقتصادات الدول، أن التقشّف كمفهوم وسياسة ارتبط بالحدّ من نقيضه الذي تُمثّله “الدولة الاجتماعية”. ويهدف التقشف، الذي ارتبط بصعود النيوليبرالية[1] في المراكز الغربية، وتعاظم تدخل المؤسسات النقدية العالمية في اقتصادات الدول الفقيرة (صندوق النقد الدولي أساسا)، إلى الحدّ من الإنفاق العمومي في القطاعات الاجتماعية وفتحها أمام منطق المنافسة والخوصصة، والتفويت في المؤسسات العمومية المملوكة من الدولة، وإعادة تشكيل الاقتصادات المحليّة الهشّة وفقا لحاجيات السوق العالمية، وهو ما نَجم عنه بالأساس تضحية بقطاعات استراتيجية مثل الزراعات الغذائية الكبرى لفائدة زراعة استخراجيّة معدة للتصدير. ومنذ العام 1986، تاريخ إبرام أوّل قرض مع صندوق النقد الدوليّ، لم تكن تونس بمنأى عن هذا التوجّه العالميّ المُهيمِن.
من وجهة النظر هذه، يُمكن أن نلحظ العشوائية والتناقض اللذيْن يشكّلان ميزَتين أساسيتين في السياسات العمومية التونسية وفي الخطاب الرسمي. يوم 20 جانفي الفائت، نشرَت رئاسة الجمهورية بلاغًا أعادت فيه التمسّك بخيار الدولة الاجتماعية، ولكن المُلفت في هذا البيان أنه للمرة الأولى يدعو الرئيس صراحة إلى “التقشف” ضمن ما يطلق عليه سيّاسة “التعويل على الذات”. ومن المفارقة أن الدعوة للتقشف تجاورت مع دعوة -مناقضة لها- إلى القضاء على أشكال التشغيل الهش، والتي يترتب عنها بالضرورة تَخصيص موارد عمومية جديدة وليس تبنّي سياسات تقشفية.
تبدو “الدولة الاجتماعية” إلى حد الآن أداة مُوظّفَة دعائيا، والهدف من ذلك الحفاظ على صورة النظام الحالي كمُبشر بالخلاص الاقتصادي للطبقات المحرومة. ولكن السياسات المالية والاجتماعية للدولة وخياراتها الاقتصادية العامة تشير في الحقيقة -وليس في الخطاب- إلى خاصيتين أساسيتين: تتمثل الأولى في بناء سياسات عمومية تؤطرها منهجية تقشفية رغم الخطاب المعادي لصندوق النقد الدولي والسياسات الاقتصادية العالمية. وتتمثل الخاصية الثانية في غياب رؤية اقتصادية مُحدّدة، ومُندَرجة ضمن بوادر هيكلة استراتيجية لاقتصاد يعاني من الانكماش وضعف الموارد، ومَسنودة بحسّ تخطيطي وقدرة على البرمجة. وكل ما نراه اليوم مجرّد إجراءات اجتماعية واقتصادية ترقيعية، من أجل رسكَلة المآزق البنيوية للدولة والاقتصاد ضمن خطاب سيادَوي خاوٍ من مرتكزات جدية في واقع البلاد وحياة الناس.
لم تَدخل المنظومات الاجتماعية العمومية (الصحة، التعليم، السكن، النقل…) إلى حد الآن ضمن منظور إصلاحي شامل، وحافظت على مواردها القليلة التي لم تشهد تطورا في ميزانية الدولة 2025 وظلت رهينة الإجراءات “الاجتماعية” الترقيعية التي وردت أيضا في قانون المالية لهذه السنة.[2] ولن تصمد كثيرا أمام نزيف الانحدار والتصدّع، ولن تكون لها القدرة على مسايرة نسبة التضخم المعلن عنها رسميا، والبالغة 6.2 إلى حدود ديسمبر 2024. والأوضاع في المناطق الداخلية لا تقلّ سوءًا، في ظلّ تعاظم التحدّيات المناخية والبيئية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وضعف النفاذ للموارد والخدمات. وقد بان بالكاشف تهافت فكرة “دَمقرَطة” مشاركة المناطق والأقاليم الداخلية في صناعة السياسات التنموية، إذ تمّ تهميش مقترحات مجلس الجهات والأقاليم في نقاش قانون المالية لسنة 2025، وتمّ اعتماد النسخة التي صادق عليها مجلس النواب، وهي في الحقيقة النسخة المقترحة من رئاسة الجمهورية. ولم يحظَ قانون المالية لهذه السنة بموافقة معظم النواب، سواء من خلال التحفظ أو الرفض أو التغيب عن لجنة المصادقة (تقريبا لم يحظَ قانون المالية سوى بموافقة 56 بالمائة من أعضاء المجلس النيابي).
أما شعار “التعويل على الذات” فيجري ترجمته على مستوى السياسات المالية للدولة، من خلال التوجه نحو الاقتراض الداخلي الذي سيبلغ حوالي 58.3 بالمائة من إجمالي ديون الدولة هذه السنة، مقابل 41.7 بالمائة للاقتراض الخارجي. وهو لا يعني بالضرورة تدشين قطيعة رسمية مع التداين مثلما تُروج إلى ذلك الدعاية الرسمية، بقدر ما تتّجه الدولة نحو خلق وضع اقتصادي أكثر ركودا، من خلال حرمان الاقتصاد من فرص تمويل وموارد إضافية عبر التقليص من دور القطاع البنكي في تمويل الاقتصاد المحلي (مساهمته 3.3 بالمائة في جويلية 2024)، والمساهمة أيضا في خلق رُيُوع بنكية جديدة تستفيد من الفوائد المتأتية من إقراض ميزانية الدولة.
أمنَنَة القضايا الاجتماعية
منذ الاستيلاء على كل السلطات وحل الحكومة والبرلمان في 25 جويلية 2021، وحتى بعد انتخابه قيس سعيد لعهدة رئاسية ثانية يوم 6 أكتوبر 2024، تُحافظ مؤسسة الرئاسة على دور مركزي في صناعة الحياة السياسية في البلاد. وفي ظل صُورية وهشاشة بقية مؤسسات النظام السياسي (البرلمان، مجلس الجهات والأقاليم) وانعدام قدراتها الرقابية، يجري اتخاذ القرارات السياسية الكبرى (التعيينات، الإجراءات، التشريعات…) داخل مؤسسة الرئاسة ومحيطها المباشر غير المرئي. ولا يُمكن الحديث عن سياسات عمومية مرئية وشفافة وبالإمكان قياس جدواها وقيمتها الاقتصادية والاجتماعية، ومساءلة المسؤولين عن وضعها. وتَستَفيد السلطة الحالية من فكرة “الحرب على الفساد” لتوجيه كل السخط الاجتماعي نحو السلطات السابقة لها، وإعفاء نفسها من أي إمكانية للمحاسبة، وتأميم كل القوة داخل النظام السياسي لصالح سلطة مشخصنة في الرئيس، والقضاء على إمكانية نشوء مؤسسات رقابية مضادة، من داخل النظام أو من خارجه.
هذه الطبيعة السياسية للنظام القائم، الباحث عن مَركزَة القوة واحتكارها، أفقرَت المؤسسات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة للدولة، وعطّلَت أيّ إمكانية لولادة دينامية مؤسساتية مرتبطة بحاجيات المجتمع والاقتصاد. في المقابل، يَجري تضخيم العنصر الأمني، من خلال اعتماده كأسلوب وأفق وحيد في إدارة القضايا العامة. والتعاطي مع ظواهر اجتماعية واقتصادية وسياسية بوصفها انحرافات قانونية وأمنية، من بينها قضايا الهجرة غير النظامية، وغياب المواد الأساسيّة عن الأسواق، والحركات الاحتجاجية المطالبة بالتشغيل والمياه والعدالة المناخية، وملف الأراضي الدولية، وحريات النشر والصحافة والتعبير، إلخ. وعمومًا تمتّ معالجة معظم هذه القضايا، إما بإصدار مراسيم يتضخم فيها الجانب العقابي التخويفي على غرار المرسوم 54 والمرسوم المتعلق بمقاومة المضاربة غير المشروعة، أو عبر التتبّعات الأمنية والقضائية ضد مئات الأشخاص، الذين يقبع معظمهم في السجون ضمن شروط مُتنافية مع مبادئ المحاكمة العادلة.
في المقابل تُولي معظم السياسة المالية والإدارية للدولة اهتماما بملف الشركات الأهلية، الذي يعتبر عنصرا قارًّا في الدعاية الرسمية للنظام السياسي الحالي، وهذا “المشروع” لا يُعرَف إلى حد الآن حقيقة جدواه الاقتصادية والاجتماعية، وكلفتة المالية على المجتمع والدولة، وطبيعة الفئات المنتفعة به، وعددها. هناك حجب مُنظَّم لقيمته الفعلية، رغم الحوافز والامتيازات المالية والإدارية التي يُصرح مسؤولون في الدولة بتوفيرها لهذا الصنف من الشركات، من بينها الإعفاءات الضريبة، والتمويل البنكي، والتسهيلات الإدارية، وتسهيل الانتفاع بأملاك الدولة العامة، واتخاذ إجراءات تشجيعية متنافية مع شروط احترام البيئة والمناخ[3]. ورغم أن المرسوم المنظم لها يَضع الشركات الأهلية ضمن حقل الاقتصاد الاجتماعي التضامني، إلا أن السياسة الحالية سعَت إلى مركزة هذا الملف وربطه بمؤسسات السلطة الحالية، وتضخيم دوره في صناعة التنمية وتوفير فرص عمل جديدة. في حين أنه يتحوّل شيئا فشيئا إلى شركات صغيرة مستنزفة لموارد الدولة القليلة، وفاقدة لأي معنى اقتصادي واجتماعي، وإطار جديد لخلق زبائنية- سياسية من طراز آخر.
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 32
لقراءة وتحميل العدد 32 بصيغة PDF
[1] للوقوف أكثر حول الإطار المعرفي والاقتصادي والسياسية الذي نشأت فيه الفكرة النيو ليبرالية انظر-ي: ديفيد هارفي. الوجيز في تاريخ النيوليبرالية (ترجمة وليد شحادة) منشورات الهيئة السورية العامة للكتاب، 2013.
[2] للوقوف اكثر حول محدودية الإجراءات الاجتماعية المدرجة في قانون المالية لسنة 2025، انظر-ي مقال، سمية المعمري: مشروع قانون المالية لسنة 2025: الدولة الاجتماعية بين الواقع والتوظيف السياسي، موقع المفكرة القانونية، 6 ديسمبر 2024.
[3] للوقوف أكثر حول الدور الخطير لإعفاء الشركات الأهلية من شرط دراية المؤثرات على المحيط، انظر-ي في هذا العدد مقال مالك الزغدودي: إلغاء شرط دراسة المؤثرات على المحيط: خطر جديد يتحالف مع التغيرات المناخية.