يزيّن اللاجئون الفلسطينيون مخيماتهم برسومات عن فلسطين وحق العودة
“كنت أنتظر مشروع الأونروا للعمل مقابل المال بفارغ الصبر، قطعوا التمويل وقطعوا رقابنا قبل ما يوصل دوري”، يقول يوسف من مخيّم الرشيديّة للّاجئين الفلسطينيين في صور ونظراته مكسورة. أطفأ الشاب الفلسطيني شمعته الـ 28 عاطلًا عن العمل، تمامًا كما قضى عمره. وظائف الأونروا محدودة، وفرص العمل أصلًا شبه معدومة، والمهن ممنوعة بقانون لبنانيّ صارم صرامة التشديد الأمني على المخيّم وأهله. وهذه المشاريع التي تتوالى مع كلّ تمويل جديد تحصل عليه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، تنحصر بمدّة زمنية تصل إلى 6 أشهر، ينتظرها شبّان المخيم “بالدور” حتى تصل إليهم “لمرة واحدة في العمر”، يجنون منها بضعة دولارات “لعلّنا نفتح مشروعًا صغيرًا يكون مصدر دخل لنا بالمخيم”.
وفي مخيّم الرشيدية تضرب البطالة سقف الـ 70%، وقد طال استهداف إسرائيل الأونروا وقطع تمويلها، في إطار حرب الإبادة التي تشنها على غزة والفلسطينيين، في ما طال، مشاريع تشغيلية تطلقها الوكالة بين الحين والآخر، لتشكل متنفّسًا اقتصاديًا، وإن محدودًا، للشباب اللاجئ.
ووقف تمويل الأونروا الذي سارعت إليه بعض دول الشمال، يعني للفلسطينيين في الرشيدية، كما سائر المخيّمات، توقّف الخدمات الصحية وانقطاع حبّة الدواء، والمساعدة المالية ورغيف الخبز للمصنّفين ضمن خانة “الحالات الاجتماعية الصعبة”، وتعلّم الحَرف، ونضوب رواتب موظفين يعتبرون محرّكًا أساسيًا في اقتصاد المخيّم ومعيشة ناسه.
“الأمور تنحدر يومًا بعد اليوم، من دون قعر”، يقولها مسنّ فلسطينيّ في الرشيدية كان يركّز كرسيّه الخشبي قبالة بحر صور الذي ينتهي بساحل فلسطينهِ على الحدود لناحية الناقورة.
“الختيار” كما يسمّيه جيرانه، لا يبارح كرسيّه إلّا “إذا نزل المطر” ومع هبوط الظلام، منذ أن بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة. يجلس هناك يدخّن ويتنهّد، ويغضب، وقد جاء شحّ تمويل الأونروا ووقف مساعداتها وخدماتها ليزيد طينه بلّة.
ومخيّم الرشيدية “محسود” ممّن هم خارجه، لا يدرك مآسيه سوى ساكنيه. يأتي الحسد من تمدّده على الشاطئ الرملي للمتوسط، ساندًا ظهره إلى بساتين حمضيّات صور، تحيط به أراضي محميّتها المحظورة على التمدّد العمراني، فيما لا يفصله عن المدينة وصخبها وصيفها السياحي سوى 5 كيلومترات. موقع يرسم في الخيال صورة لمخيّم هو أشبه بجزيرة ديموغرافية مترامية على موقع ساحر. هذا في الخيال. أما في الواقع، فتتفرّع طريق ضيّقة على طريق عام صور – الناقورة، لتأخذ بك إلى حاجز الجيش اللبناني حيث يتثبّت عناصره من هويتك، ثم تعبر حاجز منظمة التحرير الفلسطينية وعناصره المسلّحين، لتصل إلى كتلة اسمنتية من بيوت معظمها متهالك، لتشكّل ما يسمى مخيّم الرشيدية.
عند مدخل المخيّم تتفرع الطريق في اتجاهين: المخيّم القديم والآخر الجديد. الفارق هنا يرتبط بزمن بناء القسمين، ولكن الأعلام على الجهتين فلسطينية حاضرة بكثافة، البيوت باهتة تخبر فقر ساكنيها، فيما ينفجر ضجيج الحياة وصخب نحو 27.500 لاجئ مسجّل لدى الأونروا، يعيشون على أقلّ من ربع كيلومتر مربع (228 دونمًا). ومن المخيّم تبدو قاعدة الجيش اللبناني على الشاطئ القريب ببرجها الرقابي لتؤكّد أنّ الرشيدية كغيره من المخيّمات الفلسطينية في لبنان، يعيش في الحدقة الأمنية التي لا يقف زنّار البساتين دونها، لا بل يعزّز حضورها تحسّبًا لأيّ محاولات إطلاق صواريخ في هذه المرحلة الحسّاسة، نحو الجليل المحتلّ، خصوصًا وأنّ لأهل الرشيدية سوابق في هذا الإطار.
الرشيدية: هنا غزة أيضًا
اليوم، لبس المخيّم رداء الحزن والغضب مع الإبادة الجماعية في غزة، رفع صور شهدائها في كل زاوية، فيما يعيش سكانه حياتهم يترقّبون بحذر أيّ تصعيد جديد يجعل قلب مخيّمهم هدفًا عدوانيًا، حيث تمضي أيامهم على وقع الغارات الإسرائيلية على القرى المحيطة مع استمرار العدوان على جنوب لبنان. عدوان لم يحيّد اللاجئين الفلسطينيين حيث شهد المخيّم تشييع شهداء سقطوا في اغتيالات أو على مقربة من الحدود.
ومع مأساة غزة التي تسكن كلّ بيت وزاوية وحديث، يحضر شبح قطع تمويل الأونروا بشدّة، كونها المسؤولة عن تقديم القليل المتيسّر من خدمات صحّية وتعليمية واجتماعية وفرص عمل، لم يغنِ أو يردّ العوز ولكنه يحول دون الجوع. وفي الفقر المدقع الذي يتشاركه 80-90% من السكان هنا مع سائر الفلسطينيين في المخيّمات، بحسب تقديرات الأونروا، تتخطى نسب البطالة ثلثيْ القوى العاملة، حيث يعيل كل عامل أو موظفة، 5 أفراد على الأقلّ في المخيّم، وفق اللجنة الشعبية هناك، إذ تقفل أبواب العمل وفرصه أمام شبّان وشابات المخيم رغم ارتفاع نسبة حاملي الشهادات.
والرشيديّة ينضح بفقر أهله الذين يستغلّون كلّ شبر أرض من أراضي المخيّم في الزراعة، فيما يجهد نحو 200 صيّاد للإفادة من المدى الضئيل المسموح لهم ولوجه من شاطئ البحر، في صيد الأسماك، ومع ذلك تبقى لقمة العيش الكريم صعبة المنال. يتخوّف هؤلاء اليوم من تداعيات إقفال 4 مدارس ومركز صحّي للأونروا مع التقديمات الطبية والعلاجية، على قلّتها، وما يعنيه ذلك لبعضهم من قطع شريان حياة أساسي للمستفيدين منه، كما موظفي الأونروا الذين يعتاشون ويعيلون عائلاتهم من مداخيلهم التي تُصرف في المخيم نفسه. خطر أفردت له “المفكرة القانونية” تحقيقًا منفصلًا في هذا العدد، فيما نحكي هنا قصة المخيّم وأهله وظروفهم بعد 7 عقود ونصف على اقتلاعهم من أرضهم في فلسطين.
عزلة جغرافية وقرب من فلسطين
والرشيدية، أكبر مخيمات منطقة صور، يحمل اسمه من التلة المحسوبة على صور البرّية أيام الفينيقيين، وعلى بعد 5 كيلومترات جنوب تمركُز المدينة الحالية (صور البحرية تاريخيًّا). ساهم موقعه الجغرافي في عزلته، وبقي المخيّم الوحيد، من بين مخيّمات لبنان الـ 12، الذي لم يتّصل عمرانيًا بمحيطه اللبناني، ويتداخل فيه، كما البصّ والبرج الشمالي في صور نفسها. وزاد من هذه العزلة إنشاء محميّة شاطئ صور الطبيعية (3.8 كلم مربع) التي تحيط به من شماله وجنوبه، فيما تفصله البساتين الخاصّة، والأراضي الزراعية التي يزرعها أهله، وهي جزء من المحمية، عن التمدّد نحو المدينة. وهو الواقع نفسه الذي منع مشروع شقّ طريق مباشرة بين المخيّم وصور، والحؤول دون وصول الأخيرة عمرانيًا إليه. وفي عام 2018، رفضت الفعاليات الفلسطينية وأهل المخيّم بناء جدار كان الجيش اللبناني ينوي تشييده حوله على غرار الجدار الذي يفصل مخيّم عين الحلوة عن صيدا، والذي كان من شأنه تكريس عزل المخيّم رسميًا.
وللرشيدية قصصه ومعاناته وأحلامه، وإن ينظر إليه الأمنيون على أنّه مخيّم “لطيف”، تنحصر مشاكله في الإطار الاجتماعي والمعيشي والخدماتي غالبًا، ولا يشغل بال أصحاب المقاربات الأمنية طالما أنّهم أخضعوا حدوده للرقابة الأمنية الصارمة، إذ قلّما يتسلّل اسمه إلى وسائل الإعلام اللبنانية. يعيش أهل المخيّم معاناتهم بصمت، يكابدون حياتهم على الهامش، طالما تنكر عليهم الدولة اللبنانية معظم حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، فيما يحاصره العالم اليوم عبر قطع تمويل الأونروا.
وينقسم المخيّم إلى منطقتين: قديمة بنتْها الحكومة الفرنسية للاجئين الأرمن عام 1936، وتُعرف بالمخيم القديم، فيما بُني “المخيّم الجديد” على أرض استثمرتها الأونروا، لـ 99 عامًا، من الدولة اللبنانية عام 1963. التأسيس المتأخّر للمخيّم ساعد في تنظيمه بشكل أفضل: طرقاته أوسع من أزقة مخيّمات لبنان، ويسمح تنظيم عمران بيوته بدخول الشمس، والهواء، يتمتّع بمياه حلوة من برك رأس العين، التي تديرها المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، ومن ينابيع تتفجر داخله سحبتها الأونروا بمضخات وإمدادات، وعدد من الآبار الأرتوازية، فيما أوقف تعثّر الأونروا إصلاح عيوب مشروع الصرف الصحي، حيث تفيض المياه كلّ شتاء على الأحياء وسكانها.
ولمخيّم الرشيدية، أقرب المخيمات إلى الوطن الأم، فلسطين، (13 كلم)، تاريخ مع الحروب الإسرائيلية، عدوانًا وراء آخر. خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فرض عليه موقعه الجغرافي أن يتصدّر المواجهة، وظلّ يقاتل بشراسة حتى وصلت الدبّابات إلى مشارف بيروت. يومها، خلّف اجتياح المخيم، وقصفه من الجوّ والبحر والبرّ، الذي استمرّ متقطّعًا لغاية تحرير العام 2000، دمارًا كبيرًا طال الوحدات السكنية والملاجئ، فيما انخرطت نساؤه وفتيته كما الرجال في الدفاع عنه.
الرشيدية وصور: خطّ باتجاه واحد
في وسط المخيّم وعند التقاطعات، تتكثّف المحال التجارية والمقاهي وتتقاطع مع أصوات السيارات، ونداءات الباعة، فيما تتشعّب قصص الناس، لكنّها تتوحّد عندما يخبر الشبّان قصّة تجمعهم: “نعمل يومًا، ونتعطّل 20”. ويقصدون العمل المياوم الذي كانت تؤمّنه الأونروا أحيانًا وكذلك بعض الفصائل لفترة زمنية محدودة، فيما تبقى الوظائف الثابتة عصيّة. القانون اللبناني يمنعهم من العمل في أكثر من 70 مهنة بينها تلك المنظمة نقابيًا، فيما فرضت حاجة سوق التمريض ومعه هجرة عدد كبير من الممرضين اللبنانية، غضّ النظر عن عملهم في هذا القطاع. ويعمل أبناء المخيّم في الزراعة في بساتين صور وحرفيين في مهن حرّة وفي البناء وسائقي سيارات أجرة.
وينتشر التمريض بين اللاجئين هنا إذ يشكّلون عماد قطاع التمريض في المحيط. ويصبح فتح دورة تمريض قريبًا خبرًا سارًا، يتهافتون للتسجيل فيها جماعيًا، مقتَدين بحسن، الممرض الذي عثر على وظيفة أخيرًا. وحسن، ثلاثيني أنهى تخصّص التمريض قبل 12 عامًا، لكنه لم يتوظّف سوى قبل 6 أشهر.
يلخّص حسن “المحظوظ اليوم نسبيًا”، الأعوام الـ 12 من البحث عن عمل “مش قصة حظ، ولا قصة كفاءة، ببساطة ما كان معي واسطة”. يعمل اليوم في مستشفى لبنانيّ في صور مقابل 300 دولار، أسوة بزملائه اللبنانيين، لكنه راتب يبقى متدنّيًا في بلد تحتاج فيه الأسرة ما بين 582 و794 دولارًا شهريًا لتأمين الحد الأدنى من أساسيات العيش، ومن دون احتساب الصحة، بحسبالدوليةللمعلومات. طالما حلم حسن بدراسة الطب “رحت ع التمريض لأنّ الأمل بفرصة العمل فيها أسهل لفلسطيني مثلي، ورغم هذا قضيت نصف عمري بحثًا عن وظيفة”. يخبرنا حسن عن زميلته الطبيبة التي ظلّت تعمل في العيادات بـ “الأسود”، وتحت يد طبيب لبناني وفي عيادة باسمه: “كفلسطينية، سقف تقدّمها محدود، رغم أنّ كفاءتها قد تفوق الطبيب صاحب عملها”.
وخلافًا لحال المخيّمات الفلسطينيّة في مناطق لبنانية أخرى، لم يشكّل مخيّم الرشيدية سوق فقراء محيطه، سعيًا وراء أسعار مقبولة. يُعيد بعض أهله هذا الواقع إلى طبيعة فلسطينيّي الرشيدية الذين أتوه من الجليل الفلسطيني حاملين معهم إرثهم الزراعي، بعيدًا عن امتهان التجارة، إذ نجد في المخيّم دكاكين متواضعة وليس أسواقًا على غرار سوق مخيّم البصّ في قلب صور أو عين الحلوة في صيدا أو البارد في شمال لبنان.
فلّاحو الجليل يزرعون أراضي صور
تقدّر مصادر لجان المخيّم اليوم وجود 200 أسرة على الأقلّ تعتاش من زراعة الخضار الموسميّة، فيما يعمل المئات في أعمال الفلاحة والعناية ببساتين اللبنانيين المحيطة بالمخيّم، سواء كمياومين أو بموجب عقود سنوية. وهي أشغال تراجعت كثيرًا مع المكننة وتدنّي الأجور ومنافسة اليد العاملة السورية بعد 2011.
في الأراضي الزراعية جنوب المخيّم، تحكي أم شوقي قصّتها: “بزرع من أنا وطفلة، كنت إطلع مع أمي وستّي وسيدي (جدي) ع السهل”. كانت والدة أم شوقي وجدّاها مزارعين في بساتين أم الفرج، في عكا، حيث جذور العائلة: “شتّتونا، بس جبنا حبّنا للأرض معنا، وها أنا متعلّقة بهالأرض وعايشة فيها ومنها”، تقول وهي تدلّل ضمة البقدونس في يدها. “بأم الفرج كنّا نزرع التين والليمون، لكن هنا ممنوعون من زراعة الأشجار لأنّها بالقانون تفرض التعويض في حال طلب إخلاء الأرض فنزرع الورقيّات”، تضيف بحسرة. وإنتاج مزارعي الرشيدية يُشكّل جزءًا، وإن صغيرًا، من السلّة الغذائية للمنطقة. والأرض التي تزرعها أم شوقي مملوكة كما غيرها من الدولة اللبنانية، ولا يدفع المزارعون أي بدل مادي مقابل إشغالها، سوى بدل مياه الريّ. ويشتكي هؤلاء من غياب دعم الزراعة وغلاء السموم والخيم البلاستيكية: “كلّها بالدولار والكلفة أعلى من قبل أزمة 2019″، تقول أم شوقي التي تشقى في الزراعة للعيش، ويعزَ عليها أنّها سليلة ملّاك أراض شاسعة في عكا، يزرعها اليوم “محتلّون مستوطنون”، تقول وهي تتنهد لتُفرغ حزنًا دفينًا.
والعدوان الإسرائيلي الحالي يطال أيضًا الأرض المكشوفة التي يزرعها فلسطينيو الرشيدية. قبل يومين، كانت أم شوقي منهمكة في تعشيب زرعها حينما أغارت الطائرات الإسرائيلية في المنطقة. ورغم صراخ أبو شوقي طالبًا منها العودة، لم تهتزّ “ولا اهتمّيت وكفّيت خصوصًا إنّه الشغل ما بينترك من يوم ليوم”.
البحر متنفّس وسجن وخطر محدق
ركام المنازل المهدّمة على يد إسرائيل رُميَ في البحر. رُدم البحر، وتفتت الركام فتحوّل بحصًا وحجارة تعكّر نقاء شاطئ الرشيدية. لكنّ البحر ظلّ متنفّسًا للناس هنا، يستثمرونه في الصيد المتواضع بطرق بدائيّة، ويفتحون مقاهي متواضعة المردود والأسعار. ويحفظ أهل الرشيدية للبحر جميلًا عظيمًا، إذ جنّبهم، خلال حرب المخيّمات، المجاعة في ظلّ الحصار الذي فُرض عليهم، حيث أنقذتهم أسماكه.
وصيّادو الأسماك على قلّتهم حيث من الصعب الحصول على رخص جديدة، لم ينقذْهم فتح أبواب نقابة صيادي صور لهم (وقد انتسب 115 صيادًا من بينهم إليها) من براثن الفقر الذي يضرب جميع أبناء الكار، فيما يقدّر عدد الذين يعيلون أسرهم بنحو 200 صياد. ومهنة صيد السمك هي في الأصل مهنة المعدومين في كامل المنطقة، يمارسها البعض شغفًا أو توارثًا عن أهله رغم تدّني مردودها. واليوم، انتهى هذا المردود بعدما حُظِّر على كلّ الصيادين التقدّم في البحر في ظلّ العدوان الإسرائيلي.
والعلاقة مع البحر فيها غصّة وذكرى مؤلمة تعود إلى شتاء 1964، ويعيش في شبحها أهل المخيّم وسكان المنازل القريبة من الشاطئ. يومها خرج البحر ودخل المساكن التي كانت بنَتها الأونروا، ليجرف صفّين من البيوت تاركًا أطلالها لغاية الآن، بسبب خلل التخطيط الذي رماها بين براثن بحر غادر. هدمت الأونروا يومها البيوت المتبقية وبنت سورًا بات عتيقًا. لكن العمران عاد وتمدّد وليلبّي حاجة فقراء المخيّم للسكن. يضع هؤلاء حواجز من ركام وحجارة كلّ عام، ويعيشون حياتهم تحت خطر يتجدّد مع كلّ شتاء حيث تتكرّر حوادث دخول البحر إلى مساكنهم.
“المخيّم عالمي الكبير وقريتي الصغيرة”
يحبّ أهل المخيّم مخيّمهم، يقول حسام المتخرّج حديًثا من الثانوية ويعمل مؤقتًا على سيارة أجرة في صور: “العودة إلى المخيّم كل مساء هي العودة إلى مكان الانتماء الثاني، بعد فلسطين”. وترى خطيبته نور، ابنة الـ 18 عامًا، في المخيّم دنياها: “عالمي الكبير وقريتي الصغيرة”، والمخيّم بالنسبة لها هو أيضًا “اللجوء الذي ورثته عن والديّ، والمحطة اللي عايشين فيها وشنطنا جاهزة لنرجع على فلسطين”.
ويقسم الشابّان مخيّمهم إلى نواحٍ: “ناحية الضجيج” وصخب الناس، في الساحات الأوسع وعند التقاطعات، و”ناحية الرواق” والعيش شبه القروي، بين المنازل، وتحت دوالي العنب وأشجار التين التي زرعها الناس منذ جاؤوا لكي تذكّرهم بفلسطين. تخصّص نور هنا حارة أم الفرج، “ناحية الدفء والحنين” التي تحمل اسم قريتها في قضاء عكا، وحيث العائلة والجيران من القرية عينها، وتضيف ناحية أخرى تسمّيها ناحية التأمل “والسرحان بهالدنيا” عند البحر الذي يتراءى منه ساحل فلسطين.
وبين منازل المخيّم، تضيق الأزقّة، وتتزاحم البيوت، وتتباعد، وتتهالك الجدران، وتتراكم الطبقات فوق بعضها مع كلّ جيل، إذا ما أتتْ موافقات البناء من الجيش اللبناني ومعها الإسمنت والحديد والبحص، وهو أمر عسير قد يأخذ أشهرًا وسنوات، وتدخل فيه عوامل عدّة، أهمّها الواسطة، وأحيانًا مجرّد الحظ، وكذلك التهريب الذي تزدهر عبره السوق السوداء وأسعارها الباهظة ما يجعل من المستحيل على الأسر ترميم منازلها. وفي المخيّم 80 منزلًا بأسقف “زينكو”، و600 منزل متصدّع ومتشقّق. ومع قطع تمويل الأونروا، ينعدم أي أمل في استجلابها تمويلًا للترميم، ما يعني تأبيد الأزمة حتى تصل إلى الانهيار.
يدنو المغيب وتعلو أصوات الغارات الإسرائيلية على القرى المجاورة. يتعقّد المشهد وتتعقد المشاعر، فتمسك نور بيد حبيبها وتضغط عليها قليلًا. تنظر ناحية الحدود الجنوبية مع فلسطين، وتقول له: “شو رأيك يا حسام، منأجّل حبّنا قدّيه؟ لتتحسّن الأحوال هون؟ أو لمّا نرجع ع دارنا بفلسطين؟”
أطفال الـ “آر.بي جي”
قلّة من أبناء صور تعرف أنّ زمنًا مرّ على مخيّم الرشيدية للّاجئين الفلسطينيين، الممتدّ على شاطئها الجنوبي، كان يُطّلق فيه على فتيته توصيف “أطفال الآر بي جيه”. عبارة تروي قصتها كتب وأفلام وثائقية فلسطينية، ومعها براعة أولئك الذين تراوحت أعمارهم بين 11 و16 عامًا في الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، في زراعة الكمائن في المخيم للمحتل الذي كان جيشه قد وصل إلى مشارف العاصمة بيروت.
ينقل كتاب “اعترافات مذهلة للجنرالات الإسرائيلية” شهادة أحد هؤلاء: “إنّهم ملاعين، 3 أطفال أحدهم عمره 10 سنوات يحمل كلاشنكوف، الثاني عمره 12 سنة يحمل سلاح دكتريوف، والثالث 13 سنة يحمل سلاح آر بي جي، يريدون أسري أنا وطاقم الدبّابة كنّا ستة جنود، نعم 6 جنود.. رأينا هؤلاء الأطفال ينزلوننا من الدبابة ويريدون أسرنا بكل وقاحة، فما أن وضعت يدي على مسدسي الخاص وإذ بوابل من الرصاص ينصبّ علينا، لحسن حظي أنني وقعت مضرّجًا بدمائي ولحسن حظي أنّهم لا يتفقدون الجثث، مات الجنود الخمسة، وأنا بقيت، ربما لأروي هذه القصة عن هؤلاء الأطفال”.
42 عامًا مرّت على هذه الحادثة، وصار من اعتَُبر من “أطفال الآر بي جيه” أنّه نال شرف مقاومة إسرائيل، وإن خارج فلسطين، على عتبة ستينات العمر، بينما تتركز أحلامهم اليوم على وقف إبادة غزة وأهلها، وثم استمرار فتات ما يأتيهم من الأونروا.
نشر هذا التحقيق في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.