بعد فترة وجيزة من اكتشاف أول حالة فيروس كورونا في لبنان، اتخذت الحكومة العديد من الإجراءات لمحاولة التصدي لانتشار المرض: إغلاق المدارس والجامعات، إعلان التعبئة العامة، والعمل بما توفر من موارد لدعم وتجهيز قطاع الصحة العامة. كذلك، أعلنت الحكومة برنامج منح مالي للعائلات المحتاجة. بموازاة ذلك، وكما درجت الحال في الأزمات الكبرى، جهد العديد من الأطراف كالمجتمع المدني والأهلي ووسائل الإعلام للإنضمام إلى الجهود المبذولة للتخفيف من الآثار المحلية للوباء، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
في حين كثرت التحليلات والانتقادات الموجهة الى الحكومة حول كيفية إدارتها للأزمة. إلا أنه لا يكفي في الواقع انتقاد الحكومة، أي مؤسسات الدولة الرسمية، من دون فهم آليات ومبادرات القيادات والأحزاب السياسية التقليدية التي بذلت جهوداً ملحوظة لمواجهة انعكاسات الكورونا. في حين أن هذه الجهود قد تكون حيوية ومهمة على المدى القصير، إلا أنها في نهاية المطاف سيكون لها تأثير سلبي على لبنان، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين ناضلوا من أجل إحداث تغيير حقيقي والمطالبة بدولة حاضنة لجميع المواطنين والمواطنات. من هنا، فإن فهم آليات القوى التقليدية وتفكيكها في زمن الكورونا اللبنانية يشكل استمراراً لمبادئ "ثورة 17 تشرين"، ودفعاً لها من أجل عدم الرضوخ في مواجهة قوى الأمر الواقع.
الدولة ومنافسوها في مواجهة الوباء
تضعنا الكورونا في لبنان، كما في كل بلدان العالم، أمام سؤال الدولة، ومدى قدرتها على خدمة المجتمع وتقديم المساعدات له، وتوفير الرخاء في ظل أزمة صحية، واقتصادية ومالية غير مسبوقة. ربما السؤال الذي يطرح نفسه في زمن الكورونا اللبنانية هو التالي: من يواجه من؟ هل الجميع متّحدون في مواجهة الكورونا، أم يسعى البعض (الأحزاب تحديداً) إلى مقارعة فكرة الدولة والحؤول دون إظهارها بصفتها لاعبا أساسيا في المجتمع (وذلك، بمحاولة منهم لتأمين استدامة سلطتهم، داخل مؤسسات الدولة وخارجها)؟
طبعاً، لا بدّ من الإشارة بأن القطاع العام، خصوصاً فيما يتعلق بالصحة العامة والتربية، كان سباقاً في التصدي لانعكاسات الفيروس ونتائجه السلبية على المجتمع اللبناني، أكان من خلال "مستشفى رفيق الحريري الجامعي" والعاملين فيه، أو من خلال تجربة "تلفزيون لبنان" في بثّ الدروس المسجّلة للطلاب. من هنا، لا شك بأن الكورونا تشكل فرصة لا سابق لها ربما، لتدعيم الدولة وتعويمها بصفتها مصدر الحق الوحيد في المجتمع اللبناني، خصوصاً وأن منافسيها في هذه المجال أقل تأثيراً (اعتكاف ملفت للمستشفيات الخاصة مثلاً) من قطاعات أخرى (على سبيل المثال لا الحصر المصارف وجمعية المصارف في الاقتصاد والمال). لكن وكما في كل مناسبة لا تُفوّت القوى والأحزاب التقليدية، بالرغم من وجودها في السلطة، أيّ فرصة للتصدي لفكرة ظهور الدولة وتبلورها.
لا يمكن فهم ردة فعل الأحزاب السياسية بمعزل عن السياق التاريخي لتشكل الحكم في لبنان. منذ نهاية القرن التاسع عشر على الأقل، وحتى بعد قيام الدولة اللبنانية، تولّت العديد من الجهات الفاعلة والجمعيات مهمة تقديم خدمات أساسية للمجتمع، لا سيما في قطاعات التعليم والصحة.
وبصفتهم منافسين لفكرة الدولة الحاضنة والراعية للمجتمع، وجدوا فرصة ذهبية في الحرب الأهلية (1975-1990) لإنشاء مناطقهم الطائفية (من خلال ما يشبه ما سميّ بالإدارات المدنية). تولّت الميليشيات مسؤولية مناطقها، وقدمت الطعام (نظام الإعاشات) والخدمات وصيانة البنية التحتية، في مقابل الطاعة أو حتى الضرائب (الخوّات). ومع انتهاء الحرب، وبالرغم من حلّ الميليشيات وتسليم سلاحها إلى الدولة (أو سوريا)، إلا أن القوى النافذة هذه حافظت على حدودها الداخلية (من خلال الصور والإعلام…). وها هي الآن من خلال الكورونا تعيد تظهير هذه الحدود، ما سيسمح لها من بسط سلطتها في مناطقها مع الانهيار الاقتصادي المقبل، بعد أفول أزمة الكورونا.
تسويق المساعدات كجزء من "الحرب" على الوباء
لا يمرّ يوم في زمن الكورونا اللبنانية إلا ونرى من يدّعي محاربة الكورونا وانعكاساتها على المجتمع. تبنّت الأحزاب السياسية التقليدية مجموعة واسعة من الآليات في "حربها" على تبعات الفيروس، بما في ذلك ارتداء الملابس الملونة (كل فريق حسب اللون الذي يرمز إلى حزبه)، والتجول في المناطق في مواكب سيّارة، وإقامة "حواجز توعية" على مداخل القرى والبلدات. كما ونظمت بعض الأطراف جولات للصحفيين الدوليين والمحليين لعرض الاستعدادات الجارية لمواجهة أثر الوباء. إضافة إلى ذلك، تمّ تداول صور أقنعة للوجه تحمل شعارات الأحزاب السياسية التقليدية على وسائل التواصل الاجتماعي. بالرغم من أن بعض هذه الإجراءات غير ذي جدوى لا بل يشكل ضرراً على صحة الإنسان والبيئة، كرشّ الشوارع بالمطهرات، إلا أن هذه الآليات تكشف الكثير عن سياسات هذه الأطراف وأهدافها تحضيراً لزمن ما بعد الكورونا، أي الإفلاس المالي في لبنان.
طبعاً، وكردّة فعل أولية، حذر بعض النشطاء المستقلين بأن هذه التحركات هي وسيلة لاستعادة الأحزاب لشرعيتها بعدما اهتزت جرّاء الاحتجاجات المطلبية (ثورة 17 تشرين). طبعاً، تشكل هذه الظاهرة محاولة من قبل الأحزاب لإثبات وجودهم ضد أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع وتحدّوا سلطتهم وفسادهم.
لعلّ الأهم من ذلك، أن هذه التدخلات هي محاولة واضحة من قبل الأطراف التقليدية لتقوية قبضتها وتعزيز الحدود الطائفية المناطقية وسيطرتها السياسية وربما لاحقاً الأمنية عليها. في الواقع كل طرف سياسي يستهدف جماعته المتخيلة، أي المناطق الذي يعتبر أنها لا بد من أن تتبع له، وتستعين بنفوذه. إذاً، لا نستغرب إصرار هذه الجماعات السياسية على تسويق استراتيجيات التدخل الخاصة بها. فعلياً، هي تهدف، أولاً وقبل كل شيء، إلى جعل المواطنين يشعرون بعدم الأمان، أو على الأقلّ تغذية مشاعر انعدام الأمن والضعف والهشاشة لديهم والناتجة ليس فقط عن الوباء، إنما أيضاً عن الوضع الاقتصادي المتردي. وبهذه الطريقة، فإنّ هذه المجموعات ليست مهتمة بتنفيذ رؤية لمجتمع وطني من داخل مؤسسات الدولة الرسمية التي هي متمثلة فيها (وزراء نواب الخ)، لكن بتشكيل مجتمعاتها من خارج الدولة، وحكمها وفقاً لذلك.
إنتاج انعدام الأمن المناطقي
من المرجح أن يتم تحديد مرحلة ما بعد الفيروس في لبنان بعنوان الانهيار الاقتصادي، إن لم يكن الإفلاس. سيكون تأمين الدولار الأمريكي، الضروري لاستيراد السلع الأساسية، أمراً صعباً جداً. يستورد لبنان أكثر من 85% من سلّته الغذائية الأساسية. واليوم، يعيش 45% من اللبنانيين تحت خط الفقر، و22% في فقر مدقع. والتضخّم مرتفع، ومن المتوقع أن يصل إلى 25% هذا العام.
أمام هذا الواقع، انبرت الأحزاب السياسية، بدلاً من العمل من داخل مؤسسات الدولة، إلى السباق من خارج المؤسسات الرسمية من أجل مساعدة "المحتاجين" و"الجوعانين"، مساهمين بذلك بتعزيز ثقافة العوز والحسنة على حساب الحقوق. وفي الوقت الذي تفتقر فيه حالياً الأحزاب إلى الموارد المالية التي كانت تعتمد عليها سابقاً (المساعدات الخارجية والدعم المالي المباشر)، لجأت إلى طرق بديلة لتأمين التمويل منها مثلاً المساعدات المباشرة من المواطنين لمساعدة مواطنين آخرين. لا نستغرب أبداً مبادرة "التيار الوطني الحر"، ومؤسسه ورئيسه السابق هو رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، في إطلاق حملة "العونة العونية" والتي تتضمن فتح حساب تبرّعات نقديّة وعينيّة وفتح خط ساخن في غرفة العمليات المركزية للحزب.
لا شكّ، بأن إجراءات الحكومة لمكافحة الفيروس مهمة، لكنها كانت غامضة بعض الشيء. ساهم هذا الغموض، عن قصد أو عن غير قصد، في السماح للبلديات ومجموعات شبابية في اتخاذ قرارات مستقلة عن السلطة المركزية. أغلقت بعض البلديات مداخلها الرئيسية، وأقامت نقاط تفتيش وعزلت مناطقها، في غياب أي اتجاه مركزي واضح في هذا الصدد.
ففي محاولاتها للاستجابة للأزمة، على سبيل المثال، من خلال توزيع "إعاشات" (زيت، أرز…)، لا تولّد الأحزاب السياسية ثقافة العوز والحسنة فقط، لكن تولّد أيضاً شعورًا بعدم الأمان وعدم الاستقرار لكسب الشرعية وزيادة تعزيز سيطرتها على مناطقها.
فعلياً هذا ما بدأ يتبلور بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية السابقة بوقت قصير حين راحت أطراف سياسية تقليدية تحذّر بأن المجاعة آتية إلى لبنان (مثلاً، ميشال معوض ووليد جنبلاط). سواء كان ذلك حقيقة أم لا، فإن هذا التهديد جعل الناس أكثر عرضة للخطر، وبالتالي أكثر اعتمادًا على هذه الأطراف السياسية.
مع الأزمة المالية التي تمر بها الدولة اللبنانية، تشكل الكورونا فرصة ذهبية للتعويض عن خسارتهم لموارد الدولة. فهم حالياً لا يتطلعون إلى السيطرة على الدولة المفلسة، بل يسعون إلى التحكم بمناطقهم ومجتمعاتهم المفترضة. فإذا كان الاستيلاء على موارد الدولة أمراً حاسماً لضمان بقائهم في السلطة في فترة ما بعد الحرب، الآن، ومع الإقتصاد المتعثر وتضاؤل الأموال العامة والأدوار التوزيعية التي أتت معها، فإن الاستيلاء على المجتمع هو وسيلة بقاء هؤلاء. أقله هذا ما يصبون إليه.
تأمين صلة الوصل بين اليوتوبيا الثورية والمعاناة على أرض الواقع
ربما ليس هنالك من مجال هنا لتقديم نقد بناء ومراجعة لما حققته أو لم تحققه الاحتجاجات الشعبية الأخيرة إضافة إلى التحديات التي تواجهها الآن وفي المستقبل القريب، إلا إنه من المهم التأكيد على ضرورة التعبير عن النضال ضد الطبقة السياسية بشكل مختلف. في الواقع، اتّسم الخطاب العام حول التغيير بمفاهيم نوعاً ما سلبية، كالتركيز على فكرة "الانهيار" الاقتصادي و"الهلع" من الفيروس. الفرصة سانحة الآن، وعلى غرار العديد من الدعوات في جميع أنحاء العالم لتصوّر العالم من جديد، للتركيز على ثقافة الأمل والنظر إلى الأزمات، صحية أو اقتصادية، ليس كنهاية بحد ذاتها بل لحظة تأسيسية لمستقبل هذا البلد.
الأمل هذا لا يجب أن يقتصر على مشروع طوباوي ينشد التغيير. لا بل يجب أن بتحول إلى مشروع سياسي يؤمّن ربطاً وثيقاً بين يوتوبيا الثورة ومصالح أولئك الذين يعانون أكثر من غيرهم من النظام ويعتمدون عليه. هذا الربط، وبالرغم من وجود مشاريع سياسية (أهمها مشروع مواطنون ومواطنات في دولة)، لم يرَ النور حتى الآن أو أقله لم يصل إلى أولئك الذين سيقومون بتحقيقه. لكن لا بد من المحاولة والمساهمة في تحقيق هذا المشروع.