“لا نريد أنّ نعود إلى الإدمان، أن نُجرّد من إنسانيتنا، أن نفقد وظائفنا، نحن أيضاً مرضى وحياتنا مهدّدة” يقول أحد الأشخاص في طور العلاج من إدمان المواد الأفيونية الذين سيجدون أنفسهم بعد أيام قليلة غير قادرين على الحصول على “العلاج البديل” أو “البديل الأفيوني” OST. فقد أبلغت المراكز الصحية التابعة لوزارة الصحّة التي تشكّل المصدر الوحيد لتأمين هذا الدواء، الجمعيات المعنيّة بعلاج الإدمان بأنّ الكمّيات تنتهي في آخر الأسبوع الحالي، الأمر الذي سيعرّض أكثر من 1000 شخص لمخاطر اجتماعيّة ونفسية وصحية قد تصل إلى حدّ الموت.
وتعود أسباب المشكلة إلى توقف مصرف لبنان قبل أشهر عن فتح اعتمادات لاستيراد هذا الدواء وهو ما تسبّب بنفاد المخزون الموجود في المراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة التي وحدها يحقّ لها استيراده، بحسب مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية الدكتور ربيع شماعي.
ولكن بحسب المعنيين لا يوجد حتى الآن حلّ طويل الأمد بل حلول تؤجّل الأزمة بضعة أسابيع من بينها تخفيف الجرعات، والسماح باستخدام أدوية منتهية الصلاحية والسماح للجمعيات بالسعي إلى تأمين منح وتحويلها إلى الشركة المستوردة، في حين أنّ المطلوب لحلّ المشكلة هو فتح مصرف لبنان اعتمادات لاستيراد هذا الدواء.
و”البديل الأفيوني” هو دواء يُستخدم كنمط علاجي من الإدمان معتمد في لبنان منذ العام 2010 في إطار برنامج العلاج البديل التابع لوزارة الصحة. ويحتاج الأشخاص الذين يعالجون من الإدمان على المواد الأفيونية في مراكز وجمعيات متخصّصة، إلى الدواء بشكل يومي وبكميّات يحدّدها الطبيب المتابع. ويحصل هؤلاء الأشخاص بشكل دوري كلّ أسبوع أو أسبوعين على الدواء من مراكز توزيع دواء تابعة لوزارة الصحّة وذلك بناء على وصفة طبية تعطى له بعد خضوعه لمعاينة طبية ونفسية في المركز المتخصّص.
واستقبل برنامج العلاج البديل منذ إطلاقه عام 2010، 3 آلاف شخص، بقي منهم اليوم حوالي 1200، أمّا الباقون فإما لم يعودوا بحاجة إلى هذا الدواء أو أنهم خرجوا لأسباب أخرى.
وتشمل المواد الأفيونية الهيروين والمورفين والكوديين والفنتانيل والميثادون والترامادول وغيرها من المواد المماثلة، كما يشمل مصطلح “المواد الأفيونية” المركبات المستخرجة من بذور الخشخاش وكذلك المركبات الاصطناعية وشبه الاصطناعية ذات الخصائص المماثلة التي يمكن أن تتفاعل مع مستقبلات المواد الأفيونية في الدماغ.
لا اعتمادات لاستيراد الدواء والحلول المطروحة مؤقتة
ويشير د. شماعي في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ هذا الدواء لا بديل له وأنّه من الأدوية المصنّفة مزمنة والتي لا يسمح باستيرادها من قبل الوزارة إلّا عبر شركة واحدة لم يُفتح لها اعتمادات للاستيراد حتى اللحظة.
ويوضح شماعي أنّ وزارة الصحة (البرنامج الوطني للصحة النفسية ودائرة المخدرات) وبالتعاون مع عدد من الجمعيات المعنية بعلاج الإدمان، وضعت خطة طوارئ لإدارة الأزمة أو الاستجابة لها، تتضمّن تخفيف الجرعات للأشخاص الذين يحتاجون الدواء بإشراف أطباء مختصّين كي يخدم المخزون لمدة أطول، والحصول على منح خارجية، فضلاً عن السماح باستخدام أدوية منتهية الصلاحية متوافرة لدى الوزارة، مشدداً على أنّ هذه الإجراءات هي حلول تؤجّل الأزمة ولا تحلّها، وهي قصيرة المدى إذ لا حلول طويلة الأمد موجودة حالياً، فالمطلوب هو فتح مصرف لبنان اعتمادات لاستيراد هذا الدواء.
وفي الإطار نفسه تشير المديرة التنفيذية لمركز “سكون” لمعالجة الإدمان، تاتيانا سليمان، إلى أنّه تمّ إرسال طلب إلى وزارة الصحة في أيلول الماضي من أجل السماح باستخدام كمية من الأدوية المنتهية الصلاحية وجاءت الموافقة المبدئية، ولاسيّما أنّ استخدام هذه الأدوية أقلّ أذى بكثير من التوقّف الكلّي عن الدواء حسب الأطباء المعنيين.
وتلفت سليمان إلى أنّه وفي إطار خطة الاستجابة قدّمت وزارة الصحة تسهيلات استثنائية، منها السماح بدخول الدواء إلى لبنان عبر دول مانحة في حال تمكّنت الجمعيات من إيجاد جهات مانحة، شرط أن يكون الموضوع عبر منظمة الصحة العالمية، فضلاً عن السماح للجمعيات بإرسال أموال المنح (في حال توفرت) إلى الشركة المستوردة مباشرة حتى تتمكّن من استيراد الدواء.
وتضيف سليمان أنّه وانطلاقاً من هذه التسهيلات تمّ تأمين 70 ألف دولار حوّلت إلى الشركة المستوردة ما يتيح تأمين 6 آلاف علبة تخدم ما بين 4 إلى 6 أسابيع ولكنّ الموضوع يحتاج إلى وقت، تضاف إلى ألفين و400 علبة منتهية الصلاحية ما قد يؤجّل الأزمة بحدود 3 أشهر على أبعد تقدير ولا يحلّها.
وفي حين تشير تاتيانا إلى أنّ الجمعيات تحاول بشتى الطرق إيجاد جهات مانحة وتأمين أموال تساعد في حلّ أزمة فقدان “بدائل الأفيون” تشدّد على أنّ التعامل مع الأزمة كان ليكون أسهل لو أنّ وزارة الصحة أبلغت الجهات المعنية باحتمال فقدان الدواء قبل الوصول إلى نقطة الخطر. وتلفت إلى أنّ الجمعيات ومنذ عام تقريباً تتواصل مع وزارة الصحة في هذا الشأن، إلّا أنّ الأخيرة كانت تؤكد أنّ لا فقدان ولا رفع دعم عن “بدائل الأفيون” إلى أن أبلغت صيدليات المراكز الصحية قبل أسبوعين أنّ الدواء المتوافر لديها اقترب من النفاد وأنّ المصرف المركزي لم يفتح اعتمادات منذ 3 أشهر للشركة المستوردة لهذا الدواء.
وتذكر تاتيانا أنّ هذا الدواء أيضاً رفع عنه الدعم جزئياً وبنسبة 20% فارتفع سعره من من 29 ألف ليرة للعلبة إلى 108 آلاف.
حياتنا على المحكّ “نحن أيضاً مرضى”
يشعر الأشخاص الذين يتناولون هذا الدواء كجزء أساسي من مسيرتهم العلاجية من الإدمان، بقلق كبير، فعدم تناولهم الدواء يعني عملياً “انتكاسة نفسية وصحية تترافق مع أوجاع جسدية تجعلهم غير قادرين على الخروج من فراشهم ما قد يعرّضهم لمشاكل مع محيطهم الذي قد يكون لا يعرف شيئاً عن ماضيهم المتعلّق بتعاطي المخدرات والإدمان عليها ، على سبيل المثال لا الحصر، أو مشاكل مع جهات عملهم، هذا فضلاً عن ارتفاع احتمال العودة إلى الإدمان والموت بجرعة زائدة” حسب ما يشير إلياس ضو، المدير التنفيذي في “رست كلينيك” Reset Clinic التابعة لجمعية “سوشال رست” Social Reset المتخصصة بعلاج الإدمان، مشدداً في حديث مع “المفكرة” على ضرورة الإسراع في تأمين الدواء تفادياً لكارثة صحية واجتماعية.
“أشعر بأننّي ذاهب إلى الجحيم، عدم تناولي الدواء سيضعني أمام خيارات أفضلها يسرق منّي حياتي التي عدّت إليها” يقول ماهر (37 عاماً) وهو الذي حاول لسنوات التخلّص من الإدمان عبر تلقّي العلاج في مراكز داخل لبنان وخارجه، ولم يُعِده إلى حياته سوى العلاج عبر البدائل الأفيونيّة.
ويشير ماهر في حديث مع “المفكرة” إلى أنّه حالياً يعمل موظفاً في شركة تابعة لعائلته وأنّه يعيش حياة طبيعية عانى لسنوات حتى يصل إليها. ويقول: “السلطة غير واعية لما تقوم به، حرماننا من العلاج يسرق منا حياتنا كناجين، لا أريد أن أعود إلى تعاطي المخدرات، ولا أن أموت بجرعة زائدة، أنا تركت الماضي ولا أريد العودة إليه، والأمر كلّه معتمد على تأمين الدواء”.
ويخشى ماهر من أن يتحوّل الشخص في طور العلاج في حال عدم حصوله على الدواء البديل، إلى شخص عنيف يؤذي نفسه ومحيطه، لذلك فعدم تأمين الدواء يهدّد المجتمع بشكل عام.
وتماماً كما ماهر يعبّر تيرو (46 عاماً) عن القلق على حياته ويوضح في حديث مع “المفكرة” بأنّه يتناول هذا الدواء منذ 10 سنوات وأنّه يخاف أن يفقد “نظرة الناس المحترمة إليه في حال توقّف عن تناوله”.
يعتبر تيرو أنّ تناوله هذا الدواء أنهى مرحلة صعبة من حياته كان يسبّب خلالها مشاكل لنفسه ولعائلته ويضيف: “لا أستطيع أن أتخيّل شكل حياتي من دون الدواء، ولا حجم الآلام التي سأشعر بها، ولا نوبات فقدان السيطرة على نفسي، لا أريد أن أعود مدمناً ولا أن أموت بجرعة زائدة”.
ويتوجّه تيرو إلى السلطة بالقول: “لا تجرّدوننا من إنسانيتنا، نحن مرضى أيضاً”.
حتى البدائل غير متوافرة
لا توجد أي إجراءات طبيّة يمكن اعتمادها لمنع المخاطر التي سيواجهها الأشخاص الخاضعون للعلاج من الإدمان على الأفيونات في حال عدم تناولهم الدواء، إلّا أنّه يمكن اللجوء إلى إزالة السموم detox ما يساعدهم بالصمود لفترة أطول، ولكنّ حتى هذا الأمر غير سهل.
وتقول تاتيانا إنّ هناك مستشفى حكومياً واحداً (ضهر الباشق) يجري هذا النوع من الـ”ديتوكس” وفيه 20 سريراً فقط (لجميع المرضى) أي أنّ قدرته الاستيعابية لا تسمح له باستقبال أعداد كبيرة، وذلك في وقت كلفة الـ “ديتوكس” في المستشفيات الخاصة مرتفعة جداً تصل إلى 6 ملايين، موضحة أنّه حتى لو قرّر هؤلاء الأشخاص الخضوع لـ “ديتوكس” خارج المستشفى فالأمر يحتاج إلى عدد من الأدوية المرتفعة الثمن هذا في حال كانت متوافرة وغير مفقودة.
التذكير بضرورة عدم إبلاغ الدرك في حالات الجرعات الزائدة
ومع ارتفاع خطر حالات “الجرعات الزائدة” في حال انقطاع الدواء، تشير تاتيانا إلى أنّ وزارة الصحة والجمعيات المعنية تعمل على التأكّد من إعادة إرسال التعميم رقم 46 تاريخ 22/3/2016 إلى المستشفيات والذي يؤكّد على أنّ حالات الجرعة المفرطة لا تقتضي إعلام قوى الأمن الداخلي أو اتخاذ أي إجراءات قضائية بهذا الشأن، وذلك بهدف الحفاظ على حق المريض في العناية الصحية وفي العلاج واحترام خصوصيته، كما تمّ إبلاغ لجنة مكافحة الإدمان التابعة لوزارة العدل ضرورة أن تكون متفهّمة لوضع هؤلاء، “لأن حياة الناس بخطر وسوء إدارة الدولة هي المسؤولة عن الأفعال التي قد يقدمون عليها بسبب فقدان الدواء” حسب تاتيانا.
فقدان الدواء يتعارض مع مبدأ العلاج كبديل عن الملاحقة
يعدّ فقدان الدواء البديل للأفيونات والذي يدخل في صلب علاج مستهلكي الأفيون، انتهاكاً لحقّ الأشخاص الذين يستهلكون المخدرات في الوصول إلى العلاج والصحة، كما يتعارض مع مبدأ “العلاج كبديل عن الملاحقة والعقاب” حسب ما يوضح المحامي كريم نمّور.
ويشرح نموّر في حديث مع “المفكرة” أنّ المادة 127 من قانون المخدرات كرّست مبدأ “العلاج كبديل عن الملاحقة والعقاب”، إذ ورد في نصّها “يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مليونين إلى خمسة ملايين ليرة … من ثبت إدمانه على تعاطي [المادة المخدرة] ولم يذعن لإجراءات العلاج”.
وانطلاقاً من هذه المادة تصبح “الجريمة” المنصوص عليها في المادة 127 المذكورة، وبحسب نمّور، مكوّنة من عنصرين: الأوّل استخدام المخدرات والثاني عدم الإذعان لإجراءات العلاج، وبالتالي عندما لا تؤمن الدولة العلاج البديل وفق ما هو مذكور، يغيب عنصر من عناصر الجريمة، فتصبح أيّ محاكمة للأشخاص الذين يستهلكون المخدرات مخالفة للنص القانوني.
ومن جهة أخرى يشدّد نمّور على ضرورة إعادة النظر في طريقة صرف أموال الدولة في موضوع مكافحة المخدرات متسائلاً: “هل يجب أن نصرف الأموال والطاقات لملاحقة أشخاص بحاجة للعلاج وتالياً وضعهم في السجون أو من الأفضل تخصيص أموال الدولة بشكل أكثر ذكاء لتوفير علاج مجاني لمستهلكي المخدرات؟”.