متظاهرات بزيّ بطلات مسلسل الدستوبيا Handmaid's tale خلال الاحتجاجات على الإصلاحات القضائية في إسرائيل (مصدر الصورة: ويكيبيديا)
مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة منذ 7 أكتوبر، تبدّت طموحات النظام الإسرائيلي في الاجتياح الشامل لما تبقى من أراضٍ فلسطينية، بعد التخلص من أهلها،إبادة وتهجيرا. هذا هو المغزى من تسطيح مدن بكاملها (حتى بعد تهجيرها) وإزالة أي مبنى أو معلم فيها يشي بتاريخ المكان أو بإمكانية عودة سكّانه الأصليين. Tabula Rasa[1] متعمّدة. فعدوان إسرائيل على غزّة يشكّل أيضاً امتدادا لمخططها الاستعماري-الاستيطاني منذ نشأتها (منذ “خطة دالت”[2]). عدوان لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي.
وما يحصل في غزة، يحصل ولو بدرجة أخفّ، في الضفّة الغربية في ظلّ ارتفاع وتيرة جرائم المستوطنين الإسرائيليين المستباحة هناك، وسط دعوات متزايدة لسياسيين إسرائيليين إلى ضمّ أراضي الضفّة الغربية، وتبنّي سياسات في إسرائيل تفي بهذا الغرض على أرض الواقع (de facto annexation)، وإصدار قوانين عنصريّة تؤدّي الى تهميش هويّة المكان الفلسطينية والعربيّة (قبل إلغائها بالكامل).
وفي حين تزايد التنديد الدولي (لا سيما الأممي منه) بالسياسات الإسرائيلية إزاء الاستيطان ومشروع ضمّ الضفة الغربية بالتزامن مع استمرار ملاحقة نتانياهو في ملفات فساد، أتت 7 أكتوبر لتشكّل فرصة لنتنياهو وحلفائه لتعليق مسار السقوط المحتّم. فعُلّقت محاكمة نتنياهو بموجب أمر طارئ من وزير عدالته، فيما جهدت إسرائيل في استعطاف المجتمع الدولي جرّاء الاعتداء “الإرهابي” عليها، طالبة منه الدعم لدرء “الهمجيّة” عنها وتبرير جرائمها اذ ذاك.
النزعة الشمولية في نشأة المشروع
إسرائيل بنتْ نفسها وتطوّرتْ على ركام العقائد والأيديولوجيات العنصرية التي نبعتْ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن اللاحق له واسترشدتْ بآليات عمل الأنظمة الاستعمارية الأوروبية والأميركية آنذاك لبسط سلطة النظام الصهيوني على الأراضي الفلسطينية. وفي العام نفسه الذي أُسس فيه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في 1948، أُعلن عن إنشاء إسرائيل فيما فتّكت النكبة بالأراضي الفلسطينية وبشعبها، مُيتّمة الأرض من أهلها ومُحوّلة ما تبقى من أراضٍ الى مرمى للمهجَّرين، ومنها مدينة غزّة والمناطق المجاورة لها التي حُوّلت مجتمعة إلى قطاع يحمل اسم المدينة.
هي ليست دولة مُستعمِرة بالمفهوم التقليدي الموروث من مؤتمر برلين (1884-1885)، بل هي نتيجة مشروع استعماري-استيطاني أشبه بالنماذج البريطانية في أستراليا والأميركية في الأراضي التي أصبحت الولايات المتّحدة أو هاواي. هو مشروع عدواني وجودياً بطبيعته ضدّ السكّان المحليين الأصليين بحيث أنه قائم على الإلغاء (عكس الاستعمار التقليدي القائم على الاستغلال). وفي الواقع، اتّسم المشروع الصهيوني منذ نشأته ونشأة إسرائيل بنزعة شمولية تتشابه بآلية عملها وبتنظيمها وبفلسفتها السياسية بالأحزاب الفاشية والحزب النازي، وهو ما سارع عدد من المفكرين اليهود على شجبه سنة 1948 تحديداً، مثل ألبير أينشتين (Albert Einstein) وحنّة آرنت (Hannah Arendt)، في رسالة نُشرت في النيو يورك تايمز (New York Times)، عارضوا فيها زيارة مناحيم بيجِن (Menachem Begin) إلى الولايات المتّحدة.
هذه النزعة الشمولية ظهرت بشكل خاصّ في السردية الرسمية التي رافقت نهوض إسرائيل ولا تزال ترسم ملامح المشروع الصهيوني اليوم. فتمّ تظهير المكان كأنه حقّ سماوي لجميع اليهود (ما يستبعد أي مناقشة حقوقية عقلانية حول هذه المسألة)، فاليهودي لا يمكن أن يكون مُستعمراً في ممارسة حقه السماوي[3]. وتمّ تغليب عقيدة عرقية- دينية تُظهر المستعمر- المستوطن (غالباً ما هو أوروبي الأصل) ككائن أسمى (“الشعب المُختار”) يتمتّع بحقّ سماوي على المكان المُستهدف في حين يشكّل ثقافياً (وحتى عرقياً) امتداداً لليد الأوروبية (المستعمر التقليدي) في المنطقة وسط سكّان محليين تمّت شيطنتهم وجُرّدوا من إنسانيتهم وتاريخهم وحوّلوا (هم) الى دُخلاء على “الأرض المقدّسة”.
ولهذا الغرض، حاولتْ إسرائيل وضع مختلف المجتمعات اليهودية حول العالم تحت مظلّة الشعب الواحد الموحّد بيهوديّته، وهو وهم شكّل حجر الأساس في استراتيجية إسرائيل التواصلية وطموحاتها الشمولية. فالهدف الأساسي هو المزج بين يهود العالم وإسرائيل لدرجة التوحيد بينهما على نحو يتم تصوير أيّ نقد لإسرائيل أو للمشروع الصهيوني على أنه فعل معادٍ للسامية، مقابل حجب التعددية الفلسفية-السياسية بين مختلف المجتمعات اليهودية إزاء إسرائيل وأدائها تحت طائلة توصيف كل يهودي يخالف الصهيونية أو سياسات إسرائيل بالكراهية الذاتية – self‑hating jew.
لا بل أنّ هذه الاستراتيجية تحجب أيضاً تاريخ المشروع المبنية على التمييز العنصري والعرقي والطبقي، حتى بين مختلف المجتمعات اليهودية نفسها، لا سيما إزاء اليهود الفلسطينيين الأصليين (اليهود العرب أو السفارديون)، الذين يُنظر لهم كـ”عرب بالكامل” (ערבים גמורים). فهم الذين تم استغلالهم في بدايات تنفيذ المشروع كمترجمين محليين ووسطاء ثقافيين وعقاريين قبل تحويلهم من سكّان محليّين أصليّين إلى مستوطنين أنفسهم، فتمّ إبعادُهم عن منشئهم ليوزّعوا على الأراضي المحتلّة في حين تمّ احتلال المزيد من الأراضي الأخرى (لا سيّما في القدس والضفّة الغربية) باسمهم. على هذا الأساس مثلاً تم (ولا يزال) سلب بيوت وأراضي الفلسطينيين في كل من الشيخ جرّاح وسلوان والخليل، بحجّة أنها تعود لليهود المحليين الأصليين[4].
بالتوازي، عملت إسرائيل على تجريد المكان من تاريخه ولغته، لا سيما من خلال عبرنة أسماء القرى والمدن ونبذ المستعمرين-المستوطنين للغة العربية كلغة محليّة ولغة تداول، وفرضتْ هذه المُعادلة على اليهود المحليين الأصليين (كشرط أساسي لاندماجهم بالمجتمع الصهيوني)، وصولاً إلى حدّ التوقّف عن اعتبار اللغة العربية لغة رسمية سنة 2018، لتتحوّل الى لغة الآخر[5].
النزعة الشمولية في الحكومة الإسرائيلية الحالية
إسرائيل اليوم ليست إسرائيل سنة 1948، فهي شهدت تطوّراً سياسيّاً وقانونيّاً غير مسبوق في السنوات الأخيرة يشي بتطوّر هويّة نظامها الاستعماري-الاستيطاني إلى نظام ذات نزعة شمولية. وهو أمر بدأ يتجلّى سنة 2018 عندما أقرّ الكنيست الإسرائيلي في 19 تمّوز قانونا أساسيا[6] (ضمن القانون الدستوري الإسرائيلي) مفاده اعتبار إسرائيل “دولة قومية للشعب اليهودي” تنحصر فيها ممارسة حقّ تقرير المصير بالشعب اليهودي. وفي حين يزيل القانون اللغة العربية من قائمة اللغات الرسمية في إسرائيل، يُعلن أنّ القدس الكاملة والموحّدة هي عاصمة إسرائيل ويعتبر أن تطوير الاستيطان اليهودي يتمتّع بقيمة قومية تعمل إسرائيل من أجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته.
وقد تفشّت الموجة الشمولية خاصة بعد تشكيل الحكومة الائتلافية الإسرائيلية الحالية في 29 كانون الأوّل 2022 وهي أكثر الحكومات الإسرائيلية المتطرّفة يمينياً ودينياً بشكل علني في التاريخ، وهي تضمّ ائتلافاً مكوّناً من أحزاب اليمين واليمين المتطرّف والأحزاب المتديّنة الأرثوذكسية والصهيونية، وهي ذات سياسة تجاهر بسمو اليهودية عرقياً وبضمّ الأراضي المحتلّة في الضفة الغربية إلى إسرائيل، مقابل معاداة مؤسسات المجتمع المدني والحركات الحقوقية (لا سيما تلك المتعلقة بالحرية الدينية ومجتمعات الميم-عين إلخ.). هذه الحكومة نفسها هي التي دفعت بإقرار الكنيست الإسرائيلي في 24 تمّوز 2023 لقانون الإصلاح القضائي الذي يحدّ بشكل ملحوظ من سلطة المحكمة العليا في إعلان مدى معقولية قرار ما للحكومة ويؤدي عملياً إلى تحصين قرارات الحكومة حيال أي رقابة قضائية، وسط مخاوف جديّة إزاء استغلال هذا القانون بغية تطوير العمليات الاستيطانية في الضفة الغربية دون ضوابط. غير أن المحكمة العليا الإسرائيلية أصدرت مؤخراً (في 1 كانون الثاني 2024) قراراً بإبطال القانون الإشكالي المذكور نظراً لإضراره بالخصائص الديمقراطية الأساسية.
استراتيجية تحريم التفكير في خدمة الطموح الشمولية
عقب أحداث 7 أكتوبر، عمدت إسرائيل إلى استخدام آليات بروباغندا الحرب التقليدية لتعميم سردية وتوصيف كاذبين للوقائع، ومحاولة عزل أحداث 7 أكتوبر عن السياق الزمني-المكاني في اتّجاه تحريم التفكير فيه (Denkverbot) وإرساء معادلة ثنائية القطب على النقاش العام: إمّا أنت معنا بالكامل أو ضدّنا بالكامل. وفي حين تمّ تفكيك السردية الإسرائيلية مراراً وفضح عدم صحّة ادّعاءاتها، إلا أنّ هذا الأمر لم يردعْ استراتيجيتها ولم يخفّف من وتيرة الأخبار الكاذبة التي بقيت تتردّد في الإعلام، لا سيما في دول الشمال السياسي (وهو أمر تعزز بفعل الدور الذي لعبته الهاسبارا – הַסְבָּרָה – في مختلف المؤسسات الإسرائيلية والمؤسسات الشريكة لها حول العالم).
في الواقع، فإن تقديم سردية بديلة للوقائع لا يهدف الى تغليب الرواية الإسرائيلية وحسب، فإسرائيل على أتمّ اليقين أن سرديّتها ليست متّزنة وركيكة في الصميم، إنما هي تهدف بالدرحة الأولى إلى إلغاء إمكانية التفكير النقدي لدى جمهور البروباغندا. فوفق دراسة حنّة آرنت (Hannah Arendt) الرائدة حول أصول الشمولية (The Origins of Totalitarianism)، كشفت البروباغندا الجماعية، واستخدام القادة الشموليين لها، صحّة فرضية سيكولوجية مفادها إمكانية غشّ الجمهور لتصديق أسوأ وأكثر الأخبار خُرافة في يوم ما، والوثوق أنه في اليوم التالي وفي حال قُدّمت له إثباتات دامغة حول بهتان هذه الأخبار، فهو سوف يلجأ إلى التسخيف والاستهزاء (Cynicism). بمعنى آخر، من خصائص هذا النوع من البروباغندا هو إمكانيته بإقناع الجمهور في تصديق كل شيء ولا شيء في آن واحد، بحيث يصبح كل شيء مُحتملاً ولا شيء صحيحاً[7].
الأمر نفسه تمّ اتّباعه في استراتيجية إسرائيل بتحوير مفاهيم معاداة السامية (ومزجها بإسرائيل نفسها) والتوصيف العشوائي بالإرهاب بهدف شيطنة الفلسطينيين. فالمغزى من اللعب على تحوير هذه المفاهيم، هو إلغاء إمكانية التساؤل حول ما هو الإرهاب فعلاً ومن هو الإرهابي وتالياً ما هي معاداة السامية في الواقع، لتتحول هذه المفاهيم الى مرادفات لكلّ من حماس والفلسطينيين من ناحية (واستطراداً العرب والإسلام عموماً) ونقد إسرائيل من ناحية أخرى. وهو أمر تعزّز عبر ترسيخ عبارات نمطية مبتذلة في الذهنية العامة (ترغيباً أو ترهيباً)، مثل “حق إسرائيل بالدّفاع عن نفسها” والمطالبة النمطيّة بإدانة منظّمة حماس في بداية أي حوار حول العدوان على غزّة. الهدف من ترسيخ هذه العبارات النمطية المبتذلة يكمن بشكل أساسيّ في حجب الواقع عن جمهور البروباغندا ومنعه من التفكير، على نحو يحوّل العبارة المعنيّة إلى واقع مُثبَت بحدّ ذاته ولا يقبل أيّ نقاش[8].
إسرائيل تدفع بسرديتها ومفاهيمها الملتوية لمعاداة السامية والإرهاب متجاهلة مواجهتها بتناقضاتها أو بهتان ما تقدّمه، فهي تحتقر الوقائع والحقائق أساساً، مثلما تحتقر السياق والتاريخ وكما تحتقر القانون والمؤسسات الأممية، بما فيها محكمة العدل الدولية (وخير دليل على ذلك تصريحات نتنياهو الحديثة بهذا الشأن). هذه ليست مُبالغة، بل هي تشكّل مؤشّرات موضوعية لما وصلت إليه إسرائيل عمليّاً.
مكوّنات النظام الشمولي
عقب الحرب العالميّة الثانية، وبعد سقوط النّظام النازي في ألمانيا، فنّدت حنّة آرنت (Hannah Arendt) أسباب ومكوّنات الأنظمة السياسيّة الشمولية في كتابها الموسوعي “أصول الشمولية” (The Origins of Totalitarianism)، ومن شأن إعادة قراءة هذا الكتاب أن تمنحنا إضاءات هامة على استراتيجية الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تبدو وكأنها تستوحي سلوكيّاتها وطرق عملها من حركات شمولية سابقة، بهدف بناء نظام شموليّ جديد.
فبالإضافة إلى سياسات إسرائيل العنصريّة وفظاعة جرائمها إزاء الفلسطينيين، هذا ما يتبدّى أيضاً من ازدراء إسرائيل للقانون الدّولي وصولاً إلى حدّ معاداتها للمجتمع الدولي برمّته. وهو أمر تمّ التصريح عنه علناً لا سيما في سياق الردّ على مواقف الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش (António Guterres) وما ورد على لسان بعض المسؤولين في إسرائيل لجهة وجوب تلقين الأمم المتحدة درساً ووقف إصدار تأشيرات سفر لممثليها. لكن موقف إسرائيل يتخطّى مؤسسات الأمم المتّحدة، إذ أن ازدراءها المتفاقم للقانون الدولي ومبدأ خضوعها للمراقبة والمُحاسبة يُشكّل عملياً قطيعة من قبل النظام الإسرائيلي مع مبدأ “التوافق القانوني” (consensus iuris) بمفهومه الفلسفيّ المنسوب إلى شيشرون. هذه القطيعة هي أحد المكوّنات الأساسيّة للأنظمة الشمولية، التي تتحدّى الآخر (المجتمع الدولي) وتقطع معه ومع مبادئه (التوافق القانوني) وحتى تقطع مع قوانينها الوضعية نفسها (قانون الإصلاح القضائي)، لإرساء معادلة مفادها أن المرء (الكائن الشمولي) هو نفسه يجسّد القانون (بأفعاله ونوياه، بمعزل عن مفاهيم التوافق التقليدية)[9]. أوليس هذا ما نشهده اليوم في فلسفة إسرائيل الاستيطانية في الضفّة الغربية وفي الحيّز المتفاقم المُعطى لمفهوم ودور المستوطن هناك وسط موجة تسليحه العلنية الأخيرة من قبل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير شخصياً؟
وهو أمر يتعزز بتفاقم العملية الاستعمارية-الاستيطانية مؤخراً، أكان في الضفّة الغربية أو فيما لُمّح إليه بالنسبة لغزّة بعد 7 أكتوبر. وخير دليل على ذلك، ما تضمّنه القانون الأساسي الصادر في 2018[10] الذي يعتبر أن “تطوير الاستيطان اليهودي يتمتّع بقيمة قومية تعمل إسرائيل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته”. فالحركات الشمولية التي تطمح للنهوض بنظام شمولي تعمل على توسيع نطاق عملها الجغرافي عبر الاستعمار وضمّ الأراضي الخارجية بمعزل عن الحتميات الجيوسياسية (مياه أو غاز إلخ.)، بل بهدف الحصول على مزيد من السلطة على المكان (السلطة بهدف السلطة)[11].
فضلاً عن ذلك، توصّلت إسرائيل من خلال استراتيجيتها إلى تكوين الكائن الشمولي المُنحاز تماماً للمشروع الشمولي (ولاحقاً لنظامه)، وهو ما يتحقق تقليدياً من خلال عزل الجمهور عن الواقع المحيط به وإمكانيته في الاختيار والتفكير النقديّ الذاتيّ. وهذا تماماً ما تقوم به إسرائيل اليوم مع جمهورها، لا سيما من خلال استراتيجية التفكير المحرّم (Denkverbot) المذكورة. وهو أمر نستشفّه بشكل خاصّ من موقف المجتمع الإسرائيلي الذي بقي داعماً للحرب ومؤيّداً لأداء الجيش الإسرائيلي (حتى بعد مرور 125 يوم على بداية الحرب[12]) بالرغم من موقفه من نتنياهو بالذات وبالرغم من فظاعة الجرائم المرتكبة من الجيش المذكور. فالكائن المثالي – وفق ما أشارت إليه آرنت – بالنسبة إلى النظام الشمولي، ليس المرء المُقتنع بالحركة الشمولية ومبادئها، بل هو ذاك الذي يفقد تماماً قدرته على التمييز بين الواقع والخيال (مثل واقع الاختبار) وبين الصحّ والخطأ (مثل معايير التفكير)[13].
عائق الجماهير
يبقى أن هناك عائقاً أساسياً لنجاح المشروع الشمولي الإسرائيلي، إذ قد يفتقد أحد مكوّنات الأنظمة الشمولية الجوهرية: الجماهير. فوفق آرنت تبقى الحركات الشمولية مرهونة لقوّة جمهورها العددية، لدرجة أنه لا يمكن أن تصل وتصبح نظاماً شمولياً في بلاد ذات عدد قليل من السكّان (هذا ما دفع ألمانيا النازية مثلاً إلى احتلال مناطق واسعة في شرق أوروبا أيّام الحرب العالمية الثانية)[14]. إلا أنّ إسرائيل تحاول تخطي هذا العائق من خلال الاستعاضة عنه بعوامل أخرى.
فمن ناحية أولى، تتوجّه إسرائيل إلى توسيع جمهورها خارج حدود المنطقة التي تحكمها، بداية من خلال محاولتها استقطاب سائر اليهود حول العالم عبر تسليع مفهوم “معاداة السامية” (وهو أمر يبدو أنها تفشل به اليوم بسبب موقف نقدي لقسم وازن من اليهود النقدي حيال سياساتها وعدوانها على غزّة)، وصولاً الى تكوين فئة مستحدثة من الجمهور الصهيوني، العابر للديانات: أكان الجمهور الصهيوني-المسيحي المتعصّب (بمعزل عن معاداته للسامية المُعلنة) أو الجمهور المنجذب إلى المشروع الصهيوني-الاستيطاني والمستعدّ تغيير دينه إلى اليهودية والانتقال للعيش في إسرائيل، على غرار ما يقوم به العديد من الأفريقان (المستوطنين البيض السابقين من أفريقيا الجنوبية). وقد وصل بها الأمر الى حد مغازلة الأحزاب اليمينية المتطرّفة (لا سيما في أوروبا)، والتي لم تتوانَ عن المشاركة في مظاهرات منددة بمعاداة السامية ظاهرياً (والداعمة لإسرائيل باطنياً)، بالرغم من مواقفها التاريخية المعادية لليهود. فبفعل تقاطع المصالح التقتْ إسرائيل مع أحزاب لا تلطّف خطابها إزاء معادتها للاجئين والعرب في “دول الغرب المتحضّرة”، فيما تستغّل تلك الأحزاب هذه الفرصة لتبييض تاريخها العدواني إزاء اليهود[15].
من ناحية أخرى، ووفق المنطق نفسه، تستفيد إسرائيل اليوم من آلية العمل في العلاقات الدولية في عالم ما بعد النيوليبيرالية. وهو أمر يعود بشكل أساسي إلى المفهوم المستجدّ للدولة ولدورها السياسي اليوم في ظلّ تغليب المصالح الخاصة والمتقاطعة وتحويل الدول لوسيطة لها على حساب المصلحة والحيّز العامين. وهو أمر قد يفسّر أيضاً الفجوة المتزايدة التي يتمّ التماسها بين الشعوب والحكّام حول العالم، لا سيما في دول الشمال السياسي. فمقابل المظاهرات الحاشدة المنددة بالعدوان الإسرائيلي على غزّة، حافظت حكومات هذه الدول على سياساتها الخارجية الداعمة لإسرائيل والتي تغلّب المصالح التجاريّة العابرة للقارات على حساب قيم حقوق الإنسان والعدالة والأخلاقيات السياسية التقليدية، وصولاً الى حد نسخ القطيعة الإسرائيلية مع مبدأ “التوافق القانوني” (consensus iuris) المذكور من خلال التعنّت بدعم إسرائيل رغم صدور محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني بترجيح ارتكابها إبادة جماعية. وقد وصل عدد من هذه الحكومات إلى حدّ الإعلان عن وقف تمويل مؤسسات أممية مثل UNRWA في غضون أقل من 24 ساعة من صدور قرار المحكمة الداعي لبذل كل جهد لوقف تدمير مقومات الحياة في غزة. وهو واقع يؤدي بنا الى التساؤل الجدّي حول مصير الديمقراطية التمثيلية اليوم أساساً. فهل هذا يؤشر الى بدء زوالها، على غرار ما شهدته من تحوّل الدول الأوروبية عشيّة الحرب العالمية الثانية وفق ما فنّدته آرنت نفسها[16]؟ وهل نحن إذ ذاك على مشارف عصر مستجدّ للأنظمة السياسية المتطرّفة (وحتى الشمولية) وسط نهوض التيّارات السياسية اليمينية المتطرّفة حول العالم، ولا سيما في أوروبا، ودعمها المستمر وغير المشروط لإسرائيل ولمشروعها الشمولي؟
[1] صفحة بيضاء.
[2] خطة وضعتها منظمة الهاجاناه الصهيونية في فلسطين بين خريف 1947 وربيع 1948 بهدف تأسيس دولة يهودية في فلسطين من خلال السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ضمن سياسة فرض الأمر الواقع.
[3] كلام منسوب للنائب الفرنسي-الإسرائيلي مائير حبيب (Meyer Habib).
[4] Yuval Evri, Hagar Kotef, “When Does a Native Become a Settler? (With Apologies to Zreik and Mamdani)”, Constellation Journal, Volume 29, Issue 1, March 2022.
[5] Ibid.
[6] قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل.
[7] Hannah Arendt, “The Origins of Totalitarianism” – The Totalitarian Movement in Part Three.
[8] Hannah Arendt, “The Life of Mind – Thinking – Willing”.
[9] Hannah Arendt, “The Origins of Totalitarianism”, Ideology and Terror in Part Three: Totalitarianism.
[10] قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل.
[11] H. Arendt, Ibid.
[12] “Just over 100 days after Oct. 7, enduring pain is a key reason why polls in Israel show consistently high support for its military offensive in Gaza, even as optimism over whether it can achieve its stated goals has started to erode.”, Estelle Shirbon, Reuters, 18 January 2024.
[13] H. Arendt, Ibid.
[14] Ibid.
[15] Alain Gresh & Sarra Grira, « Antisémitisme. L’extrême droite blanchie par son soutien à Israël », éditorial, Orient XXI, 19 décembre 2023.
[16] Samantha Hill, “Hannah Arendt would not qualify for the Hannah Arendt prize in Germany today”, The Guardian, 18 December 2023.