الدفن في زمن الكورونا: بين احترام حرمة الميّت وقلة الوعي المجتمعي


2020-04-14    |   

الدفن في زمن الكورونا: بين احترام حرمة الميّت وقلة الوعي المجتمعي

تواجه تونس على غرار جميع دول العالم تفشي جائحة فيروس كوفيد 19. ورغم تعزيز إجراءات الدولة للتصدي لهذا الوباء بضمان تجهيز المستشفيات وتأهيلها لاحتوائه وفرض الحجر الصحي الشامل مع التعويل على الوعي المجتمعي، ما انفك هذا الفيروس سريع الانتقال يحصد الأرواح. تضاعُفُ عدد ضحايا هذا الوباء في بلادنا قابلته هستيريا الخوف في صفوف بعض المواطنين من انتقال العدوى إليهم من جثث المصابين، وصلت إلى منعهم أعوان البلديات من دفن جثث المصابين بفيروس كورونا في المقابر المجاورة لهم، مثلما حصل في بلدية مجاز الباب.

 

تكرّرت حادثة اعتراض المواطنين على دفن جثث المصابين بفيروس كوفيد 19 في أماكن عديدة، حيث أقدم مجموعة من سكان ولاية بنزرت على ثلب الفريق المتعهد بدفن جثة مريضة الكورونا بمقبرة الجلاء ورشقهم بالحجارة، مما دفع الأمنيين بعد ساعات من محاولات فضّ الإشكال إلى استعمال الغاز المسيّل للدموع لتفريق الجمع، والسماح للفريق بإتمام إجراءات دفن المرأة. أما حادثة منطقة مجاز الباب بولاية باجة فقد حظيت باهتمام إعلامي كبير، حيث مكثت جثة الهالك مدة ثلاثة أيام في ثلاجة الموتى التابعة للمستشفى وذلك بعد تجمهر عدد من سكان المنطقة وتبليغهم السلطات المحلية رفضهم دفن جثمان مواطن مصاب بفيروس كوفيد 19 بتعلّة أنه ليس أصيل الجهة وأنّ جثته الحاملة للفيروس ستتسبب في نقل العدوى للسكان القاطنين بمحاذاة المقبرة، كما أنّها ستسبب لهم قلقا نفسيا (رغم أنّ القانون يمنع إحداث مقابر على بعد أقل من 200 متر عن التجمعات السكنية).

رئيس بلديّة مجاز الباب رضخ لإرادة المحتجين بعدما فشل في إقناعهم بأن دفن الجثة حسب التدابير العلمية الوقائية لا يسبب نقل العدوى. فبعد التشاور مع والي الجهة وبالتنسيق مع رئيس بلدية السلوقية، وافق هذا الأخير على دفن المتوفي في المقبرة التابعة لبلديته وذلك بعد قبول عائلة الضحية على مضض حتى لا تبقى الجثة دون دفن أكثر من ذلك رغم أنّ العائلة أرادت دفنه بمقبرة مجاز الباب تماشيا مع وصيّته.

 

البلدية هي المتدخل الرئيسي في عملية الدفن

تجدر الإشارة أولا إلى أنّ الفصل السادس من القانون عدد 12 المؤرخ في 25 فيفري 1997 المتعلق بالمقابر وأماكن الدفن ينص على أنّ المقابر تعتبر ملكا خاصا للجماعات المحليّة التي توجد في دائرتها الترابية. ويتم الدفن في المقابر بترخيص مسبق من رئيس الجماعة المحليّة المختص ترابيا وذلك بعد الاستظهار بشهادة طبيّة تثبت ساعة وتاريخ الوفاة وتفيد أنّ المرض المتسبب في الوفاة غير معدِ (تنظم مراسيم الوفاة والدفن بطريقة عادية مع امكانية نقل المتوفي إلى منزله إذا وقعت وفاته خارجه). أمّا بالنسبة للأمراض المعدية، فيتم نقل الجثة مباشرة من المستشفى أو من مكان الوفاة إلى المقبرة مثلما ينص على ذلك الفصل 12 من الأمر عدد 1326 لسنة 2007 المؤرخ في 7 جويلية 1997 المتعلق بكيفية إعداد القبور وضبط تراتيب الدفن وتراتيب إخراج الرفات أو الجثث. ولا يتم الدفن إلا بحضور المصالح الصحيّة المؤهلة لذلك، وهذا هو النظام المنطبق على دفن ضحايا فيروس كورونا خصوصا بعد صدور الأمر الحكومي عدد 152 لسنة 2020 المؤرخ في 13 مارس 2020 والقاضي بتكييف الإصابة بفيروس كورونا الجديد "كوفيد 19" من صنف الأمراض السارية المدرجة بالمرفق الملحق بالقانون عدد 71 لسنة 1992 المؤرخ في 27 جويلية 1992 المتعلق بالأمراض السارية كما تم تنقيحه بمقتضى القانون عدد 12-2007 المؤرخ في 12 فيفري 2007.

 

إجراءات خاصة بدفن ضحايا الكورونا

إنّ الدّفن هو النتيجة الحتمية للوفاة طالما وجدت الجثة، وهو الذي يحفظ كرامة جسد الشخص المتوفي سواء كانت الجثة حاملة لفيروس كوفيد 19 أم لا، وعلى السلطة العمومية تخصيص قبر لائق باسم الصحة العامة ومبادئ التعاون والتكافل والمساواة[1]، بما يتلاءم مع حفظ صحة الأحياء[2].، وأمام اعتراض المواطنين وخوفهم المبالغ فيه إزاء دفن جثث مرضى الكورونا، أكدت وزارة الصحة على أنّ عملية الدفن تخضع لإجراءات صحيّة خاصة وتدابير وقائيّة صارمة، بشكل يحمي من خطر انتقال العدوى.

كما أصدر وزير الشؤون المحلية المنشور عدد 8 بتاريخ 7 أفريل 2020 الذي يتضمن الإجراءات العمليّة لتراتيب نقل ودفن موتى فيروس كوفيد 19. وتبدأ هذه الإجراءات بإيواء الجثة في ثلاجة الأموات بالمستشفى الذي وقعت به الوفاة أو فضاءات أخرى معدّة للغرض (مثلا تم تجهيز غرفة متنقلة ومجهزة لإيواء جثث مرضى الكورونا تابعة لقسم الطب الشرعي بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس وذلك لفصلها عن باقي الجثث تجنبا لخطر العدوى).

وبعد إعداد الوثائق اللازمة لإثبات الوفاة ، يتولى فريق من أعوان البلديّة المكوّن في الغرض، نقل ودفن الجثة بعدما يتمّ وضعها في كيس معدّ خصيصا لجثث مرضى الكورونا يقع تعقيمه من الخارج بمحلول الكلور القوي بنسبة 0.5% مثلما أوصت به منظمة الصحة العالمية بالنسبة لفيروس إيبولا. ويحبذ إعادة وضع نفس الكيس في كيس ثان حسب الإمكانيات المتاحة لدى كل بلديّة وذلك وفق ما أوصى به الدكتور منصف حمدون رئيس قسم الطب الشرعي بالمستشفى الجامعي شارل نيكول بتونس. يتم وضع الكيس في تابوت يقع تعقيمه من طرف نفس الفريق وإغلاقه بإحكام وفي الحالة المثلى يكون تابوتا غير قابل للنفاذ مجهزا بنظام لتنقية الغازات.

كما يتم حسب نفس المنشور تأمين مراسم الدفن بحضور فرد أو فردين من عائلة الفقيد وذلك مراعاة لمشاعرهم وحرصا على أخذ الإحتياطات اللازمة لمنع العدوى، وممثل عن وزارة الشؤون الدينية وممثل عن المصالح الصحيّة المختصة مثلما تمّ التطرق له سالفا للإشراف على اتباع متطلبات الوقاية من تهيئة للقبر وإجراءات الدفن. وخلافا لما روج له البعض، يتم دفن موتى الكورونا في قبر بعمق ومساحة مماثلة للجثث السليمة: عرض 80 سم وطول 2 م وعمق يتراوح بين 1.5 م و2 م، وهي كافية للحماية من العدوى. وبعدما يتمّ وضع التابوت في القبر، يتم اغلاقه كسائر القبور. ثم يتخلص فريق الدفن من وسائل الحماية في نفس المكان ويتم حرقها وعدم نقلها أو التنقل بها لمكان آخر حتى لا تنقل العدوى وبالتالي تكون الجثة المدفونة غير معدية ويكون اعتراض المواطنين على دفن جثث مرضى فيروس كوفيد 19 غير مبرّر بتاتا، طالما تم الدفن وفق أسس علمية دقيقة، وصولا إلى منع بعض العادات والتقاليد التي تشكل خطرا كغسل الجثة ولمسها وتقبيلها.

 

الدفن: مآل الجثة الوحيد في تونس

للجثة مسار وحيد في تونس ألا وهو الدفن. إلا أنّ دولا أخرى تعاملت بشكل مغاير مع جثث الكورونا تجنبا لهستيريا الأوبئة التي يمكن أن تحلّ بالأفراد، ولخطر العدوى مثلما حصل في افريقيا مع فيروس ايبولا حيث حصلت خمس حالات عدوى أثناء الدفن حسب منظمة الصحة العالمية. لهذا ارتأت أغلبية الدول، وخاصة منها التي سجلت آلاف حالات الوفيات كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا اعتماد حرق جثث ضحايا الكورونا، مع الإلتزام بوضع معدات الحماية لعمال الحرق. فحرق الجثث يعدّ من الطرق الآمنة للتعامل مع الرفات البشرية، كما أنها لا تتطلب مساحة كبيرة للاحتفاظ بها وهي أقل تلويثا للبيئة. إلا أن هذه العملية تبقى محظورة في بلادنا لأسباب ثقافية ودينية، كما لازالت بعض الأقليات كالبهائيين، وبصفة عامة غير الراغبين في دفن جثثهم بالطريقة الاسلامية غير أحرار في اختيار مآل جثامينهم، بل وسبق أن واجهت محاولة دفن بعضهم في المقابر العمومية اعتراضا من متشددين دينيين، على اعتبار أنها مقابر للمسلمين.

تعيش المجتمعات التي اجتاحها وباء كورونا حالة غير مسبوقة من الذعر والهلع. هذه الأزمة سببت موجة من التضامن أثمرت مبادرات عديدة من نشطاء وطلبة ومجتمع مدني، ولكنها عرّت في نفس الوقت أنانية بعض الأفراد وانحدارا أخلاقيا في التعامل مع مرضى هذا الفيروس ومع جثث المتوفين بسببه. فليس من حق أي شخص أن يرفض تركيز مكان لعزل المرضى بمدينته أو دفن جثة مصاب بمقبرة حيّه حتى لو كان من غير سكانه. كما كشفت الجائحة عن شعبوية بعض الممثلين المنتخبين محليا، كما حصل في مجاز الباب أو في سكرة (ولاية أريانة)، بعد اقتراح رئيسة البلديّة إحداث مقبرة خاصة بجثث المتوفين بسبب الكورونا.

إن مجابهة أزمة الكورونا مسؤولية جماعيّة، سواء داخل المجتمع الواحد أو حتى بين الدول، ولن تزيد استراتيجيات الخلاص الفردي وممارسات الوصم الاجتماعي للضحايا الأزمة إلا تعقيدا.

 


[1] CE, 5 décembre 1997, Commune de Bachy c/ Mme Saluden- Laniel, Rec. P.463, AJDA , 1998, 258, concl. PIVETEAU.

[2] Bruneau  Py, La mort et le droit, Que sais-je ?, N° 3339, décembre 1997, P.112.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني