الدفاع المدني يستغيث: نقص في آليات الإغاثة… ومجازر البقاع تشهد على ذلك


2024-10-21    |   

الدفاع المدني يستغيث: نقص في آليات الإغاثة… ومجازر البقاع تشهد على ذلك
مجزرة عين الدلب

من العين، إلى زبّود، والنبي عثمان، ومنها إلى يونين، وشعث، والكرك، وغيرها من القرى في محافظتَي البقاع وبعلبك الهرمل، يعلو صوتُ الغارات الإسرائيلية، ويخفُتُ صوت نداءات الإغاثة. فالمنطقة المنسيّة في حسابات الدولة، متروكةٌ من قبل الجهات الرسمية مع أبنائها لتصارع وحدها حتى الموت. وعلى ما يبدو أنّ الخطة الوطنية للطوارئ لم تعتبرها من الأولويّات، حيث لم تجهّز مراكز الدفاع المدنيّ بالآليّات اللازمة لعمليات الإغاثة في المحافظتين، واكتفت “بكلام على الورق” يَصعُب تحقيقه في الواقع. وإن كان الوضع أفضل قليلًا في قرى الجنوب، إلّا أنّ المعاناة موجودة لجهة النّقص في الآليات. فنجِدُ أنفسنا أمام خطة تفتقر للتخطيط، لم تلحظ آليات للإغاثة رغم هول العدوان.

وتهدف خطة الطوارئ الوطنية إلى “حماية اللبنانيين واللبنانيات من تداعيات عدوان إسرائيلي واسع، وإلى تأمين مستلزماتهم وإغاثتهم في حالة حصول تهجير قسري واسع من ديارهم إلى أماكن أكثر أمانًا في لبنان، تنسّق وتتابع مكوّناتها وأقسامها اللجنة الوطنية لتنسيق مواجهة الكوارث والأزمات الوطنية لدى رئاسة مجلس الوزراء، بالتنسيق مع وزير البيئة ناصر ياسين”. وتضمّنت الخطة تعليمات التصرّف الدائمة لوحدات قسم الاستجابة الميدانية خلال إدارة الكوارث، أي تقسيم القطاعات بحسب الجهاز المسؤول بشكل مباشر، وذكر الأجهزة المساندة التي يجب التنسيق معها، وفي ما يتعلّق بإدارة الإغاثة، فإنّ الأجهزة المساندة هي الصليب الأحمر، والدفاع المدني، وفوج الإطفاء، بالإضافة إلى هيئات عامّة أو خاصّة.

وفي تقييم لخطّة الطوارئ، لحظت “المفكرة القانونية” “تهميش دور الجهازين المختصّين في الحماية المدنية، وهما الهيئة الوطنية للإغاثة والدفاع المدني. وليس أكثر دلالة على ذلك من أنّ الدفاع المدني ورد ذكره في الخطة ليس كشريك أساسي في وضع الخطة ولا في تنفيذها إنّما فقط كمرفق عام يتوجّب ضمان استمراريته، وتحديدًا لجهة ضمان المحروقات اللازمة لتشغيل سياراته. كما لم يردْ في الخطة أيّ ذكر لاحتياجات تجهيز مراكز الدفاع المدني في المناطق التي قد تطالها الحرب لتمكينه من القيام بدوره في الإسعاف والإنقاذ. كما لم يرد أي ذكر لمعدّات وتجهيزات الإنقاذ الواجب توفيرها لرفع الأنقاض رغم ما شهدناه من تدمير واسع للمباني في غزة، وهذا ما ترك أثرًا هامًا تبعًا للغارات في البقاع”.

المفارقة أنّه خلال وضع خطّة الطوارئ طُلِب من المديرية العامّة للدفاع المدني تحديد احتياجاتها، وردّت الجهات المسؤولة فيها بلوائح تتضمّن الاحتياجات. وبحسب رئيس قسم التدريب في الدفاع المدني، نبيل صالحاني، فإنّه “لغاية الآن (تاريخ نشر هذا المقال) لم تتمّ تلبية جميع احتياجاتنا ولم نتلقَّ أيّ مبالغ من المساعدات المالية التي طلبتها الدولة من الخارج، على ما يبدو أنّ هناك أولويات أخرى. ولكن في المقابل تمّ تأمين بعض الأساسيات ومنها الصّيانة، وبعض التجهيزات بمساعدات من جهات محلية”. والجدير بالذّكر أنّه رغم قيام مراكز الدفاع المدني في البقاع وبعلبك بمهامها، فإنّ عمليات الإغاثة تواجه صعوبات، فآليات الإنقاذ غير متوفّرة في محافظة بعلبك ويتم ّالاعتماد على البلديات أو ممتلكات خاصّة.

تحدّي الإغاثة في مجزرة زبّود: 17 شهيدًا

“بوّسوني وودّعوني قبل ما روح عالشّغل. كانوا خايفين عليي، بس أنا اللّي كان لازم خاف عليهن”، يقول حسين القاضي الذي يبكي عائلته متسلّحًا بالصّبر والإيمان. فقد حسين القاضي 17 فردًا من عائلته في لمح البصر في غارة إسرائيلية على قرية زبّود في قضاء بعلبك. فقد الأمّ، فقد الحبيبة، فقد أخواته، وأخوته السّند وزوجاتهم وأطفالهم الأقمار السبعة، ولم يبقَ لهُ سوى كتف أبيه. “وحيدان نحن ننتظر النّصر” يعلّق حسين، رغم يقينه هو وأبيه أنّه لا مكان آمنًا بعد مجزرة زبّود. “لقد توقّعنا أن يكون منزلنا آمنًا، ولكنّهم قصفوه، فأين سنجد الأمان إذًا؟ الآن لا أمان أبدًا في أيّ مكان”. حسين الّذي انتقل مع كلّ أفراد عائلته إلى منزل أخيه ضمن القرية نفسها ظنًا منهم أنّه “آمن”، تلقّى خبر وقوع الغارة على المنزل عند الساعة 11:10 من ظهر يوم الأحد 29 أيلول 2024: “اتّصلت بوالدتي، بخطيبتي، بأخوَتي… ولم ألقَ ردًا، إلى أن أبلغني أبي الخبر “عظّم الله أجرك يا حبيبي راحوا الغوالي”. لم يحتمل حسين هول الفاجعة، فقد وعيه، ثمّ عضّ على وجعه غصبًا وتوجّه إلى القرية. مشهد الوداع والأحضان الذي رآه في الصباح مغاير عن المشهد الذي يراه أمامه. خرابٌ وأشلاء. ورائحة الموت تملأ المكان. كان هذا هو الوداع الأخير.

شهداء مجزرة زبود

حسين كان بانتظار أن يزفّ خطيبته جُهينة عروسًا، فزفّها شهيدةً قبل 11 يومًا من موعد الزفاف المحدّد. “خطيبتي كانت تصبّرني وفجأة راح كل شي، كل تعبنا اللّي بنيناه، كل الذكريات الحلوة”، يقول حسين، مستذكرًا جُهينة صاحبة الضحكة التي لا يخفت وهجها، التي كان يشعر أنّه قويّ بوجودها معه، ويُعيد الجملة التي لطالما ردّدتها على مسمعه “الله ما بيترك حدا”. وأمام فقدان الأم يقف حسين حائرًا، يتنفّس ويخرج الهواء من صدره علّه يزيل معه كمّ القهر الذي يسكنهُ. “بأيّ كلام أرثي والدتي؟” يتساءل وكأنّ كلّ الكلمات لم يعد لها معنى، ويُكمل “كلّ ما أقوله عن والدتي لا يمكن أن يفيها حقّها. أقف عاجزًا عن وصف ما أشعر به. بالنّهاية هيدي إمّ. نحنا بحرب مع عدوّ ما بيعرف لا طفل، لا إمّ، لا عروس، ولا أي شي”. فقد حسين جمعة الأحبّاء، وأخوته ومزاحهم والضّحكات، توقفه الغصّة للحظة ويعبّر “أكتر شي رح إفقدلو إنّو نرجع نقعد تحت الشجرة كلّنا مش بس لحالي”.

حسين القاضي وخطيبته الشهيدة جهينة

الغارة الإسرائيلية على زبّود هي واحدة من 914 غارة على منطقة البقاع (من 23 أيلول لغاية 21 تشرين الأوّل ظهرًا) وخير مثال على النقص في الآليات الذي تعاني منه فرق الإغاثة. لا يغضّ حسين النّظر عن أهمية توفّر آلات ومعدات لتسهيل عمليات الإغاثة في مثل هذه الحالة، وبحسب مصدر في بلدية زبّود، فإنّ شخصين أو ثلاثة من عناصر الدفاع المدني التابعين للهيئة الصحية الإسلامية توافدوا إلى المكان، ومعهم آلة تضمّ مناشير ومقصّات كهربائية بدون أي آلية لرفع الأنقاض، إضافة إلى فرق الصليب الأحمر، وانضمّ إليهم عدد من سكان القرية المحليّين الذين شاركوا في عمليات الإغاثة باستخدام أياديهم ثمّ قام عدد منهم باستئجار “بوكلين” Poclain وجرّافة من خارج القرية للمساعدة في رفع الأنقاض وانتشال الجثث. هؤلاء ليسوا ذوي اختصاص، هم أشخاص غير مدرّبين أو مهيّئين نفسيًا لمشاهدة الموت أمام أعينهم، بخاصّة وأنّ الغارة تركت وراءها أشلاء أكثر منها جثامين، وبالتالي قد يحتاجون إلى سنوات لينسوا ما رأته أعينهم، وهو ما يؤكّده لنا المصدر قائلًا: “بقيوا أيام بدون أكل ولا شرب وبحالة صدمة، شافوا الأشلاء بأمّ العين وحملوها بين إيديهن، كيف ممكن ينسوا؟”.

كلّ هذا هو نتيجة أنّ القرى الصغيرة والنائية الموجودة في منطقة شمال بعلبك، غير مجهّزة بالآليات والمعدّات اللازمة، وبحسب المصدر دائمًا، فإنّ قرية زبّود على سبيل المثال ليس فيها رفش ولا حفّارة “بوكلين” ولا جرّافة “بوبكات” ولا آلية خاصّة، والحال هو نفسه في باقي القرى الصغيرة، لافتًا إلى أنّه عادة لا أحد يتوجّه إلى تلك البلدات. لذلك فإنّ أيّ عملية إنقاذ تمتدّ لساعات، وليس من السّهل على الناس في أوقات الحرب أن يستخدموا آلياتهم، من رفش وجرافات، وغيرها، ويتوجّهوا نحو المكان لفتح الطريق. وبالتالي، فإنّ قرى منطقة شمال بعلبك هي بأمسّ الحاجة لآليات وأفراد متخصّصين.

الحاجة إلى توفّر معدات وآليات إنقاذ ليست وليدة اللّحظة، فبحسب المصدر نفسه من بلدية زبّود، سعت البلديات على مدى 15 عامًا إلى التواصل مع الجهات المعنية في الدولة من أجل تزويدهم بالآليات، ولكن “لا حياة لمن تنادي”، وإنْ كان بإمكان البلديات سابقًا أن تتحمّل نفقة شراء آلية، فهي كانت مكبّلة بالأنظمة والقوانين التي تفرض عليها إجراءات معقدة تتطلّب أشهرًا من العمل. وبالنّظر إلى الخطة الحالية التي وضعتها لجنة الطوارئ، يعلّق المصدر بالقول “الدولة لاحظت آليات الإنقاذ في خطّتها، ولكن على الورق فقط لا أكثر، حيث يُذكر في الخطة توفّر رفش على سبيل المثال، وهي معدّات خاصّة تعود ملكيتها لبعض الأفراد، ولكن في الواقع وعندما بدأت الحرب نجد أّنّ لا أحد يتحرّك من هؤلاء، وقلّة هم من يقودون الآلية خاصتهم ويتوجّهون نحو مكان وقوع الغارة للمساعدة”.

جوليا وحكاية “أمل وألم” من تحت الأنقاض

 لم تكن الشابة جوليا رمضان تعلم وهي تحاول تأمين مساعدات لإحدى العائلات، أنّها ستُصبح هي من تحتاج إلى المساعدة، ولكن لانتشالها من تحت الأنقاض. فمع اشتداد العدوان الإسرائيليّ، قرّرت جوليا أن تنخرط في مساعدة النازحين، فكانت ما أن تنهي عملها في بيروت  حتى تقصد منزل عائلتها في قرية عين الدلب شرقي صيدا، لتبقى بالقرب منهم لاستكمال توزيع الوجبات الساخنة والمساعدات العينية على النازحين من مختلف القرى بمساعدة مجموعة من الأصدقاء. “ما بدّي ضلّ لحالي والوضع خطير، بدّي كون معكن وساعد قد ما بقدر”، هذا باختصار كان قرار جوليا، الشابة التي تبلغ من العمر 28 عامًا، ابنة قرية بلاط في قضاء مرجعيون، الحائزة على شهادتين، الأولى في مجال العلاقات العامة والثانية في الطب النفسي، وكانت تستعدّ لمتابعة الماجستير في مجال العلاقات العامة. لكّن إسرائيل قتلتها، قبل أن تُزهِر أحلامها، فالصواريخ الإسرائيليّة تجد طريقها دائمًا لطمس أيّ حُلم.

مساء يوم الأحد 29 أيلول 2024، وأثناء وجود جوليا في غرفة الجلوس مع والدها ووالدتها وشقيقها أشرف، قرّرت إسرائيل أن تضرب ضربتها القاضية مستهدفة المبنى الذي يسكنون فيه. في أقلّ من دقيقتين، عاش سكّان المبنى لحظات كأنّها ساعات من الرّعب بين سقوط الصاروخ الأوّل وسقوط المبنى. ضربة قوية جدًا، ثمّ عصف غبار قويّ، ثمّ العتمة. “بعد سماع صوت الصاروخ الأوّل لم أتوقّع أبدًا أن يكن المبنى الذي نسكنه هو المستهدف”، يقول أشرف، شقيق جوليا، في اتصال مع “المفكرة”. “لم أعلم أين أصبحت! شاهدت موتنا ولحظة وقوع المبنى ببطء شديد، وفجأة وجدت نفسي بين الركام. كلّ ذلك حصل في أقلّ من دقيقتين!”.  إنّها المجزرة في عين الدلب.

حاول أشرف أن يحرّك رجليه ليتأكّد أنّه يشعر بهما. هاتفه لا زال بين يديه. اتّصل بجوليا ولكن لا جواب. استنجد بأصدقائه من خلال رسائل صوتية بعثها لهم عبر هاتفه. رسم لهم خريطة صوريّة باستخدام صوته ليصف لهم مكان تواجده، حتى تمكّنوا من إنقاذه بعد مرور ما يقارب ساعتين إلى ثلاث ساعات “كنت أعلم أنّني بخير وكان لديّ شعور قويّ بأنّني لن أموت وسأخرج من تحت الرّكام سالمًا. سمعت أصوات معدّات ثقيلة، جرافات وغيرها، وعدّة محاولات للحفر، إلى أن رأيت عامل إغاثة يتقدّم نزولًا نحوي باستخدام حبل طويل. رأيتُ النور من جديد”. نجا أشرف ليُدرك لاحقًا أنّ أمّه التي تمّ إنقاذها أوّلًا قد تعرّضت لإصابة بليغة في الطحال، ورغم نقلها إلى المستشفى إلّا أنّها فارقت الحياة سريعًا نتيجة تعرّضها لنزيف داخليّ حادّ، ولكنّ والده خرج سالمًا. أمّا جوليا الذي كان بانتظار خروجها ليُكملا معًا رحلة المساعدات التي بدآها، فرَحلت بعدما لفظت أنفاسها الأخيرة تحت الأنقاض. كلّ محاولات تزويدها بالأوكسيجن والماء لم تنفع لإنقاذها، انتُشِلَت جثّة هامدة ورقدت إلى جانب والدتها.

الشهيدة جوليا رمضان وشقيقها أشرف رمضان

“مشاهد الإنقاذ جميعها كانت عبارة عن ألم وأمل”، تقول الصحافية ريتاج زكنون، التي شهدت على عمليات الإغاثة ورأت عددًا كبيرًا من فرق الصليب الأحمر وغيرها من الهيئات الصحية حاضرة في المكان. ألم مع كلّ مشهد لانتشال جثث وأشلاء، وأمل ترافق مع صرخات الاحتفال عند التمكّن من إنقاذ أيّ فرد لا زال على قيد الحياة. “ولكنّ سماع صوت أحد يستنجد من تحت الرّكام لا يعني بالضّرورة أنّه سيخرج حيًا، فعمليّات الإغاثة تحتاج لساعات طِوال”. ولجوليا في رحلة الإنقاذ قصّة أشبه بالخيال، تقول ريتاج “انتظرنا طويلًا على أمل أن تعود لنا. أخبرونا أنّ والدها قد سمع صوتها وتحدّث إليها وهو تحت الأنقاض، ولكن على ما يبدو أنّها لم تتمكّن من المقاومة أكثر لصعوبة الوصول إلى مكانها، فاستسلمت للموت”.

الدفاع المدني اللبناني كان حاضرًا منذ لحظة وقوع مجزرة عين الدلب، بإمكانيّاته المحدودة التي لم تسعَ الدولة إلى تطويرها، وعملت فرقه بالتعاون مع أفواج الإطفاء الفلسطينية التي بحوزتها عدة بحث وإنقاذ، ومع الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلامية، وكشافة الرسالة، وفرقة من الصليب الأحمر اللبناني أتت خصيصًا من بيروت مع عدة البحث والإنقاذ الخاصة بها. وأمام مشهد الدّمار الكبير وجد الدفاع المدني نفسه مقيّدًا “أولًا لعدم امتلاكه آليات إنقاذ من شأنها أن تسهّل وتُسرّع من عمليات الإغاثة، وثانيًا لعدم تمكّن الفرق في بيروت من مساعدتهم بسبب انشغالهم في الغارات على الضاحية الجنوبية وتهديد إسرائيل لفرق الإنقاذ ممّا يُصعّب من تنقّلهم”، بحسب أحد المتطوّعين المشاركين في عمليات الإغاثة على الأرض. ويضيف المتطوّع “لدى الدفاع المدني نقص كبير بالمعدّات، عم نحاول نجمّع من هون وهون. نحن تخطّينا العمل باللّحم الحيّ ووصلنا للعضم”. آليات الإنقاذ الثقيلة الوحيدة التي كانت موجودة هي عبارة عن ثلاث جرافات خاصة، إحداها تعود ملكيّتها لبلدية صيدا، ولم تحضر الجرافات على الفور رغم الحاجة الملحّة لها، وهذا ما يؤكّده المتطوّع، لافتًا إلى أهمّية هذه الآليّات لما لها من دور في تسهيل عمليات الإغاثة وإنقاذ أرواح من هم تحت الرّكام. الجهد الشخصي والاستمرار بالقيام بالواجب الإنساني حتى الرّمق الأخير هو كلّ ما يمتلكه العاملون في الدفاع المدني اللّبناني.  

آليات الإنقاذ غير متوفّرة لدى الدفاع المدني في محافظة بعلبك

منسّق العمل في مستوصف النجدة الشعبية في صيدا، نبيل سعودي، يقول في اتصال مع “المفكرة” إنّ كل فرق الإغاثة والجمعيات كانت موجودة على الأرض وهي حاضرة دائمًا عند وقوع أي غارة، لافتًا إلى أنّ “أمام الدّمار الهائل نحن بحاجة إلى إمكانيات الدولة، فالمساعدات من قبل الجمعيات ومن الخارج هي غير كافية لتأمين آليات الإغاثة اللازمة، على الدولة أن تتدخّل بشكل فعليّ لتغذية النواقص”. وعن فريق الإغاثة الخاص بالنجدة الشعبية يقول: “لدينا فريق يضمّ شبابًا مدرّبين وخضعوا سابقًا لدورات إسعافات أولية في مستشفى النجدة في النبطية، ولكن ينقصنا الآليات والأدوات، فنحن نعتمد عادة على التبرعات والمساعدات من منظمات دولية ومتبرّعين محليين. الطاقم البشري موجود وجاهز”. ويزداد الوضع سوءًا في قرى محافظة النبطية، فيوضح سعودي أنّ عمليات الإنقاذ هناك صعبة جدًا نظرًا إلى أنّ الإمكانيات محدودة ولا يوجد ما يكفي من سيارات الإسعاف وما يكفي من آليات للتعامل مع حجم الدمار الهائل الذي يحدث. وهذا ما يؤكّده عضو بلدية إبل السقي، الياس اللقيس، فبعد وقوع إحدى الغارات على القرية، حضرت فرق الصليب الأحمر على الفور، وكذلك فرق من الهيئة الصحية الإسلامية، إضافة إلى عدد كبير من شبان القرية الذين تطوّعوا للمساعدة في عمليات البحث وأنقذوا حينها كاهن الرّعية وعائلته من تحت الرّدم مستخدمين أياديهم (قتلت في الغارة عائلة نازحة من كفركلا هما عباس محمد جهجاه وزوجته وابنهما الرضيع). ورغم أنّ الفِرق التي عملت على الإغاثة قامت بواجبها إلى أبعد الحدود، بحسب اللّقيس، ولم تتوان عن تقديم المساعدة والقيام بواجبها رغم خطر تكرار الغارات في أيّ لحظة، لكن كان هناك نقص لجهة وجود آليات متطوّرة، لافتًا إلى أنّ “هذا الأمر لا ينحصر في المنطقة على وجه الخصوص بل يطال كلّ لبنان”.

مشاهد الإنقاذ جميعها كانت عبارة عن ألم وأمل

عمليات الإنقاذ مباشرة بعد مجزرة عين الدلب

الدفاع المدني اللبناني والإغاثة باللحم الحيّ

عند وقوع غارة يتمّ التنسيق بين مركز الدفاع المدني اللبناني الأقرب إلى الموقع المستهدف وثكنة الجيش اللبناني في المنطقة. وعند تلقي الإشارة من الجيش بإمكانية التوجّه لتنفيذ المهام المطلوبة، تنطلق آليات الإطفاء والإسعاف والفرق المتخصّصة بالبحث والإنقاذ لتباشر على الفور بإنجاز المهام الموكلة إليها. وتقوم فرق الدفاع المدني بالدرجة الأولى بمهام الإطفاء توازيًا مع تنفيذ مهام البحث والإنقاذ والمسح الميداني الشامل. أما بالنسبة إلى فرز الإصابات ونقلها إلى المستشفيات فهذه مهمّة الأجهزة الإسعافية الأخرى كالصليب الأحمر، مع الإشارة إلى أنّ عناصر الدفاع المدني يعملون أيضًا على نقل المصابين وجثامين الشهداء إلى المستشفيات إذا ما دعت الحاجة. 

ولكنّ العتاد الذي يملكه الدفاع المدني اللبناني ليس كافيًا، فعمليات الإغاثة تحصل باللحم الحيّ في معظم الأحيان، بخاصّة في قرى البقاع. وهذا الأمر ليس بجديد، ويعود إلى مقدّمة المشهد الإغاثي عند كلّ أزمة، فكيف إذا كان لبنان في حرب مع الاحتلال، “حيث بات معلومًا لدى جميع أجهزة الدولة أنّ العتاد الأساسي الذي ينقص عناصر الدفاع المدني وينبغي توفّره لتمكينهم من تنفيذ مهامهم بفعالية وأمان في ظلّ العدوان الإسرائيلي هو عتاد الحماية الشخصية المؤلف من الخوذة والسترة الواقية”، بحسب مصدر من الدفاع المدني لـ “المفكرة”. أما بالنسبة إلى الآليات فهي بمعظمها قديمة العهد وقد مضى على وضعها في الخدمة أكثر من 24 عامًا، وتحتاج إلى صيانة دائمة نظرًا للاستعمال اليومي والازدياد الهائل في عدد المهمات اليومية التي تتخطى في بعض الأحيان 300 مهمّة، ومن ضمنها مهمّات نقل المياه إلى مراكز إيواء النازحين في مختلف المناطق اللبنانية، حيث تمّ توزيع أكثر من 8 ملايين لتر من المياه منذ بدء النزوح لغاية 8 تشرين الأول 2024. ويضيف المصدر: “ناهيك عن النقص الحاد في مادة السائل الرغوي foam وهي مادة أساسية للتمكّن من إخماد الحرائق في الأماكن المغلقة، كما أنّ الخراطيم أيضًا باتت بمعظمها تالفة ومهترئة وتحتاج إلى تبديل”، الحاجات كبيرة ومتعددة، وحدها عزيمة وإصرار عناصر الدفاع المدني يعوّضان هذا النقص.

اللّافت أنّ الدّفاع المدني كان قد رفع مؤخّرًا تقريرًا مفصّلًا إلى وزارة الداخلية والبلديات حول الاحتياجات الملحّة لجهة العتاد والآليات، وبحسب المصدر، فإنّ وزير الداخلية والبلديات القاضي بسام المولوي قد سعى من أجل تأمين الاعتمادات المالية المطلوبة للتمكّن من تصليح بعض الآليات، إضافة إلى تأمين الحاجات الأساسية كالأعتدة الواقية الضرورية لحماية العناصر عند التعرّض للقصف (الخوذ والسترات) ومادة الـ foam والخراطيم بالرّغم من الأزمة المالية الموجودة. وعلّق بالقول “لكننا نعلم جميعًا أننا لا زلنا نرزح تحت وطأة الأزمة المالية التي أرخت بثقلها على وطننا”، وهذا بدوره يؤكّد صعوبة الحصول على آليات حديثة الصنع، “فهذا مشروع يتطلّب ميزانية ضخمة جدًا يصعب على الدولة تأمينها وسط الظروف الراهنة”، بحسب المصدر. 

ورغم أنّ المراكز المنتشرة في محافظتي البقاع وبعلبك تقوم بالمهام الموكلة إليها أسوة بغيرها من المراكز المنتشرة على كافة الأراضي اللبنانية، إلّا أنّ عمليات الإغاثة تتّسم بالصّعوبة وأحيانًا بالاستحالة، فبعض عمليات البحث والإنقاذ تتطلّب وقتًا أكثر من غيرها إذ إن عملية رفع الأنقاض بحثًا عن المفقودين هي مسألة في غاية الدقة وينبغي تنفيذها بحذر شديد حفاظًا على سلامة المفقودين على أمل العثور عليهم أحياء. وممّا يزيد الوضع سوءًا أنّه مع وجود 18 مركزًا للدفاع المدني في محافظة بعلبك، إلّا أنّ آليات الإنقاذ غير متوفّرة في تلك المحافظة وتتمّ الاستعانة بالبلديات أو بجرافات خاصّة عند تنفيذ هذا النوع من المهام، مع الإشارة إلى أنّ هذا القطاع يحتوي على 16 آلية إطفاء.

وبحسب مصدر شارك في عمليات الإنقاذ، يختلف الحال بين بعلبك المدينة، وبعلبك الهرمل، ففي بعلبك المدينة أكثر من شخص (أي آليات خاصّة) يمتلكون جرافات “بوكلين” و”بوبكات” بالتالي كانت الأمور هناك أسهل منها في مناطق أخرى. أما في بعلبك الهرمل فتقع المسؤولية على عاتق السكان ممّن يملكون مثل هذه الآليات فتتحرّك، أو يتم الإستعانة بها، عند حصول غارة بعد إمكانية الوصول إليها. وفي بعض قرى القضاء تحتاج فرق الإغاثة إلى مدّة تتراوح ما بين 15 إلى 20 دقيقة كي تصل إلى مكان وقوع الغارة، بخاصّة في القرى النائية. مثال على ذلك مجزرتين وقعتا في العين، الأولى بين العين والنبي عثمان، سقط فيها 10 ضحايا سوريين من آل الشعار، وأخرى في الحي الغربي في العين، سقط فيها 8 شهداء و5 جرحى، إضافة إلى مجزرتين في قرية شعت استمرّ انتشال الجثث فيهما حتى اليوم التالي لصعوبة عمليات البحث والإغاثة.

أما في مجزرة زبّود التي تعتبر قرية نائية كما ذكرنا سابقًا، تمّ بداية انتشال 11 شهيدًا، وانتهت عمليات البحث والتجريف في ساعات المساء، لكن الفرق الموجودة اضطرّت أن تنتظر مدة أطول لإكمال عمليات الإغاثة حتى وصول “بوكلين” خاصة من مكان آخر لاستخدامها وانتشال جثث الضحايا الستّة المتبقين، لعدم توفّر آليات إنقاذ لدى الدفاع المدني اللبناني في محافظة بعلبك. وقد تواجد على الأرض أفراد من الصليب الأحمر والهيئة الصحية، حوالي 14 من الصليب الأحمر، يوازيهم العدد نفسه تقريبًا من الهيئة الصحية، لكنّ الأمر الذي زاد من صعوبة العمليات كان وقوع غارة عنيفة في الوقت نفسه على قرية حلبتا التي سقط فيها 5 شهداء مباشرة جرّاء قوّة الصاروخ. تفتّت المنزل على إثره وسُوّيَ بالأرض، ما أجبر الفرق على التوجّه فورًا من زبّود نحو حلبتا لانتشال الشهداء، فانقسمت سيارات الإسعاف والفرق إلى قسمين، القسم الأول المؤلف من سيارتين في زبّود، والقسم الثاني المؤلف أيضًا من سيارتَي إسعاف في حلبتا.

مركز الصليب الأحمر الأقرب إلى قرية زبّود هو مركز في الجديدة بالقرب من رأس بعلبك، لذا احتاجت فرق الإسعاف إلى ما حوالي 15 دقيقة لتتمكن من الوصول إلى هناك. يضاف إلى ذلك مدة “مسافة الأمان”  التي تتّبعها الفرق تماشيًا مع البروتوكول الذي يعمل وفقه الصليب الأحمر اللبناني، إذ تُعتمد تفاديًا لإمكانية وقوع غارة ثانية في المكان نفسه بعد دقائق. ويقدّم هنا المصدر الذي يشارك في عمليات الإغاثة في المنطقة مثالًا على ذلك في منطقة الهرمل، حيث أغار العدوّ الإسرائيلي على أحد المنازل فاضطرّت الفرق للانتظار مدّة 5 دقائق قبل التوجّه إلى المكان، ويتابع “في طريقنا إلى هناك وقبل وصولنا بدقائق قليلة تعرّض المنزل نفسه لغارة ثانية”. “مسافة الأمان” بحسب علم الإسعاف تتراوح بين 10 دقائق و15 دقيقة، ولكن هذا البروتوكول لا يُطبّق بحذافيره دائمًا، فالمكان يلعب دورًا مهمًّا في هذه الحالة. 

في جنوب لبنان مثلًا يقوم الصليب الأحمر اللبناني، عبر الجيش اللبناني، بإبلاغ قوّات حفظ السلام (اليونيفيل) قبل تحرّكه نحو مكان وقوع الغارة على أن تقوم بدورها بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي والحصول على الموافقة منه بما يضمن الحماية للفرق. أما مناطق البقاع وبعلبك فهي ليست ضمن نطاق عمل اليونيفيل، وبالتالي تُجبر الفرق على اعتماد طريقة مسافة الأمان واعتماد أساليب الحماية، منها إرسال سيارتَي إسعاف بدل الواحدة إلى مكان الغارة مع أعلام الصليب الأحمر مرفوعة ليبدو واضحًا أنّها سيارات إسعاف وليست سيارات عسكرية.

الركام في موقع مجزرة زبّود
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني