عناصر الدفاع المدني اللبنانيّ في تشييع زملائهم - مركز فرون
قببّل استشهاده بدقائق قليلة، كان عنصر الدفاع المدني العملاني عبّاس حمّود مثقلًا بجراحه، يحاول مقاومة شبح الموت، وإلى جانبه جسدي زميليه قاسم بزّي ومحمّد هاشم، وقد استشهدا بغارة إسرائيليّة للتو. سمع الشهيد حمّود صوت زميله، الجريح محمّد عماشة، يئنّ طالبا الماء لشدة ظمأه، فغالب عباس أوجاعه وشدة إصابته، وقذف له قارورة مياهه. كان تقديم الماء لمحمد، رفيق دربه وعمله، آخر فعل يختم به حياته المعطاءة.
في مستشفى تبنين، لا تكفّ والدة الجريح عماشة عن تكرار القصة لمن تصادفه ” سقى الشهيد عباس إبني محمد ثم استشهد، وبهذا الماء، ارتوى محمد وصمد حتى عاش”، تقول والدة الجريح محمد عماشة، وهي تنعى الشهيد حمّود. وفيما ابنها الجريح يرقد في العناية الفائقة في مستشفى مثقلًا بجراح إصابته الخطيرة، تسرّ الحاجّة الجنوبيّة لمن قربها: “قلبي والع ع الشهدا”. شهداء الدفاع المدني أنفسهم الذين أخبر محمد، رفيقهم الجريح، عن لحظاتهم الأخيرة لوالدته.
حصل كل هذا عصر السبت الماضي، حين أغارت مسيّّرة إسرائيليّة على فريق الدفاع المدنيّ اللبنانيّ بعد انتهاء عناصره من مهمّة إطفاء حريق اشتعل في كرم زيتون خاص في بلدة فرون، قضاء بنت جبيل، جنوبي لبنان. وقد أصيب صاحب كرم الزيتون حسن شحادة في القصف.
ويعدّ الاستهداف الإسرائيلي نهاية الأسبوع الأول من نوعه ضدّ طواقم إسعاف ودفاع مدنيّ خارج المنطقة الحدوديّة المتاخمة لفلسطين المحتلة. ويوم أمس الإثنين، شيّعت القرى أبناءها الشهداء، واحتشد أهلها لوداعهم. تزاحمت الهتافات، وسيطرت مشاعر الحزن على الوجوه، وقد مشى الجميع، من كلّ الأعمار، نساء ورجالًا، طريق التشييع الكبير.
رافقت “المفكّرة” الناس، من منازل أهالي الشهداء، إلى موكب الجنازات التي تفرّقت بعد أن اجتمعت، حاملة كلّ شهيد إلى قريته، ثمّ إلى مركز الدفاع المدني في فرون، حيث سيلقي الزملاء تحية حزينة وغاضبة يودعون رفاقهم ببدلات العمل، خلاف الأسود الطاغي خارجًا.
اللحظات الأخيرة
يوم الاستهداف، وعند الساعة 6:03 من مساء السبت 7 أيلول، سقط الصاروخ الإسرائيليّ الأوّل بين قاسم بزّي ومحمّد هاشم. اندفع الشهيد عباس حمّود نحو زميليه، مخرجًا عدّة الإسعافات الأوّلية ليحاول إنقاذهما، لكنّ الصاروخ الثاني كان أسرع منه، فأصابه وزميله محمّد عماشة بشكل بالغ، كما أصيب صاحب العقار، محمّد شحادة، إصابة متوسّطة.
وكان مركز الدفاع المدنيّ في فرون قد تلقّى اتصّالًا عند الساعة 3:20 من عصر السبت الماضي، يبّلغ فيه شحادة عن حريق في كرم زيتونه. خلال دقائق، كانت شاحنة الإطفاء تغادر المركز حاملة الموظفين العملانيّين الأربع. ومكان الحريق، الذي تحوّل إلى مكان الاستهداف، يقع في الناحية الأخرى من القرية بعيدًا عن الأمكنة التي استهدفت بحزام ناريّ قبل يوم واحد. ويؤكّد حسين فقيه، رئيس مركز النبطية الإقليمي في الدفاع المدني اللبناني، أنّ “أسباب هذا الحريق كانت منفصلة عن الغارات الإسرائيليّة، ولم تندلع بسبب أي قصف سابق للمكان”.
عند الساعة السادسة، وصل إلى المركز تسجيل صوتي من قبل أعضاء الفريق، يبلغون فيه بانتهاء المهمّة: “نحن خلّصنا المهمّة، عم نلم الخراطيم، وبدنا نطلع ع المركز”. بعد 4 دقائق، أرسل الشهيد حمّود تسجيلًا صوتيًّا، مبلغًا عن الاستهداف.
أجساد نزفت تحت الخرّوب والزيتون
في الاثناء، كانت أسرة الشهيد بزّي، قد سمعت صوت الغارتين المتتابعتين. حاولت العائلة الاتّصال بالشهيد، لكنه لم يرد. لم يعلم أفراد الأسرة، وسائر العائلة، أن بزيّ كان ضمن الفريق الذي توجّه إلى الحريق. وقد ركب ابن شقيق الشهيد، حسن المجتبى بزي، مع سيارة الإسعاف: “كانت اللحظة التي رأيت فيها الشهداء، وبينهم عمّي، لحظة اشتبكت فيها المشاعر والعواطف”.
فرّق القصف العدواني الشهداء على الأرض، فيما كان الماء يتدفق من آليّة الإطفاء بعد أن نخرتها الشظايا، وهي الشظايا نفسها التي أصابت الشهيد بزّي من الخلف فأردته، واستشهد تحت شجرة خرّوب، خلف الآليّة. وبجانب الآليّة عينها، كان جسد الشهيد محمد هاشم، والجريح عماشة، وقد تركّزت إصاباتهما في الوجه. أمّا عباس حمّود، فقد سحب نفسه بعيدًا واحتمى تحت زيتونة في المكان، قبل أن يستشهد.
وكان الشهداء بلباس الدفاع المدنيّ اللبنانيّ الرسمي والواضح، وكانت الآلية تتوسّط المكان، وعليها شعار الحماية المدنيّة الدوليّ، مثلث أزرق متساوي الأضلاع، على خلفيّة بيضاء.
يقول، حسن المجتبى بزي، ابن شقيق الشهيد، في حديثه مع المفكّرة، إن علاقته بعمّه: “كانت علاقة صداقة، أكثر منها علاقة ابن أخ بعمّه، والمكان الذي استشهد فيه، كان طريق كزدورتنا”. ويفكّك معنا مشاعره، رغم الحزن في صوته: “لعلّي خاطبت نفسي، بأن عمّي ليس ضحيّة، بل شهيد، قضى وهو يقوم بواجبه الإنساني والوطني، مرتديًا بدلته، التي هي بدلة لبنانيّة وعلى أرض لبنانية. وقد مات من أجل هذه الأرض، يُنقذ كروم الزيتون وأرزاق الناس”.
حداد في الجنوب
مع انتصاف شمس نهار يوم أمس الإثنين في السماء، فاض مثلّث قرى فرون – الغندوريّة – برج قلويه بالمعزّين، وصلوا بسيّاراتهم قادمين من جهات الجنوب الأربع، فيما ناس هذه القرى الثلاثة، يتدفّقون عبر الشوارع والأزقّة، أسرة وراء أسرة، ومجموعات من الفتيان والفتيات، متجهين إلى تلّة الغندوريّة، حيث حدّد الدفاع المدني اللبنانيّ تشييعًا مركزيًّا للشهداء.
لُفّت التوابيت بشعار الدفاع المدنيّ اللبنانيّ، وكان الناس في الساحات، وعلى المداخل، وفوق الاسطح والشرفات، يراقبون بحزن بادٍ، وقد ارتدوا اللون الأسود إعلان حداد.
وفي التشييع المركزيّ، كلمات رسميّة لمسؤولين وممثّلين عن الرؤساء والوزراء، وفي الطريق إلى جبّانات القرى، شعارات الغضب والتمسّك بالمواجهة مع الاحتلال، حتى إذا ما دخلت الجثامين المقابر، سكت كلّ شيء، وارتفع صوت النعي العامليّ (نسبة إلى جبل عامل، الإسم التاريخيّ لجنوب لبنان)، وأخذت المراثي طابعها الحميميّ الحزين، تحكّي عن وداع الأخت لأخيها، والأمّ لابنها، وعن الشاب إذا ما وارى والده في الثرى، مضرّجًا بدمائه شهيدًا ومظلومًا.
في الغندوريّة، تدخل حاجّة عزاء الشهيد عباس حمّود، فينهض شقيقاه، حسين، ومحمد، يستقبلانها، تريد أن تعزيّهما، فتخذلها الكلمات، وتكتفي بأنين مخنوق. في الأثناء، يعود شقيق زوجة الشهيد من التشييع، ويخبر شقيقته بلغة العيون، أنّ زوجها قد دفن، فتنتقل بنظرها إلى أولادها الأربعة، الذين تركهم لها يتامى الأب. ويحكي الناس عن الشهيد، وتروي أمّ من الجيران، كيف كانت تتوجه إليه بابنها، إذا ما أذى نفسه خلال اللعب، لخبرته الطويلة في تقديم الإسعافات الأولية.
وبين منازل الشهداء، تتكرر صور الفجيعة. وتستقبل أسرة الشهيد هاشم المعزّين في برج قلاويه، ويجري الحديث عن مآثره في خدمة مجتمعه الصغير، وعن صفات عامل الدفاع المدني، والزوج، والأب لثلاثة أولاد: “خسارة ولا كل الخسارات يا إبني”، تقول أم علي، الجارة السبعينيّة التي لم تفارق منزل الشهيد منذ وصول الخبر. وفي منزل الشهيد بزّي في فرون، عزاء كبير أيضًا، وشقيقات يرتميّن بأحضان أشقائهنّ، يبكين فقدهّن العزيز، وشابين وصبيّتين، يؤازرون بعضهم بمصابهم بوالدهم.
فقيه مستعرضًا آثار الشظاياآثار الشظايا على آليّة الفريق المستهدف
وعن الحماية المدنية
انتسب قاسم بزي إلى الدفاع المدني اللبنانيّ بصفة متطوّع قبل 22 عامًا، ولحقه محمد هاشم وعبّاس حمّود قبل 20 عامًا. وثُبّت الشهداء الثلاثة بالملاك في آب من العام الماضي. ومنذ بداية الحرب، كانوا فاعلين في أعمال إطفاء الحرائق في المنطقة الحدوديّة، بتنسيق دائم مع الجيش اللبنانيّ الذي ينسق بدوره مع قوّات اليونيفيل، بحسب حسين فقيه، رئيس مركز النبطية الإقليمي في الدفاع المدني اللبناني.
قبل أسبوعين، استُهدِف الفريق عينه بالفسفور الأبيض خلال إخماد حريق بين العديسة ورب ثلاثين المتاخمة للحدود. يومها عاد الفريق بالسيارة نحو فرون بنفسه، رافضًا تعريض حياة المزيد من الفرق للخطر، وحين وصلوا، كانوا يعانون من صعوبات هائلة في التنفّس، ما استدعى نقلهم فورًا إلى مستشفى تبنين الحكوميّ، حيث مكثوا في العناية الفائقة لمدّة 24 ساعة.
يؤكّد فقيه أنّ الاستمرار بالقيام بالواجب الإنسانيّ، ضمن مهام المركز، مستمر. ويؤكّد أنّ الاستهداف المباشر بقصد القتل هو الأوّل من نوعه تجاه الفرق التابعة لمركزه بالذات. وحتى اليوم، قضى 25 مسعفًا وعامل دفاع مدنيّ، وعاملين صحيّين، باستهدافات العدوان الإسرائيلي في الجنوب، بحسب أرقام وزارة الصحة اللبنانيّة.
وبحسب معلومات المفكّرة، فقد توجّه فريق من الجيش اللبنانيّ وقوات اليونيفيل إلى مكان الغارة، قبل تحريك الآلية، لمعاينة المكان.
بدوره يقول فقيه أنّ استهداف الفرق التي تؤدي عملًا إنسانيًّا “ليس غريبًا على جيش يرتكب إبادة في غزّة ويقتل أطفالها، ويستهدف المدنيّين في الجنوب، لكنّ واجبنا أن نستمر مهما عظمت المخاطر”.
ولعلّ فقيه، حينما وضع إشارة الحماية المدنيّة على آليّات مركزه، بطلب من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كما يقول، ظنّ أن حماية ما قد تتوفّر لعناصره “رغم أن آليات الدفاع المدني حمراء ومميزة في كل العالم”. يقول المسؤول الرسميّ، والرجل المنكوب بمقتل أعزاء على قلبه: “نتمنى على المنظمات الدوليّة والأممية، وقبل أن تفكر في إرسال مساعدات لنا، أن تفكر بضمان الحماية المفروضة بموجب القانون الدولي، ومساءلة المجرم عن جرائمه”.
شعار الحماية المدنيّة على ظهر آليّة الفريق المستهدف
وتكتمل أركان التغطية الخبرية للحدث، باستحضار البيان الإسرائيليّ الذي أقرّ بالجريمة، واصفًا الشهداء بأنهم “مخربين من حركة أمل”، وزعم أنّهم “تصرفوا داخل مبنى عسكري لحزب الله.” ويستحضر هذا الاتهام زملاء الشهداء أنفسهم، وهم يتمركزون في مركز الدفاع المدني في فرون، مستعدين للانطلاق لدى حدوث أيّ طارئ جديد. يستحضرونه فيقولون إن “هذه العقلية الإسرائيليّة، إنما تريد أن تبيح دماء المدنيّين، كل المدنيّين هنا في الجنوب، بالكذب، وبناءً على انتماءاتهم السياسيّة، وهذه هي عقلية الإبادة بعينها”.
يسأل واحدهم: “أوَ ليست هذه هي الحجة التي تجري الإبادة في غزة على أساسها؟”. بدوره يقول حسن المجتبى بزي: “المتيقن أن الإسرائيلي كان يعلم أنهم عناصر إطفاء ودفاع مدني واستهدفهم عامدًا متعمّدًا عالمًا أنهم غير مرتبطين بأيّ تحرّك عسكريّ” قبل أن ينتقل من الفصحى إلى العاميّة ليقول ببساطة: “نزلوا خوفًا على زيتونات الناس”.
أمّا فقيه، فهو يتحدّى الجيش الإسرائيليّ، بأن ينشر فيديو الاستهداف: “ينشرون تسجيلات مصوّرة لكلّ عمليّاتهم العدوانيّة، فلماذا يتكتمون عن هذا الفيديو بالتحديد؟” يسأل، ليستتبع سؤاله بجواب: “لأنّه سيوثّق استهدافًا لمدنيّين، وفي مكان مدنيّ”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.