احتفال إدارة قناة السويس بــ”نجاح أول عملية عبور من نوعها في تاريخ القناة لوحدة عائمة لإنتاج وتصنيع وتخزين الغاز الطبيعي المسال (FPSO) المملوكة لشركة Energean Power”، يوم الجمعة الماضي، قابله في لبنان استنفار رسمي وأهلي مرتبط باقتراب العدو الإسرائيلي من التنقيب عن الغاز في حقل كاريش الواقع في المياه المتنازع عليها.
الجميع تعامل مع المسألة على أنها مفاجأة لا بدّ من معالجة تداعياتها، بالرغم من أن السفينة سبق أن انطلقت من إندونيسيا منذ 35 يوماً. لكن ذلك لم يكن كافياً لتحرّك السلطات المعنية ساكناً. الثبات العميق ظلّ السمة الغالبة على أداء السلطة، منذ اجتمع الرؤساء ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي للتباحث في الاقتراح الذي قدّمه الموفد الأميركي آموس هوكشتاين والذي لا يعطي لبنان سوى 600 كلم مربع من حقوقه التي تصل إلى 2290 كلم مربع (الخط 29). حينها رفض المجتمعون الاقتراح وأصدروا بياناً يدعو الولايات المتحدة إلى “الاستمرار في جهودها لاستكمال المفاوضات وفقاً لاتفاق الإطار (الأول من تشرين الأول 2020) بما يحفظ مصلحة لبنان العليا والاستقرار في المنطقة”… وانتهى الأمر.
هذا لا يعني أن لبنان أعلن تمسّكه بالخط 29. فرئيس الجمهورية لا يزال يرفض توقيع تعديل المرسوم 6433 تاريخ 1/10/2011، الذي يُحدد المنطقة الاقتصادية الخالصة، بما يؤكد اعتماد الخط 29 بوصفه خط الحدود البحرية الجنوبية بدلاً من الخط 23 (860 كلم مربع إضافية عن الخط رقم 1 الذي يعتبره العدو الإسرائيلي الخط الحدودي، لكنه يقل بمساحة 1430 كلم مربع عن الخط 29).
بذلك، صار للبنان خطان، خط تفاوضي وخط رسمي. وقد أكّد ذلك في رسالة وجهتها مندوبة لبنان إلى الأمم المتحدة أمال مدللي، في 28/1/2022، أشارت فيها إلى اعتراض لبنان “على أي أعمال تنقيب في المناطق المتنازع عليها تجنّباً لخطوات قد تُشكّل تهديداً للسلم والأمن الدوليين”. وجاء في الرسالة إلى أنه “احتراماً لمبدأ “الخط التفاوضي” الذي لم تتوصل إليه بعد المفاوضات غير المباشرة، لا يمكن الإدّعاء بأن هناك منطقة اقتصادية إسرائيلية خالصة مثبتة، بعكس ما ادّعى الجانب الإسرائيلي بشأن ما يسميه حقل كاريش”.
هذه الرسالة التي استبقت زيارة هوكشتاين إلى بيروت، أتت لتمسك العصا من الوسط، فلا أقر الخط الجديد رسمياً ولا غضّ النظر عنه. فبدتْ هذه الخطوة جزءاً من التفاوض مع الموفد الأميركي ومن التأكيد اللبناني على عدم إغضاب الجانب الأميركي، الوحيد القادر على لعب دور الوسيط، حتى لو كان وسيطاً يفتقد إلى النزاهة، طالما أن الطرف الآخر هو إسرائيل.
بحسب د.ة ليلى نقولا، إن مردّ عدم تعديل المرسوم بما يتناسب مع الخطّ الذي أثاره الوفد العسكري المفاوض في الناقورة (استند إلى قانون البحار الذي يشير إلى أن الصخور المأهولة لا تعتبر جزرا، وإلى توصية المكتب البريطاني UKHO باعتماد الخط 29، وإلى اتفاقية نيوكمب الخاصة بالترسيم بين لبنان وفلسطين خلال فترة الانتداب) هو خوف السلطة اللبنانية من توقّف المفاوضات والانتقال بالملف إلى التحكيم الدولي الذي يحتاج إلى سنوات طويلة من دون أن يكون مضمون النتائج بسبب الدعم الدّولي لإسرائيل. فكانت النتيجة أن هوكشتاين “باع” لبنان من كيسه 50 كلم مربعا إضافيا عن الاقتراح الذي قدمه الموفد الأميركي السابق فريدريك هوف قبل 10 سنوات ورحل.
بعد ذلك، بدا لبنان الغارق في الانتخابات بلا موقف موحد. وفيما لم يصل أي ردّ أميركي على طلبه استئناف التفاوض، بعدما تردد أن لا مصلحة أميركية أو إسرائيلية في الاستعجال، طالما أن الخطط الإسرائيلية تسير وفق المقرر لها، لم يحرّك أحد مسألة تعديل المرسوم ولا أعيد تفعيل مسألة التنقيب المجمّدة منذ سنوات، بانتظار الاتفاق المفترض.
لكن في 10 أيار الماضي، أعلن الرئيس نبيه بري أن “اتفاق الإطار المذكور يبقى الآلية الصالحة لإنجاز الترسيم الذي يمنح لبنان الحقّ باستثمار كامل ثرواته في البحر دون تنازل أو تفريط أو تطبيع أو مقايضة”. وقال: “تحت هذا السقف لبنان الرسمي مستعد لاستئناف المفاوضات في أي لحظة، والكرة في ملعب الأطراف الراعية للتفاوض غير المباشر ولكن ليس إلى العمر كله ولمدّة أقصاها شهر واحد يصار بعدها للبدء بالحفر في البلوكات الملزمة أصلاً من دون تردّد وإلا تلزم شركات أخرى”.
وفي اليوم نفسه، أيّد الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله موقف بري وأشاد به، ولا سيما ما يتعلق بمهلة الشهر. كما كرر التذكير بأنّ المقاومة ستكون حاضرة لحماية أيّ قرار لبناني باستقدام شركات عالمية للتنقيب، مجدّداً الحديث عن قدرة المقاومة على تحقيق توازن مع العدو يمنعه من أن يحول دون إطلاق يد لبنان في العمل أيضاً. وقال “ما نحتاج إليه هو امتلاك جرأة التلزيم، وإذا أراد العدو منعنا من التنقيب فإننا قادرون على منعه”. هذه المهلة تنتهي في 10 حزيران الحالي، أي بعد ثلاثة أيام. فهل سنكون أمام أيام حاسمة؟
بحسب المعلومات، فإن هذا الملف كان أساسياً على جدول أعمال المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي زار واشنطن بعيد الانتخابات. الرسالة الأبرز كانت أن حزب الله جاد في تحذيره، وأن المطلوب سعي أميركي لإعادة عجلة المفاوضات.
لكن بالنتيجة، لم يتحرك الأميركيون ووساطتهم المنتظرة ولا تحركت السلطة التنفيذية لوضع الملف على سلم الأولويات، خاصة أنه كان متوقعاً أن تصل الباخرة اليونانية خلال أيام. لكن يوم أمس شهد استنفاراً عالياً على كل المستويات، ليس مستبعداً أن يعود الأميركي على إثره إلى تفعيل وساطته.
مبادرة كتلة “النواب التغييريين” ومبادرة تشريعية لملاقاتهم
وتظهيرا لدور النائب في الدفاع عن المصلحة العامة في مواجهة أي تخاذل رسمي في الدفاع عن الدولة وحقوقها، عقدت كتلة النواب التغييريين مؤتمراً صحافياً، دعتْ فيه إلى “تعديل المرسوم 6433/2011 وإيداعه الأمانة العامة للأمم المتحدة، ومن ثم توجيه السلطة التنفيذية كتاب إنذار للشركة اليونانية (إينرجيان) أو أي شركة أخرى قد تتعاقد مع العدو لاستخراج الغاز والنفط ضمن المنطقة المشمولة بالخط 29، وكذلك تقديم شكوى ضد الكيان الصهيوني الغاصب أمام مجلس الأمن بسبب إعطائه الإذن باستخراج النفط والغاز من حقل مشمول بالخط 29، ما يُعرّض السلم والأمن الدوليين للخطر”.
ودعا خلف الشعب اللبناني إلى “وقفة تضامنية في طريق عام الناقورة، جنوب لبنان، بعد قاعدة اليونيفيل، يوم السبت 11 حزيران الجاري، الساعة الرابعة من بعد الظهر للمطالبة والإصرار على تعديل المرسوم 6433 باعتماد الخط 29 تكريساً لحقوقنا الوطنية”.
وإذ أكد خلف أنه “في حال التقاعس عن ذلك سنقوم كنواب قوى التغيير مع من يرغب من النواب بتقديم اقتراح قانون معجل مكرر لتعديل القانون رقم 163/2011 بغية اعتماد الخط 29 كخط رسمي لتحديد الحدود الجنوبية للمناطق البحرية اللبنانية”، سارع النائب حسن مراد إلى تقديم اقتراح بهذا الشأن، ولاسيما المادة 17 منه. هذه المادة تنص على “تعيين حدود المناطق البحرية المختلفة، بمراسيم تُتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزراء المختصين”. أما اقتراح التعديل المقدم من مراد، فيشير إلى تحديد حدود المناطق البحرية وفقاً للخطّ الذي رسمته مصلحة الهيدروغرافيا التابعة للقوات البحرية في الجيش اللبناني، والمعروف بالخط 29، بإحداثياته التي حددتها قيادة الجيش اللبناني بموجب الكتاب رقم 2320، الموجّه إلى مجلس الوزراء في 4/3/2021.
كذلك يترك الاقتراح هامشاً للسلطة التنفيذية بتعديل هذه الإحداثيات، بموجب مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء إذا دعت الحاجة إلى ذلك وعلى ضوء المفاوضات مع الدول المعنية.
وقد دعا مراد زملاءه، عبر “المفكرة القانونية”، إلى ملاقاته في المجلس النيابي لمناقشة هذا الموضوع وإقراره لحفظ حق لبنان في ثروته. كما دعاهم إلى العمل على مواجهة الاعتداء الصهيوني المستمرّ لحدودنا وثروتنا وتقديم كل ما يلزم من تسهيلات وموقف وطني موحد يدعم الجيش اللبناني والمقاومة في مهمة الذود عن حدود الوطن وحماية أراضيه، مذكراً أنه ليس المهم أن نطالب بتعديل الخط الحدودي، بل الأهم أن نملك عناصر القوة التي تمكننا من حماية هذه الحدود.
وبالفعل، دعت النائبة بولا يعقوبيان قبل قليل في جلسة انتخاب اللجان، رئيس المجلس بري إلى طرح اقتراح مراد على جدول أعمال الهيئة العامة للمجلس لإقراره فورا. وما تزال الجلسة جارية هنالك حتى الآن.
تفاعلات الرؤساء مع استعادة الملف حيويته
في سياق متابعة الملف، زار رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي رئيس الجمهورية، وأصدر بياناً متوافقاً عليه مع القصر الجمهوري، يشير إلى أن الرئيسين بحثا “في الخطوات الواجب اتخاذها لمواجهة محاولات العدو الإسرائيلي توتير الأوضاع على الحدود البحرية الجنوبية. وقد توافقا على دعوة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين للحضور إلى بيروت للبحث في مسألة استكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية الجنوبية والعمل على إنهائها في أسرع وقت ممكن، وذلك لمنع حصول أيّ تصعيد لن يخدم حالة الاستقرار التي تعيشها المنطقة”.
بعد صدور البيان، أكدت مصادر القصر الجمهوري أن التواصل مع الجانب الأميركي سيُستأنف بعد عودة السفيرة الأميركية من واشنطن اليوم. كما طمأنت إلى أن لبنان يحفظ حقوقه بعدم دخول أي سفينة لاستخراج أو التنقيب في المياه المتنازع عليها التي هي قيد التفاوض بموجب الرسالة التي أرسلها إلى مجلس الأمن. وأكدت أن الضغط علينا لن يمر، كما رفضت منطق التخوين. وأكدت المصادر أن رئيس الجمهورية ليس في وارد التخلي عن شبر مياه من حق لبنان، مشيرة إلى أن أوراق التفاوض قوية معنا، ومن يريد أن يذهب إلى ال29 فوراً، نطمئنه إلى أن أوراقنا لا تزال قوية، لناحية المضمون والتوقيت.
في السياق نفسه كانت لافتة إشارة الرئيس نبيه بري لصحيفة “الأخبار” أنه “ليس ممكناً تجاهل الخطوات التي يقوم بها العدو الإسرائيلي ومن المفترض حضور الوسيط الأميركي الى بيروت وإبلاغه أن لبنان لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذه التجاوزات، وعليه أن يقوم بإجراءات لوقفها، باعتباره مسؤولاً عن ملف التفاوض”. وأكد بري إلى أنه “إذا لم يتجاوب هوكشتاين أو لم يصل إلى نتيجة، فعلى الحكومة أن تجتمع وأن تأخذ قراراً وطنياً بالإجماع بتعديل المرسوم 6433 وإرساله إلى الأمم المتحدة”.
وتأكيداً على موقف حزب الله، أعاد نائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم أمس، استعداد المقاومة للرّد على العدو الإسرائيلي بالقوّة، لردعه عن الاعتداء على الثروة النفطية اللبنانية، موضحاً أنها بانتظار تأكيد الدولة اللبنانية وقوع اعتداء إسرائيلي على المنطقة المتنازع عليها. وقال قاسم لــ”رويترز”، إن الدولة “عندما تقول إن الإسرائيلي يعتدي على مياهنا ويعتدي على نفطنا، نحن حاضرون أن نقوم بمساهمتنا في الضغط والردع واستخدام الوسائل المناسبة، بما فيها القوة، من أجل منع إسرائيل من أن تعتدي على مياهنا ونفطنا”، مؤكداً أن المقاومة سترد “بغض النظر عن ردود الفعل”، حتى لو أدى ردّها إلى تصعيد واسع.
الموقف اللبناني سرعان ما وصل صداه إلى العدو، الذي عمد إلى التقليل من أهمية دخول السفينة اليونانية، فحرص وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، في كلمة ألقاها في الكنيست أمس، على التأكيد أن منصة الغاز وصلت يوم السبت الماضي إلى المنطقة الاقتصادية الإسرائيلية وليس إلى منطقة متنازع عليها.
وقال غانتس إن الخلاف بين إسرائيل ولبنان على المناطق المتنازع عليها في البحر المتوسط ستتم تسويته عبر المفاوضات الجارية بوساطة أميركية.