لدى استقباله لرئيسة الحكومة العائدة من قمّة الحكومات الّتي انعقدت في دبي، صرّح رئيس الجمهوريّة بتاريخ 16 فيفري 2023 أنّ “العولمة قد وصلت مداها وانقلبت على ضدّها” معتبرا أنّ هذه الظاهرة قد تحوّلت “إلى صنف جديد من الاستعمار”. وأكّد سعيّد في المناسبة نفسها على سيادة الدولة التونسيّة وقدرتها على تشخيص أوضاعها بمفردها وإيجاد “الوصفات” الخاصّة بها في إشارة إلى وكالات التصنيف العالميّة الّتي ما فتئت تخفّض ترقيم تونس السيادي وإلى صندوق النقد الدولي الّذي تعطّلت المفاوضات معه في انتظار قيام تونس بالإصلاحات الّتي يعتبرها الصندوق ضروريّة حتّى يمنحها القرض البالغ قيمته 1,9 مليار دولار والّذي تم الاتّفاق حوله على مستوى الخبراء في أكتوبر 2022.
ليست هذه المرّة الأولى الّتي يعبرّ فيها رأس السلطة التنفيذيّة عن موقفه النقدي من الإملاءات الصادرة عن المؤسسات المالية العالمية، موقف بلغ حدّ التهكّم على التخفيض المتواصل للترقيم السيادي من طرف الوكالات الآنف ذكرها، واصفا إيّاها بـ “أمّك صنّافة”.
إنّ التأكيد المتكرّر والمتواصل للرئيس على مفهوم السيادة الوطنيّة ورفضه -على مستوى الخطاب- للتدخّل الأجنبي في الشؤون التونسيّة يدغدغ مشاعر طيف واسع من التونسيين الّذين تختلط عندهم مفاهيم الوطنيّة ورفض الامبرياليّة ومناهضة الأمركة والفرنسة. كما يتقاطع هذا الخطاب -في ظاهره- مع الخطاب الّذي تعبّر عنه الأحزاب والتيارات القوميّة العربيّة وبعض التشكيلات اليساريّة الراديكاليّة الداعية لاحترام القرار الداخلي التونسي والناقدة لسياسات الرّضوخ والتبعية للقوى الأجنبيّة المؤدية إلى مزيد التفقير ومزيد الارتهان لمصالح للشركات عبر القطريّة على حساب العمّال والعاملات والكادحين والكادحات.
من ناحية أخرى، قد يبدو خطاب الرئيس -على مستوى الشكل دائما لأنّ التناقض بين الخطاب والفعل أصبح جليّا-، متناغما مع الانتقادات للعولمة النيوليبراليّة، وبالأخصّ لمبادئ التبادل الحر وحريّة الاستثمار ولسلطة المؤسسات والمنظمات الدولية، كما نظّر لها باحثون وباحثات وعبّرت عنها حركات سياسيّة واجتماعيّة عالميّة سواء منها الداعية إلى عولمة بديلة altermondialisme أو إلى اللّاعولمة/إزالة العولمة démondialisation. ربما يكون التمييز بين هذين التوجّهين مفتاحًا لأجل فهم بعض المصطلحات الّتي تظهر هنا وهناك في خطاب الرئيس والّتي من شأنها إنارة ذهنيّته الفكريّة والأيديولوجيّة، نظرا لما يحملانه من مرجعيّات متناقضة، حتّى وإن اتّفقت ظاهريّا في تقييمها ونقدها للعولمة النيوليبرالية. لا يعني ذلك أنّ مواقف سعيّد ترتقي إلى مرتبة بناء نظريّ متماسك أو تمثّل سياسي واضح المعالم لما يجب أن تكون عليه علاقة تونس بمحيطها الخارجي، بل هي أقرب إلى الشعارات المضطربة والمتضاربة التي تظهر كلّما ازداد الضغط الأجنبي في علاقة بالانحراف عن المسار الديمقراطي والدستوري وتُستعمل “كآلية للدفاع النفسي” لأجل إنكار المأزق الاقتصادي والمالي الّذي يعجز عن إيجاد حلول عمليّة له. لكنّ ذلك لا يقلّل من أهمّية محاولة فهمها وسبر عمقها.
انتقادات دوليّة متباينة للعولمة
يعتبر الداعون إلى عولمة بديلة أنّ العولمة بما هي ترابط وتبادل وانفتاح بين الثقافات وبين اقتصاديات الشعوب وليس الشركات المهيمنة والحكومات والمؤسسات الداعمة لمصالحها أمرا إيجابيّا بل تقدميّا في تاريخ الإنسانيّة. فالمشكل لا يتمثّل في العولمة لذاتها بل في طابعها الرأسمالي. والحلّ لا يكمن في إدانة العولمة بل في تحسينها عبر ميكانيزمات تعيد تقسيم الثروة (كفرض أداءات على التحويلات الماليّة وعلى الاستثمارات الأجنبيّة) أو إجراءات تفرض احتراما لحقوق الإنسان سواء منها المتعلّقة بظروف التشغيل أو التأجير وكذلك الحدّ من التجاوزات الّتي تمسّ البيئة والمحيط[1]. كما لا ينفي دعاة العولمة البديلة دور العولمة في تقاطع النضالات المناهضة للهيمنة بجميع أشكالها (هيمنة الشركات وهيمنة الدول العظمى وكذلك هيمنة الطبقات والفئات الإجتماعيّة العليا) وإكسابها طابعا عالميّا بحكم الترابط المتزايد للمجتمعات والقضايا الّتي تواجهها. من هنا يرى البعض أهميّة الحركات الاجتماعيّة الجديدة الّتي تنامت وتكاتفت بفضل فرص التشبيك الّتي أتاحتها العولمة والّتي مكّنت من مقاومة طابعها الرأسمالي النيوليبرالي والنيوكولونيالي.
من ناحية أخرى يتقاطع دعاة إزالة العولمة مع التيارات القوميّة والسيادويّة التي يعود نقدها للعولمة إلى تهديدها للسيادة الوطنيّة للدول نظرا للسلطة المتزايدة للمؤسسات الدولية على المؤسسات الوطنيّة ممّا يقوّض استقلاليتها وخصوصيّتها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة. وهم يدعون بالتّالي إلى سياسات اقتصاديّة حمائيّة[2] تعكس موقفا نقديّا من الديمقراطية الليبراليّة وما تفترضه من احترام لحقوق الإنسان والحريّات العامّة والفرديّة ودولة القانون والفصل بين السلط وغيرها من المبادئ المؤسّسة للحداثة السياسيّة والمجتمعيّة. هذه الديمقراطية الّتي لا تعدو إلاّ أن تكون في نظرهم إسقاطات غربيّة على مجتمعات لم تعرف ذات التطوّر التاريخي، نافين عنها أيّ طابع كوني. لا تدّعي هذه التيارات رفضا للديمقراطية بماهية “حكم الشعب بالشعب وللشعب” بقدر ما تقدّم قراءة مختلفة لهذا المبدأ لا تعتبر الديمقراطية التمثيلية على الشاكلة الّتي تعرفها المجتمعات الغربيّة والأوروبيّة الشكل الأوحد ولا الأفضل لتحقيق سيادة الشعب.
أين يتموقع الرئيس من كلّ هذا؟ هل يمكن لنا أن نجزم بأنّ الرئيس، من خلال انتقاداته المتكرّرة للعولمة ودعواته لاحترام السيادة الوطنيّة، يعبّر عن تصوّر منسجم ومتناسق يتماهى مع أحد هذه التيّارات؟
رئيس يحمل مشروعا مخلّصا للإنسانية
لقد سبق وأن أشرنا من خلال تحليل دلالي لتوطئة دستور 2022 أنّ تمثّل رئيس الدولة للتاريخ هو تمثّل مسيانيّ إذ أنّه يعتبر نفسه حاملا لمشروع فيه خلاص الإنسانيّة وشعوب الجنوب وهو ما يتّضح من خلال عبارة “ليعلم الكلّ في العالم” في تصريحه المشار إليه عند استقباله لرئيسة الحكومة. وهي ذات الفكرة الّتي ما فتئ يكرّرها في زياراته الدوليّة لعلّ أهمّها مشاركته في القمّة الافريقيّة-الأوروبيّة في فيفري 2022 الّتي صرّح خلالها للتلفزة الوطنية أنّنا -أي الشعوب الإفريقيّة- “قادرون أن نصنع جميعا مستقبلا للإنسانيّة كلّها” وأنّ “العالم بحاجة إلى مفاهيم جديدة” و “مقاربة أخرى مختلفة عن المقاربات التقليدية”. تتكرّر نفس الفكرة في الخطاب الملقى في القمّة العربيّة الصينيّة الأولى بالرياض في ديسمبر 2022 حيث أفاد بأنّنا -أي شعوب الجنوب- “نعمل من أجل وضع أسس جديدة لبناء جديد تغيب فيه الأسلاك الشائكة والجدران الفاصلة” وأنّنا “نلتقي لأجل فتح طريق جديدة في التاريخ” وأنّ “العولمة كانت قد بلغت مداها وانقلبت على ذاتها” وأنّ الالتقاء العربيّ الصيني يأتي ل “تغيير الواقع” و”البحث عن مصطلحات ومفاهيم جديدة وأفكار مختلفة عن الّتي سادت”.
يبدو إذن أنّ فكرة تغيير التاريخ والهوس بصناعة التاريخ فكرة مركزيّة في خطاب الرئيس تجد جذورها في نظرة سيادويّة للعولمة ومكانة تونس ضمن المجتمع الدولي وهو ما يضعه في خانة أنصار اللاعولمة كما تمّ تقديمها. فعلى عكس أنصار العولمة البديلة، يبدو تمثّل الرئيس للعولمة ولعلاقة تونس بالخارج تمثّلا قوميّا nationaliste تغلب فيه السيادة الوطنيّة على السيادة الشعبيّة. وهو الأمر الّذي يتلاءم ليس فقط مع مواقفه السياسيّة من عدد من القضايا الداخليّة والوطنيّة الّتي عبّر فيها عن مواقف محافظة بل أيضا مع مشروعه السياسي الاستبدادي والّذي بدأ يتّخذ بعدا فاشيّا مؤخّرا خاصّة مع البيان العنصريّ في حقّ المهاجرين والمهاجرات الأفارقة من جنوب الصحراء الصادر عن صفحة الرئاسة بتاريخ 21 فيفري 2023.
سرديّات قديمة تنبعث من جديد
إنّ هذا الموقف من العولمة ينبني على تصوّر للشؤون الخارجيّة لا يقطع فقط مع التقاليد الديبلوماسيّة التونسيّة المرسومة منذ دولة الاستقلال -وإن عرفت بوادر حياد عن مبادئها أثناء حكم الترويكا- ولكن تبدو في تناغم مع الخطابات الثوريّة لقيادات العالم الثالث في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين متى تكاثفت حركات التحرّر الوطني وحاولت تدويل قضاياها حتّى تلفت نظر الرأي العام الدولي. وهي تتنبنّى رؤية مختلفة للعلاقات الدولية قوامها حقّ الشعوب في تقرير مصيرها ومناهضة الاستعمار بجميع أشكاله ورفض التدخّل الأجنبي في الشؤون الداخليّة ومناصرة جميع حركات التحرّر ومقاومة الامبرياليّة في شتّى أنحاء العالم.
لقد لاقت تلك السرديّة رواجا في السياق التاريخي الّتي أينعت فيه خصوصا وأنّها تلاءمت مع موجة تحرّر الشعوب المستعمرة وتمتّعت بدعم من قبل إحدى القوى العظمى آنذاك وهي الاتحاد السوفياتي في إطار تنافسه مع الولايات المتّحدة ودعمه للتجارب الاشتراكيّة في دول العالم الثالث الّتي كانت راغبة في التمايز مع القوى المستعمرة لأجل بناء بديل عن النموذج الليبرالي السائد في المعسكر الغربي. ولعلّ أبرز محطّات نجاحها مؤتمر باندونغ المنعقد سنة 1955 والّذي انبثقت منه حركة عدم الانحياز. فقد بعث المؤتمر رسالة قويّة مفادها وحدة صراع شعوب الجنوب على اختلاف انتماءاتهم الجغرافيّة والثقافيّة. إلاّ أنّ هذه السرديّة والّتي حظيَت حتّى بمجهود تنظيري من قبل جملة من الكتّاب والمنظّرين على غرار جون بول سارتر وإدوارد سعيد وسمير أمين وبيار سلامة وغيرهم لم تنجح في تحقيق حلم السيادة الوطنيّة الّذي طالما راود روّاد وزعماء العالم الثالث لأسباب عديدة يطول شرحها. لعلّ أهمّ هذه الأسباب التبعيّة للقوى العظمى الّتي لم تنجح تلك الدول في التخلّص منها بالإضافة إلى فشل تجارب التصنيع الثقيل والإصلاح الزراعي نظرا للتخلّف التقني والتكنولوجي وعدم ملاءمة التركيبة السوسيولجيّة والثقافيّة للمجتمعات مع المخطّطات المزمع تطبيقها. أمام فشل هذه “التجارب الوطنيّة” وواقع التبعيّة الاقتصاديّة والعسكريّة تحوّلت سرديّة مناهضة الإمبرياليّة إلى مبرّر لأجل تدعيم وطأة الأنظمة الإستبداديّة الحاكمة على شعوبها وقمع وسجن المعارضين تحت مسميّات متعدّدة كالتآمر والتخابر مع الأجنبي.
إنّ تصوّر الرئيس لعلاقة تونس بالخارج يبدو تصوّرا رجعيّا بمعنى أنّه لا يتأتّى في سياق التحوّلات التي يشهدها العالم من ترابط متزايد بين الشعوب والمجالات الجغرافيّة والأقطار. بل إنه يبدو في تلاءم أكثر مع السياقات والتجارب التاريخيّة الآنفة الذكر والّتي حتّى وإن لم تحقّق كافّة الأهداف الّتي رسمتها، نجحت إلى حدّ ما في التموقع ضمن نظام القطبيّة الثنائيّة وتأكيد دور العالم الثالث كفاعل له وزنه نسبيّا. في المقابل، لا يبدو خطاب الرئيس في تناغم مع سياساته المنبطحة لدول الشمال رغم النبرة النقديّة العالية تجاه الغرب الّتي تميّز خطابه. إذ ينبغي دائما أن نذكّر بأنّ هذا الرفض لا يعدو أن يكون رفضا بلاغيّا لا يرتقي لمرتبة سياسة دولة. فبالتوازي مع التصريحات المعادية للعولمة والانشغال الأجنبي بالشؤون الداخليّة التونسيّة ورفض إصلاحات صندوق النقد الدولي والدعوة إلى إيجاد حلول لأسباب الهجرة غير النظاميّة للتونسيين نحو أوروبا، لم يتوانَ الرئيس عن تبرير انقلابه أمام وزير الخارجيّة الأمريكي في زيارته الأخيرة لواشنطن بحثا عن تبييض صورته أمام الولايات المتّحدة. كما لم يتوانَ عن تمرير الشروط واللإملاءات الاقتصاديّة الأجنبيّة في شكل مراسيم لم تخضع لأيّ نقاش عامّ، من دون مصارحة الشعب وتحمّل مسؤوليّة خياراته. أمّا عند زيارته لفرنسا في جوان 2020 فقد اعتبر قيس سعيد أثناء الحوار الصحفي الّذي أجراه مع قناة فرانس 24 أنّ الجرائم الّتي قامت بها فرنسا لم تكن على قدر كبير من الفظاعة ولا ترتقي لمرتبة الجرائم ضدّ الإنسانيّة على غرار ما حدث في الجزائر، وأنّ ذلك يعود إلى طبيعة الحضور الفرنسي في تونس الّذي أخذ شكل “حماية” ولم يكن استعمارا مباشرا كما هو الحال في الجزائر. وبالتّالي لا داعٍ لتقديم الاعتذارات والعودة إلى الخلافات التاريخيّة بقدر ما يجب النظر إلى المستقبل والعمل على إرساء تعاون اقتصادي بين الدولتين. إلّا أنّ المفارقة تكمن في عودة الرئيس على مسألة الحضور الفرنسي في البلاد التونسيّة عند زيارته لمدينة القيروان يوم عيد الاستقلال واصفا إيّاه -أي التواجد الفرنسي- ب”الاحتلال الاستيطاني” و”بالاستعمار المباشر” حتّى وإن كانت في الظاهر حماية. إنّ هذا التناقض الفاضح بين التصريحات في الداخل والخارج تؤكّد مجدّدا أنّ الولع بالسيادة الوطنيّة يختفي فجأة كلّما غادر أرض الوطن.
أمّا أمام الظروف اللاإنسانيّة الّتي يعاني منها المهاجرون التونسيّون المعتقلون في مراكز الإيقاف الإيطاليّة (والّتي وصلت حدّ إجبارهم على تناول مسكّنات الأعصاب)، فلم يقُم الرئيس بأيّ إجراء أو تدخّل ديبلوماسي لصالح أولئك المواطنين خصوصا وأنّ الدولة التونسيّة تعاني من فراغ على مستوى تمثيليّتها الديبلوماسيّة بإيطاليا. بل أدهى من ذلك عبّرت وزارة الخارجيّة في بلاغها يوم 21 مارس 2023 عن “ترحاب تونس بالدعم البنّاء لعديد الشركاء، بما في ذلك الجارة إيطاليا” لا لشيئ إلاّ لأنّ حكومة أقصى اليمين الإيطاليّة، وعلى خلاف بقيّة دول الإتّحاد الأوروبي، لم تنتقد الانحراف السلطوي والتراجع الديمقراطي الّذي تعرفه تونس بل وأكّدت على دعمها للملف التونسي لدى صندوق النقد الدولي مقابل مراقبة تونس لحدودها البحريّة حتّى تمنع وصول المهاجرين غير النظاميين للسواحل الإيطاليّة. ليس هذا إلاّ غيضا من فيض من اللا مواقف الّتي تنمّ عن التراخي والتقاعس أمام الوضعيات الّتي وجب فيها التدخّل حماية للسيادة الوطنيّة الّتي طالما تحدّث عنها الرئيس في خطاباته.
في النهاية يمكن القول أنّ اقتباس الرئيس للمعجم المعادي للإمبرياليّة والعولمة وتموقعه في الحقل الدلالي الّذي انبنتْ عليه سرديّة دول العالم الثالث مقابل التناقض على مستوى التصريحات وبين الخطاب والممارسة يدفعنا للقول بأنّ حضور معجم السيادة الوطنيّة لا يكون إلاّ متى وُجّهت لتونس انتقادات تهمّ حقوق الإنسان والحريّات. عندها فقط يصبح الحديث عن السيادة ذا جدوى وتعود السيادة الوطنيّة كخطّ أحمر لا يمكن المساس به.
إنّ البحث عن إعادة إحياء ماضي الزعامتيّة وحكم الفرد الأوحد والقائد الملهم الّذي يتماهى مع شعبه إلى درجة استبطان إرادته واختزالها في إرادته الشخصيّة (وهي مظاهر خلنا أنّها من ماضٍ ولّى بلا رجعة)، دفع بالرئيس إلى اتّخاذ موقف عدواني إزاء التدخّل الأجنبي في الشؤون الوطنيّة كلّما تعلّق الأمر بكيفيّة إدارته للمرحلة. أمّا الانتقادات للعولمة وللعلاقات الاقتصاديّة غير المتكافئة بين الشمال والجنوب، فهي بالأخصّ آلية دفاعيّة للهروب من عجزه عن إيجاد حلول للتحديات الاقتصادية العاجلة، إلى درجة السقوط في فخّ الشوفينيّة والمؤامراتيّة، الّتي دائما ما تطبع خطابه سواء الداخلي أو الخارجي.
حضور متميّز لنظريّة المؤامرة
إنّ التفسير المؤامراتي للواقع يمثّل هو الآخر أحد أحجار الزاوية في خطاب الرئيس. من ذلك إيمانه الرّاسخ بأنّ سبب الأزمة الاقتصاديّة هو الاحتكار الّذي يقوم به مجموعة من المضاربين من ذوي المآرب السياسيّة ومن أولئك الّذين يرغبون في زعزعة حكمه حتّى تعود البلاد إلى ما كانت عليه من عطالة طيلة السنوات السابقة. ومنه أيضا تفسيره المؤامراتي لحادثة غرق مركب جرجيس وتأكيده المتكرّر على محاولات لاغتياله من دون أيّ دليل -ومن ذلك اتّهامه للموقوفين أخيرا بالتخطيط لاغتيال رئيس الجمهوريّة– واعتباره أنّ الهجرة غير النظاميّة من جنوب الصحراء تتأتّى ضمن مخطّط إجرامي هدفه تغيير التركيبة الديمغرافيّة للشعب التونسي وترديد الاتّهامات للجمعيّات والمنظّمات الّتي تتلقّى تمويلا أجنبيّا بالعمالة وبأنّهم باعوا ضمائرهم وارتموا في أحضان الخارج. يضاف إلى هذه الأسباب ومن شواهد هذا الخطاب أيضا منعه بعض النقابيين الأجانب دخول التراب التونسي وطرد الأمينة العامّة للكونفدراليّة الأوروبيّة للنقابات وغيرها من التصريحات والقرارات. وكلها شواهد تؤكّد أنّ تمثّلاته للخارج تنحصر في ثنائيّة المؤامرة والسيادة المزعومة كما أنّ مرجعيّاته في العلاقات الدوليّة -وكذلك الحال لمرجعيّاته السياسيّة- لم تتجاوز السرديّات المميّزة للقرن السابق، ممّا ينذر بارتداد يجعل من تونس بلدا خارج التّاريخ. ولعلّ في تعرّضه لاتفاقيّة سايكس بيكو عند استقباله وزير الخارجيّة حتّى يبيّن أنّ سوريا تتعرّض بدورها لمؤامرة خارجيّة تهدف إلى تقويض وحدتها وسيادتها دليل آخر على عدم قدرة الرئيس على استيعاب إعادة التشكّل الّتي تعرفها التوازنات الدولية منذ نهاية القرن العشرين وإلى حدّ اليوم.
[1] Durand Folco, J. (2017. Altermondialisme ou démondialisation ? Relations, (793), 26–26
[2] Mauger, G. (2012). Mondialisation, altermondialisme, démondialisation. Savoir/Agir, 19, 89-92