شكّل الإخفاء القسريّ المُعتمد على نطاق واسع من قبل النظام السوريّ السّابق وبعض الفصائل المعارضة له أحد الملفّات الأكثر مأساويّة وإيلامًا. وقد فرضت روابط ذوي المعتقلين والمخفيين قسرًا هذه القضية بفعل مأساويّتها أنفسهم في خضمّ التحوّلات السياسية الحاصلة في سورية، بدءًا من فتح المعتقلات في مختلف المحافظات وصولا إلى معتقل صيدنايا، وانتهاءً بما يفرضه اليوم التالي لسقوط النظام. ولئن كانت المفكّرة القانونيّة واكبتْ الجهود التي بذلها ذوو المفقودين على صعيد المنظّمة الأمميّة والتي أسفرت عن إنشاء مؤسّسة دوليّة مستقلّة معنيّة بالمفقودين في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، فإنها تلتزم بمواكبة هذه القضية في المرحلة الانتقالية هذه والتي يؤمل أن تشكل أرضية لإعادة بناء سورية العادلة والديمقراطية.
وفي هذا الإطار، أجرينا حوارا ثانيا مع رابطةعائلاتقيصر[1]، ممثلة برئيستها ياسمين المشعان. ويشار هنا إلى أن ياسمين فقدت خمسة أشقاء في سورية في ظروف مختلفة: ثلاثة فقدتهم برصاص قنّاصة في أثناء مشاركتهم في المظاهرات المندّدة بالنظام في 2012، والرابع “عقبة” تمّ اعتقاله في آذار 2012 وتم إخفاؤه قسريا، وقد تبيّن لاحقا تواجده في أحد معتقلات النظام وتعرّضه للتعذيب بعد التعرّف عليه ضمن الصور التي سرّبها قيصر. أمّا الخامس فتمّ اختطافه من تنظيم داعش بعد دخوله إلى دير الزور في منتصف 2014. وقد غادرت ياسين مع زوجها وأولادها سورية لتلجأ إلى تركيا ومنها إلى ألمانيا والتي حصلت فيما بعد على جنسيتها. كما يشار إلى أن رابطة عائلات قيصر تضمّ ذوي الضحايا الذين تعرّفوا على صور أبنائهم ضمن صور التعذيب في المعتقلات التي سرّبها عسكري سوري سابق انشقّ عن النظام، مُنح اسما مستعارا آنذاك “قيصر” وقد كشف عن هويته الحقيقية مؤخرا في مقابلة خاصّة مع الجزيرة في تاريخ 6/2/2025 (المحرر).
المفكرة القانونية: شكرا لك على الموافقة على قبول دعوتنا لاستكمال الحوار الذي أجريناه سابقا تبعًا لسقوط النظام السوري. ولا بدّ بداية من السّؤال عن كيف تفاعلت وعائلتك مع تطور الأحداث بدءا من لحظة فتح المعتقلات مرورا بسقوط النظام وانتهاء بعودتك إلى سورية بعد انقطاع 9 سنوات؟
ياسمين المشعان: “يعني شو بدي أقول لكم هلأ، من وين بلش؟”. عند بدء المعركة في أواخر تشرين الثاني، تملكتني لأول وهلة خشية من أن تتسبب بمزيد من المجازر والقصف الممنهج على إدلب وغيرها، تعقبها سيطرة النظام على جميع المناطق السورية بما فيها إدلب حيث لجأ ملايين السوريين المعارضين. عندما تحرّرت حلب، وبدأ الإفراج عن المعتقلين، راح قلبي يعزف ويزغرد، واقتنعت حينها أن الرئيس السابق بشار الأسد سيجبر على الجلوس على طاولة التفاوض والحوار أخيرا. لم يكن ببالي أبدا سقوط النظام.
عندما بدأت تصل مشاهد تحرير النساء المعتقلات، في هذه اللحظة، أحسست برعشة في كل خلية من خلايا جسمي ممزوجة بفرح يصعب وصفه. خلال هذه الفترة، كنّا في ورشة عمل مع المؤسّسة المستقلّة في زيورخ، وكان تفكيرنا جميعًا منصبًّا على ما سيحصل في سورية. ومن ثمّ تحرّرت حماه. في آخر جلسة من الورشة، غنّى مازن درويش أغنية “هي يا سجاني، هي يا عتم الزنزانة” (للمغنّي السوري سميح شقير)، وكانت هذه اللحظة مفصليّة بالنسبة لي. فسقطت بكل قوتي وبكيت عن سنة، بكيت عن دهر، حتى في الليل أسعفوني إلى المستشفى. بعد أن تيقّنت أن النظام طور السقوط تبعا لتحرير دير الزور (وهو مسقط رأس ياسمين)، كان كلّ همّي أن أكون بين أهلي وأولادي، وبعضهم وُلد في ألمانيا بعد لجوئنا إليها ولم يعرف قط سورية، لحظة الإعلان الرسمي.
وعندما وصلت إلى بيتي (في ألمانيا)، كنت أنا وجميع أفراد عائلتي في حالة ترقب، ننتظر اللحظة ونقاوم النوم. حتى ابنتي الصغيرة وضعت فرشة إلى جانبي، وأنا أتابع على اللابتوب والموبايل والتلفزيون، وزوجي أيضا. “لحظة ما قالوا أنّ (الأسد) هرب، وسقط النظام، صرّخنا! فزّت بنتي من النوم تقول انتصرنا انتصرنا انتصرنا. هي كانت لحظة لا يمكن وصفها، عم عيدها أنا وعم أحكي وأتخيلها من جديد”. أمّا أمي (هي في تركيا) كانت قد تواصلت معي قبل ذلك وبلّغتني أنّها لن تتابع المستجدّات وأنها تنتظر مني أن أعلمها في حال حصل أي جديد، فاتصلت بها فور سقوط النظام وصرنا نبكي سويّا فرحا بذلك، “دمّ أخوتي ما راح هدر”. شعرنا أن هذه اللحظة يجب أن تخلّد بجميع الطرق. أخي قُتيبة بدوره قال لي كلمتين “زعلان من أبوي ما استنى هي اللحظة”، في إشارة إلى وفاة والدي قبل سنتين.
المفكرة القانونية: نعلم أنك بعد ذلك قررتِ زيارة سورية؟ هل كان القرار صعبًا؟
المشعان: سابقا كنت اتخذت قراراً أنّي، وإن سقط نظام الأسد، لن أعود، “شو بدي لاقي بسورية، شو بدي لاقي غير القبور؟”. أحسّست بحزن عميق وخذلانٍ من هذا البلد، وأنّه لم يعدْ لديّ أيّ علاقة به. قرّرت أن أكتفي بما فعلته، وأتفرغ للأمومة. كلّ هذه القرارات ذهبت أدراج الرياح عند سقوط النظام. أنا وزوجي وجميع أفراد العائلة، الكبير والصغير، حتى منهم من لم يزرها يوما، أردنا العودة. اختلفت جميع المعطيات، وشعرت أن عملنا على الأرض كرابطة بدأ في لحظتها، وأنه حان وقت حراكنا من داخل سورية بعد سنوات من العمل خارجها نحو العدالة. إذ أن سقوط النظام لا يعنِي تحقيقها، بل هو الخطوة الأولى نحو ذلك. “أنا حلمي بيتحقق لما شوف سورية بمصاف الدول الكبرى، سورية حرّة وديمقراطيّة ويسودها العدل”.
طبعا الهدف من الزيارة كان الاستكشاف، ومحاولة تقديم الدعم للمؤسّسة المستقلّة المعنيّة بالمفقودين في سورية عبر تمهيد طريق عملها، من خلال بناء علاقات مع الإدارة السياسية الجديدة وفتح قنوات تواصل معهم وفرصة لتقييم إمكانية انتقالنا كرابطة للعمل داخل سورية.
ولا أخفي عليكم: بكيت طوال رحلتي من ألمانيا إلى بيروت، هذا وكنت قد تبلّغت أخبارا قبيل وصولي عن إمكانية اعتقالي في مطار بيروت كوني مطلوبة في سورية، وهو الأمر الذي لم يحصل. خلال الرحلة من بيروت إلى الحدود السورية، أحسستُ أن الطريق يطول ويطول، وأن الوقت لم يكون يوما طويلا كما كان آنذاك، “كلّ شويّ أسأل السائق: وصلنا الحدود أو بعد؟”. عندما وصلنا إلى الحدود، تجاوزنا الجانب اللبنانيّ بسلاسة، أمّا الموقف المضحك فحصل عند الجانب السوري. فبعدما قدّمت للمسؤول أوراقي الثبوتيّة وبحث عن إسمي على الكمبيوتر، قال لي ضاحكا “مطلوبة أنتِ يا بنتي”. وأنا فعلا مطلوبة من قبل النظام السابق وصادرة بحقّي مذكرات توقيف عن محكمة الإرهاب وقرار بمنع التعامل صادر عن رئاسة مجلس الوزراء.
من هذه النقطة أكملنا طريقنا إلى داخل الأراضي السورية، وكانت اللقاءات مؤثّرة جدّا عند الوصول. إلّا أنّ اللقاء الأجمل كان مع بنات أخي عقبة (اعتقله النظام في آذار 2012 وتمّ التعرّف علىه عام 2015 ضمن صور قيصر)، بعد 10 سنوات من الغياب.
المفكرة القانونية: كيف تعاملتم كرابطة أو كتحالف روابط ذوي المفقودين والمخفيين قسرًا ضمن “ميثاق الحقيقة والعدالة[2]” مع هذه التطورات؟
المشعان: كي أكون صريحة معكم، إن سقوط النظام فاجأ الجميع وضمنا مجمل الروابط المكونة للتحالف وأدى إلى تغيير جميع الاستراتيجيات.
فأولا، في الشهرين الماضيين، عانت معظم الروابط من صدمة عدم العثور على أحبّتها أحياءً ضمن المعتقلين المُفرج عنهم. طبعا هنا أن لا أتكلم عن رابطة عائلات قيصر. فنحن كرابطة لدينا دليل أولي، وهي صور قيصر للجثث، على أنّ الشخص، المخطوف أو المفقود أو المعتقل أو المخفي قسرا، هو متوفٍّ. لكن هل تمّ كشف مصيره بشكل كامل؟ بالتأكيد لا. نحن مصرّون على استكمال طريقنا حتى معرفة جميع التفاصيل الأخرى: “كيف مات ووين مات ومين المسؤول عن موته وأين اندفن؟”. وكل هذه التفاصيل تهمّنا كرابطة كي نعتبر أخيرا أنّه تمّ الكشف عن مصير أحبّتنا، واستعادة رفاتهم ودفنهم وتشييعهم بطريقة لائقة. إلا أن حاجتنا هذه لا تغيّر من واقع أن وضعنا كان مختلفا إلى درجة كبيرة عن باقي روابط الميثاق التي كانت وما تزال تترقب معلومات بشأن ما إذا كان المخفيّون قسرًا الذين تتابع ملفاتهم على قيد الحياة أم لا. فمثلا حركةعائلاتمنأجلالحريّة[3]، كانوا في مرحلة صدمة حين لم يخرج أحدٌ من مفقوديهم من المعتقلات. بشكل عام، كل عائلة لم يكن لديها دليل وفاة، أو معلومات عن فردها المخفيّ قسرا كانت تأمل أن يكون بين المعتقلين المفرج عنهم، وقد صدمت الكثير منها نظرا لقلّة عدد المفقودين الأحياء المفرج عنهم. كانت هذه اللحظات مؤثّرة جدّا نفسيّا، حتى بالنسبة لنا، عندما رأينا العائلات تتعذّب عند عدم خروج أحبّتها ومفقوديها، وكأنّ الجرح فتح من جديد. ولم تعرف روابط الميثاق ما يجب أن تفعل في تلك اللحظة بالذات سواء الصراخ “بدنا الحقيقة” و”وينن؟”، وذلك من دون أن يكون لديها أو لدينا خطط واضحة للتعامل مع ضخامة الحدث.
وأكثر ما يلفت في هذه الفترة هو أن رابطتنا تلقّت خلال الشهرين الماضيين، طلبات بحث من حوالي 800 عائلة فقدت أثر أحد أبنائها منذ الأعوام 2011 و2012 و2013. والمشترك بين هذه العائلات أن معظمهم كانوا في مناطق خاضعة لسيطرة النظام، أو لهم عوائل أو أقرباء موجودون هناك، وكان الوضع الأمني والخوف يمنعهم من التبليغ عن مفقوديهم أو البحث عنهم. هذا مع العلم أن بعضها علم للمرة الأولى بوجود هذه الصور بعد سقوط النظام.
أمّا الإشكال الثاني الذي لاحظتُه بما يتّصل بالعلاقة بين روابط الميثاق فهو ناجمٌ عن إهمال المفقودين لدى تنظيم داعش أو لدى السلطة الحالية التي كانت سابقا “هتش” (هيئة تحرير الشام)، وعدم التعامل والإضاءة عليهم بالشكل المناسب، حتى من قبل الإعلام الذي يركز بشكل كبير على المعتقلين لدى النظام فقط. ومؤدى ذلك أن روابط عائلات المخطوفين من قبل داعش، وأبرزها رابطة مسار[4]، تشعر أنها فقدت قضيتها. فكلّ العالم يتوجه نحو محاسبة النظام، في حين أنّ لهذه العائلات خصوصية، أولا لجهة أن الخاطفين هم جماعات غير حكومية، وثانيّا لجهة أن السلطة الحالية تحصر اهتمامها بجرائم النظام السابق، بدلا من فرض قواعد وآليات عمل تصلح لجميع حالات الإخفاء القسري، أيا كانت الجهة المرتكبة. أذكر أن عائلتي أيضا ما تزال لا ترتقب معلومات عن مصير أحد أشقائي الذي تمّ اختطافه من تنظيم داعش بعد دخوله إلى دير الزور في منتصف 2014.
لذلك نحن حاليا في حالة إعادة تموضع، نحاول من خلالها رسم خطة جديدة حول رؤيتنا للعدالة الانتقالية. وقد صغْنا ورقةً سنشاركها مع المقرّر الخاصّ بالعدالة الانتقالية توضح رؤيتنا الأوّلية حول مفاهيم العدالة، ومطالبنا الأساسية وتخوّفاتنا. ففي النهاية ما يهمّنا هو حصول إقرار بالجريمة من قبل السلطة الحالية حتى وإنّ لم تكن هي المسؤولة، وتعريف الإخفاء القسري ضمن القوانين، والتوقيع على الاتفاقيات الدولية منها اتفاقية الإخفاء القسري وكذلك اتفاقية حماية الأشخاص من التعذيب. وتقريبا وضعنا خطة مبدئية أوليّة للعمل على تحقيق هذه الأهداف، وهذا وضع الميثاق بشكل عام.
المفكرة القانونية: هل هناك أشخاص تمّ توفيتهم رسميّا من قبل النظام وتبيّن أنهم على قيد الحياة؟
المشعان: على حدّ علمي، جميع الذين تمّ توفيته من النظام السابق لم يعد أي منهم. صحيح سرتْ أنباء على السوشيال ميديا بشأن العثور على أشخاص أفرج عنهم بعد أن كان تمّ إبلاغ أهلهم بوفاتهم من قبل النظام. لكن نحن كرابطة لم يردْنا أيّ تأكيد على صحة أيّ من هذه المعلومات من أيّ مصدر قام بالتحقيق يفيد بعكس ذلك.
بالمقابل، هناك حالة موثّقة في حماه عن شخص أفرج عنه، بعد أن كان أهله بادروا إلى توفيته بقرار قضائي، على أساس انقطاع جميع أخباره منذ اختفائه قبل 12 سنة. إذ أن عددًا كبيرًا من العائلات كانت اضطرت إلى توفية مفقوديْها لتسوية قضايا الإرث أو قضايا عائلية ملحّة. وأغلب هذه العائلات صرحت أمام المحاكم بأن هذا الشخص مفقود منذ عدد من السنوات و”يمكن راح بالبحر أو الزلزال الحاصل في 2023″ أو “اعتقل من منظمات إرهابية” من دون أيّ ذكر لاحتمال اعتقاله من قبل النظام خوفًا من تبعات ذلك.
وللأسف، حتى الآن لا يوجد أيّ آلية موحّدة أو ممنهجة للعمل ولرصد المفقودين المُفرج عنهم، لا من قبل الروابط ولا الجمعيات. وحتى الدولة لم تسمح مثلا لـ الآلية الدولية المحايدة والمستقلّة ([5]IIIM) (مهمتها جمع الملفات المتعلّقة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة في سورية)، أو للمؤسّسة الدوليّة المعنيّة بالمفقودين في سورية، أن تباشر عملها.
المفكرة القانونية: ما هو تقييمكم كروابط أهالي الضحايا لعملية فتح المعتقلات والمواقف التي بدرت عنها عند فتحها وفيما بعد؟
المشعان: تقييمنا العامّ لطريقة فتح المعتقلات كان سيّئًا نظرًا لحصول العمليّة من دون الحدّ الأدنى من التنظيم أو الرصد للمعتقلين المُطلق سراحهم أو حتى كتابة للأسماء أو إعلانها، وأيضا بفعل الفوضى التي حصلت في التعامل مع الملفات وحفظ الوثائق. ففي أوّل أيام دخلت العائلات في دوامة من الضياع وسط اختلاط المعلومات في ظلّ زحمة الناس أمام المعتقلات خلال لحظات فتحها. وخلال هذه الفترة، سجّلنا إتلاف العديد من الملفات وسرقة الأقراص الصلبة من الكمبيوترات والكاميرات. ومن المفهوم أن الناس تريد الحصول على دليلٍ يدين النظام بأيّة طريقة، إلّا أن هذه السرقات كان مشكوكًا أمرها بالنسبة لنا. وكأن جهة ثانية كانت مسؤولة عن هذا التخريب المتعمد. لكن ليس لدينا معلومات موثوقة بشأن هذه الجهة ولا بشأن دوافعها وفيما إذا تم عن جهل أو في مسعى لإزالة الأدلة.
يبقى أن العديد من الملفّات تمّ إنقاذها. وقد تسنّى لي أن ألتقيَ لاحقا النائب العام – هو كان النائب العام في إدلب وأصبح النائب العامّ في عموم سورية- وأكّد لي أنهم (أي السلطة الجديدة) يحتفظون بأرشيف النظام السابق الإلكترونيّ والورقيّ والموجود في أكثر من مكان. إذ ابتداء من لحظة الاعتقال يكون للشخص رقم وأرشيف، يبيّن تاريخ وصوله للمعتقل ومكانه، أو في حال نقله إلى المستشفى أو إلى محكمة الإرهاب. بالتالي تصبح إمكانية كشف المصير بحسب النائب العام أقلّ صعوبة مما هو متوقّع، كون النظام كان يوثّق جميع محطات الاعتقال وصولا إلى تركه إشارات تشير إلى مواقع الدفن. وأنا لديّ تأكيد على كلامه بعد أن عثرت على وثائق مشابهة، أشارككم منها تلك التي تتعلّق بملفّ شقيقي عقبة على الأقل. فقد اطلعت على الوثائق التي تشير إلى تاريخ ومكان اعتقاله ورحلته إلى دمشق ومكان إيداعه وتهمته، وأنّه تمّ إرساله إلى مستشفى تشرين 601 للعلاج بعد أن كان يعاني من حرارة وإسهال، فتوفي هناك، مع تحديد تاريخ وفاته ومكان دفنه تحت رقم محدد في مقبرة جماعية. طبعا النظام لم يخصّص للمعتقلين المتوفين قبورًا فردية إنما كان يضع بقاياهم في أكياس مرقّمة. ومن شأن ذلك أن يسهّل عملية البحث ويعوّض بدرجة ما عن الخسارة الناجمة عن إتلاف الوثائق والأرشيفات عند فتح المعتقلات.
وقد أطلقنا كرابطة مواقف إعلامية تشدد على ضرورة حماية الأدلة والوثائق وضبط عملية فتح المعتقلات، وتواصلنا مع دول ومسؤولين، وحتى وصلنا للحكومة الجديدة. وقد أصدرنا في هذا الشأن بيانا رسميّا عن منظمات وروابط ميثاق الحقيقة والعدالة، تمّ نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، وسلمناه إلى وزير العدل بعد أنّ تضمن أكثر من 4000 توقيع، طالبنا فيه بالتحرك الفوري لإيقاف استباحة السجون ومراكز الاعتقال والتعامل معها على أنها مسارح لجرائم وفظائع ضد الإنسانية، ومنع الدخول إليها وطمس معالمها وتصويرها والعبث بما تحويه من وثائق وأدلة؛ وفرض حماية صارمة على المقابر الجماعية ومنع نبشها أو فتحها أو تصويرها من قبل أي جهة كانت قبل وضع خطة تتضافر فيها كل الجهود والخبرات للتعامل أصولاً بما يضمن الكرامة الإنسانية وحرمة المقابر؛ وتأمين وحماية سجلات القضاء والسجون وفروع المخابرات، والتعاون مع المنظمات الحقوقية السورية والجهات المعنية لتسهيل أرشفة السجلات وضمان وصول الأهالي إلى المعلومات الخاصة بأحبائهم[6].
المفكرة القانونية: ماذا عن المقابر الجماعية التي تمّ الكشف عنها؟ ما هو توزعها الجغرافي؟ هل تمّ حمايتها؟ وما هو تقييمكم أو موقفكم بشأن كيفية التعامل معها؟
المشعان: في ما يخصّ المقابر الجماعية، في البداية أيضا كان هناك فوضى عارمة، ولكن حاليّا تمّ حمايتها بدرجة ما. ولكن نحن نعاني في هذا الخصوص من نقص الشفافية الكافية، فنأخذّ أحيانا تحديثات من الدفاع المدني السوري. في الفترة الأولى التي تلت السقوط، كان يتمّ الإعلان فورا عن العثور على أي مقبرة جماعية، فطلبنا منهم أن لا يُعلنوا عن ذلك، خوفا من تتكرر فوضى فتح المعتقلات. كما مراعاةً لما قد يتسبب ذلك بآلام للعائلات، إذ يشعرون أن أبناءهم مدفونون هناك فيذهبون إلى تلك المواقع ما قد يؤدي إلى فتح عشوائي للمقابر. من ثمّ، شهدنا تكتّمًا أكثر حول المواقع، وزيادة في الوعي لدى الناس بأن عملية فتح المقابر تتطلب وقتًا طويلًا، ويجب أن تتم وفقًا لإجراءات دقيقة. وقد حاولنا إيصال هذه المعلومات للعموم بكلّ الوسائل الممكنة، وفي البيان السابق ذكره، سواء من خلال وسائل الإعلام أو من خلال اللقاءات مع العائلات، وعبر تبسيطها بطريقة يسهل فهمها. الأمر الذي يقلقنا أكثر هو تحركات بعض المنظمات التي تتعامل مع الأمر كأنها مشاريع تجارية، وهو أمر غير لائق.
والعدد الدقيق للمقابر الجماعية غير متوفر، ولكن بحسب آخر تحديث حصلت عليه، أنّ العدد تجاوز المئة مقبرة، تتوزع على جميع المناطق السورية، بما فيها الأمكنة حيث كانت تتواجد الحواجز الأمنية، “لأنه كلّ حاجز بدو مقبرة حده”. عدا عن المقابر الاخرى المرتبطة بالسجون السرية وغيرها.
المفكرة القانونية: برزت في العاصمة دمشق صور المعتقلين والمفقودين بشكل لافت، كيف تفسرين هذه الظاهرة؟
المشعان: صحيح. في الفترة الأولى نبعت هذه الظاهرة من أهالي المعتقلين الذين كانوا ينتظرون أحبتهم ويبحثون عنهم فوضعوا هذه الصور على أساس أن الشخص مفقود، لا معتقل، مرفقة بعبارة “تواصل معي إذا لديك معلومات”. وفي الفترة التي تلت فتح السجون، وبعد تداول أخبار تفيد بخروج معتقلين فاقدين للذاكرة، تفاعل الأهالي مع هذه الرواية بنشر صور أحبتهم مع رقم هاتفي للتواصل معهم في حال التعرّف عليهم. أمّا النوع الثالث، فهو بدأ بعد يومين من إطلاق السراح كنوع من العزاء من قبل العائلات التي أيقنت أنّ مفقودها الذي لم يخرج من المعتقلات هو ميّت، فكانت تنشر صوره مقرونة بعبارة “الشهيد المعتقل”. والجدير بالذكر أن معظم هؤلاء المفقودين والشهداء والمعتقلين الذين نشرت صورهم، هم بالأساس أشخاص أهلهم لم يبلّغوا عن فقدانهم حتى. كما أخبرتكم أعلاه، تحت سيطرة النظام، العائلات لم تجرؤ على القول أن ابنها معتقل بسبب رأيه السياسي، خوفا من الوصم المؤذي الذي كان يترافق مع ذلك. أيّ العوائل كانت تخشى أن تقول أنّ لديها معتقلًا خوفا على نفسها وجيرانها وأقاربها، وخوفا من عزلها من قبل المجتمع. والآن هناك ردّة فعل عكسيّة لدى الناس واتجاه للافتخار بأنّ لديها معتقل وربما التعويض أو التكفير عن الفترة التي كانت فيه العائلة مضطرة على كتمان الفقدان.
خلال لقائنا مع الرئيس أحمد الشرع، حضرت سيدة، هي أستاذة جامعية، خطف النظام ابنها، وبعد ثلاثة أيام تمّ تبليغها بوفاته، فنعته على أساس أنه توفي في حادث سيارة. تخيّلوا أنّها لم تقدر أن تعلن أنّ ابنها قتل بعد أن اختطفه النظام، إلى حين السقوط حينما اعترفت أخيرا بذلك وأنّها لم تستلم جثمانه قط، فقط ورقة تفيد بأنّه مات.
كارلا كينتانا، رئيسة المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا، تزور ساحة المرجة في دمشق (المصدر: موقع أخبار الأمم المتحدة)
المفكرة القانونية: ما هو التضامن الذي لمستموه من الرأي العام السوري مع قضية المعتقلين/المفقودين وذويهم؟
المشعان: بداية لا أخفيكما أنّه إبان نظام الأسد، كانت الناس تخاف من متابعتنا أو الاطّلاع على عملنا، حتى أقربائي يخبرونني عن خوفهم ضغط زرّ الإعجاب على منشوراتي. في الفترة الراهنة، وبعد لقاء الرابطة مع الرئيس أحمد الشرع والمقابلة مع قناة الجزيرة ولقاءاتنا المتكررة مع العائلات، أصبح موضوع المفقودين محطّ اهتمام الرأي العام. أمّا بالنسبة للتضامن مع القضية فكان واسعا جدّا، مقابل بعض الأصوات التي اتّهمتنا بالمبالغات المستحيلة في موضوع تعذيب المعتقلين والإخفاء القسريّ. وفي هذا المجال، أشير أنه بالفعل حصل العديد من المبالغات فيما يتعلّق بسجن صيدنايا مثلا، كموضوع المكبس أو التنكيل بالنساء، فسجن صيدنايا لم يضمّ نساء أصلًا. ولكن التعذيب والقتل في المعتقلات حقيقة قائمة، بالأخصّ أن عدد المعتقلين الأحياء الذين خرجوا من السجون ضئيل ولا يتجاوز الـ 4000 معظمهم من العسكر.
الأمر الآخر الذي لمسته هي الأصوات التي تعتبر أن القضية انتهت طالما أنّ المفقودين ماتوا وأن كشف المصير غير ضروري و سيرهق الدولة اقتصاديا. وقد شرحنا لهؤلاء أن كشف المصير ومعرفة الحقيقة هو جزء لا يتجّزء من حقوقنا، مثله مثل المحاسبة. وللأمانة، هذه الأصوات لم تأت من السلطة الجديدة.
المفكرة القانونية: ما هي التقديرات المحدثة لعدد المعتقلين تبعا للتحولات الأخيرة وفتح المعتقلات؟
المشعان: لا أخفيكم أنّ العدد أكبر بكثير من العدد المعلن عنه سابقا. وهذا الاستنتاج هو نتيجة زيارتي لسورية إذ تبيّن أن أعدادًا هائلة من العائلات لم تبلّغ ولم توثّق فقدان أحبّتها، فالعدد يتجاوز ال 200 ألف بحسب تقديراتي الأوليّة. نحن اليوم بحاجة فعلا إلى تدخل المؤسسة الدولية لتؤسس أرشيفا رسميّا.
وهذا دون الحديث عن فئة أخرى تتمثّل بأطفال المعتقلين نفسهم، وهي الفئة التي يرجّح أن نجد كثيرين منها على قيد الحياة. وللأسف قضية أطفال المعتقلين لمّ يتمّ أي تحقيق فيها حتى اللحظة من قبل الحكومة أو من قبل أي جهة دولية أو أممية أخرى. ومؤدى ذلك هو أنه ليس لدينا تقديرات عن عدد هؤلاء الأطفال الذين تمّ تسليمهم لدور الأيتام أو من الممكن أنّه قد تمّ التصرف فيهم بطرق أخرى. هذا وأشير أن لدينا مصادر تفيد باحتمال الإتجار بالأطفال، بشكل مشابه لما حصل في الأرجنتين.
(إضافة من المحرّر: ويشار في هذا المجال أنّ رابطة عائلات قيصر ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا في سوريا، أطلقتا حملة “أين أطفال المعتقلين؟” مؤخرا. وهي حملة عالمية متعددة اللغات تهدف إلى تسليط الضوء على قضية أطفال المعتقلين قسرياً في سوريا الذين تم إخفاؤهم على يد النظام السابق. وتشير الأدلة والشهادات المتزايدة إلى تورّط نظام الأسد المخلوع بالتواطؤ مع بعض دور الأيتام في إخفاء أطفال المعتقلين قسرياً وطمس هوياتهم. وقد وردت تقارير تفيد بنقل أبناء المعتقلين إلى هذه المؤسسات حيث تم تغيير أسمائهم وإخفاء نسبهم، ولا يزال مصير معظمهم مجهولاً حتى الآن. وقد طالبت الحملة الحكومة الجديدة في سوريا، بتسريع عملية التحقيق الشامل والشفاف حول هذه القضية، بما في ذلك التحقيق مع مسؤولي وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السابقة ودور الأيتام المتورطة، والإفصاح عن نتائج التحقيق لذوي المفقودين؛ وحفظ الوثائق والأدلة المتبقية في فروع المخابرات ودور الأيتام ووزارة الداخلية لضمان الوصول إلى الحقيقة الكاملة؛ واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد كل من تورط في هذه الجرائم. كما دعت الحملة منظمة قرى الأطفال الدولية (SOS Children’s Villages) إلى التدخل الفوري والضغط على فروعها في سوريا، والتي اعترفت بإرسال النظام السابق أطفال معتقلين إليها من دون إيضاح نسبهم والتحقيق العاجل والإفصاح عن أي معلومات ذات صلة).
المفكرة القانونية: من يدعو الأهالي للتبليغ عن مفقوديهم؟ الروابط أو هيئات رسمية؟
المشعان: نحن كرابطة ندعو الأهالي لذلك عن طريق آلية تبليغ موجودة على موقع الرابطة وعبر قنوات الإعلام وعن طريق جميع وسائل التواصل الاجتماعي. وحتى لدينا أداة اسمها “يقين” للأشخاص الأمّيين عن طريق الواتساب يمكنهم من خلالها إرسال تسجيل صوتي للتبليغ. ولدينا أيضا آلية للبحث العكسي، حينما يكون لدينا بيانات وإثباتات تشير إلى عائلة المفقود فنبحث نحن عنها لدعوتها إلى الانضمام إلينا.
المفكرة القانونية: كشف قيصر مؤخرا عن هويته، هل كنتم كرابطة عائلات “قيصر” تعرفونه من قبل؟ هل كان لكم تواصل معه سابق للإعلان أو بعده؟ هل له دور في عمل الرابطة؟
المشعان: قبل سقوط النظام، كّنا نتواصل مع شريك “قيصر” سامي وبنينا نوعًا من الشراكة معه. وقد لبّيت دعوة قناة الجزيرة لإجراء مقابلة بعد كشف “قيصر” عن هويّته، حيث نقلت شكر جميع عائلات الرابطة له لأنّه فعليّا أنقذنا من سنوات طويلة من الانتظار، أنقذنا من حالة اللا يقين، أنقذنا عبر توثيق الجريمة، وساهم في زعزعة نظام الأسد. فسقوط النظام لم يبدأ عند قيادة أحمد الشرع لقواته وتحريره دمشق، بل بدأ منذ العام 2011، من أوّل شهيد سقط، من أوّل معتقل اعتقل. طبعا هو (أي قيصر) لم يكن موجودًا في الاستوديو، فهو أساسا موجود في مكان سري لحمايته. من بعدها، حاولنا تنيسق لقاء معه، فاعتذر وقال أنّه غير جاهز نفسيّا للقائنا بعد.
المفكرة القانونية: عقدتم في تاريخ 5/2/2025 جلسة مع مسؤولين في السلطة الجديدة ومن بينهم الرئيس المؤقت أحمد الشرع. ما هي برأيك الظروف التي دفعت إلى هذا اللقاء؟ ماذا كانت أهم مطالبكم؟ وهل لمستم تجاوبا معها؟ وما هي الأمور التي تأملون بها أو تخشون منها؟
المشعان: نحن من البداية نطالب بالمقابلات مع المعنيين في السلطة الجديدة. وقد كان لدينا حالة من الغضب إزاء التأخر في استجابة مطلبنا ونظّمنا كرابطة وقفة في ساحة المرجة في دمشق، وسط حضور إعلامي كبير، وجهنا من خلالها رسالة للمسؤولين، مطالبين بمقابلة على أعلى مستوى من الإدارة الجديدة. وإذ اعتذر الشرع على التأخر في لقائنا، فإنه برر ذلك إنه لم يرد مقابلتنا إلّا بعد حصوله على صفة رسمية “تقديرًا لنا”، وهي صفة الرئاسة. وبحسب كلامه، أنّ اللقاء الأول له بصفته رئيسًا كان مع روابط الضحايا.
اللافت في اللقاء كان أمر لم ننشره بعد بانتظار نشره من قبل الرئاسة (وقد أعلن الشرع عن ذلك في مقابلة بتاريخ لاحق للحوار)، وأشاركه معكم الآن: خلال تواجدنا في اللقاء مع الرئيس، دخلتْ سيدة مسنّة القاعة بعد أن عرّفنا عن أنفسنا، وجلست معنا، واعتبرناها حكما من إحدى عائلات الضحايا. وبعد نهاية اللقاء، وعندما هممنا بالمغادرة، طلب الشرع منا الانتظار “لنشوف الحجّة بعد ما عرّفتنا عن حالها”. فباشرت هذه السيدة بسرد قصّة ابنها الذي كان مفقودا لمدّة سبع سنوات، وأنّها لم تيأس طوال هذه الفترة وبقيّت تبحث عنّه، وشاركت معنا العديد من القصص المتعلّقة به، وأنّها تفهم مشاعرنا. وختمت قصتها بالقول أنّ الله أكرمها وجمعها بابنها الذي أصبح اليوم رئيسا للجمهورية. (إضافة من المحرر: من المعلوم أن الشرع الذي اتّضح أنه ابنها بقي مخفيا قسرا في صيدنايا قرابة 7 سنوات). ولا أخفي عليكم أنه كان لذلك وقع كبير على جميع المتواجدين في الاجتماع بحيث غرقنا جميعا في دموعنا وتحول اللقاء منذ تلك اللحظة من لقاء مطلبي إلى لقاء وجداني. فكأنما الرئيس أراد من استقدام والدته أن يذكرنا أنّه هو أيضا كان ضحيّة الاخفاء القسري والتعذيب وأن والدته كانت لفترة طويلة مثلها مثل عشرات آلاف عائلات المفقودين.
يبقى أن الشرع تعهّد في هذا اللقاء بعدم اعتبار أيّ شخص متوفى إلى حين الوصول إلى دليل ملموس، حتى ولو كانت تمت توفيته من قبل النظام السابق. وقد وعد ببرنامج عدالة انتقالية متكامل يبدأ بكشف المصير والحقيقة والمساءلة ومحاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى، بما فيها استخدام السلاح الكيميائي والقصف والتعذيب والاغتصاب وغيرها. ولكنّه كان صريحا لناحية عدم إمكانية محاسبة الجميع. وقد أصدرنا بيانا تبعا للقاء تضّمن كلّ ما تقدمت به ووعدت به الرئاسة الجديدة بشكل رسمي.[1]
لقاء روابط أهالي ضحايا المعتقلين مع الرئيس المؤقت أحمد الشرع في تاريخ 5/2/2025
المفكرة القانونية: هل التزم الرئيس بالتعاون مع المؤسسة الدولية المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية؟ وهل ينسحب هذا الالتزام على المختطفين من غير النظام السابق؟
المشعان: لا ليس رسميّا حتى الآن. ولكنّ المعنيين تسلّموا منّا قرار إنشاء المؤسسة واختصاصاتها وتلقينا منهم وتحديدا من الرئيس الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني رغبة مبدئية بالتعاون معها مقرونة برغبتهم بالتعاون مع جميع المؤسسات الأممية. وقد تمّ التأكيد على ضرورة كشف مصير جميع المفقودين من دون استثناء.
وأنا طرحت هذا الموضوع من خلال مشاركتي لقصتي الشخصيّة، بحيث ذكرت أنّ لي شقيقًا مخطتفًا لدى داعش. ولاحقا عندما التقينا بأحد مستشاري الرئيس، أكّدت له إنّ نهج المؤسسة إنساني وهدفها كشف المصير فقط، وأنّه في حال قرّر أحد المنتهكين (من غير النظام السابق) التبليغ عن معلومات تخصّ المفقودين، ستكتفِي المؤسسة بها دون أن توجه إليه أي إدانة، وذلك من باب تشجيع الجميع على التعامل مع هذا الملف بحسن نية ومن دون خوف من العواقب.
المفكرة القانونية: قبل الانتقال للحديث عن المؤسسة الدولية، هل تطرحون كروابط ضحايا رؤية ما لمستقبل سورية والأهم لكيفية التعامل مع الماضي؟ وهل تفعلون ذلك كروابط ضحايا أم بالشراكة مع منظمات مدنية أخرى؟
المشعان: إن بناء السلم الأهلي واعتماد رؤية الضحايا هو مكوّن أساسي في هذه المرحلة، لأنّ الضحايا قادرون على تجسير الروابط بين أطياف المجتمع السوري في سياق السردية المشتركة بينهم. ففي النهاية، جميع الأطراف انظلمت من نظام الأسد. حتى الطوائف التي وضعها أداة بين يديه انظلمت، لأنّه هو من وضعها في هذه الخانة. فعلى سبيل المثال أمهات الأشخاص (التابعين للنظام السابق) الذين قتلوا خلال العمليات العسكرية وتمّ نعيهم كشهداء، هل من المعقول أن نسحب منهنّ لقب الشهداء عن أبنائهنّ؟ هل نقول لهنّ ابنكم مجرم؟
وبالتالي هذه الرؤية تبدأ من خلال الحديث مع بعضنا البعض، ومع الناس، ومع العائلات، بهدف تقريب وجهات النظر والمعاناة المشتركة، وصولا إلى طرح أسئلة حول شكل العدالة الانتقالية، وضرورة المسامحة، واعتماد أدوات عقابية غير قضائية كالخدمة الاجتماعية أو العزل السياسي. وبالفعل، كانت هذه الأمور موضع حديث خلال لقاءاتنا مع العوائل، لأننا نريد نقلهم من حالة الرغبة بالانتقام إلى حالة من التصالح مع الذات والرغبة في اتباع مسار العدالة. وقد حاولنا استخدام لغة بسيطة مفهومة والابتعاد عن المصطلحات القانونية البحتة، ليسمعنا الآخر كضحية مثله. وبصراحة لا يزال هذا التصور يتبلور وطور النقاش، بالأخصّ لناحية التجسير بين مجتمعات الضحايا، وإيجاد سبل إنصافِنا كضحايا وشعورنا بالسلام وتحقيق العدالة.
وبالحقيقة، نحن نعمل ضمن نطاق أوسع من روابط الضحايا فقط. فقد شاركنا مؤخّرا في مؤتمر “حوار سوري” في دمشق حول العدالة والحقيقة والإنصاف، إلى جانب عدد كبير من منظمات المجتمع المدني وروابط أهالي الضحايا والناجين، وبحضور معاونة وزير العدل في الإدارة السورية الجديدة. وقد خرجنا بتصوّر جيّد حول رؤيتنا للعدالة الانتقالية وبعض القضايا الأولوية وأسّسنا رؤية موحدة.
*****
المفكرة القانونية: في حوارنا السابق، تناولنا وضع اختصاصات المؤسسة المستقلّة المعنيّة بالمفقودين في سورية ومسار تشكيلها، هل كان لذوي الضحايا دورٌ في وضع هذه الاختصاصات[7]؟ وما هو تقييمكم لما انتهت إليه؟
المشعان: بشكل أو بآخر يمكن القول أن هذه المؤسسة أصبحت مؤسّستنا. ففي قراءتنا للاختصاصات، لمسنا جميع مقترحاتنا وأفكارنا، وبالأخصّ لناحية مشاركة العائلات وآليات العمل. من الممكن القول أن معظم المشاورات التي حصلت معنا حول الاختصاصات تمّ تجسيدها فيها. وأذكر أننا كنّا قد سلمنا مكتب الأمين العام سابقا ورقة مفصّلة حول مشاركة الضحايا وورقة حول آليات الدعم ونظام الإحالة، وحتى حول منهجيات البحث. الموقف الأجمل من الاختصاصات، كان الحملة التي خضناها بخصوص رئاسة المؤسسة ومواصفات هذا الشخص. فكنّا حريصين ألّا تكون الرئاسة منصبا سياسيا فقط، بل أولا منصبا يتمتع شاغله بخبرة كافية في هذا المجال. وقدّ قدمنا ورقة للأمين العام شرحنا فيها هذه المواصفات، أبرزها ألّا يكون من المنطقة بسبب الاستقطابات السياسية، وأن يحوز على خبرة واسعة في القانون الدولي الإنساني وفي مجال البحث عن المفقودين، ويفضّل أن يكون من دول جنوب أمريكا نظرا لتجاربهم المشابهة في شأن المفقودين. وتواصلنا مع أشخاص محتملين وشجّعناهم على تقديم ترشيحاتهم، من بينهم مثلا ياسمين سوكا، التي كانت رئيسة لجنة التحقيق في جنوب السودان. وكان الهدف أن يكون رئيس المؤسسة شخصا ذا ثقة ومصداقية بالنسبة إلينا، ولم يسبق له أن تعامل مع النظام بأي شكل من الأشكال.
وتمّ تعيين كارلا كينتانا[8]، من المكسيك، كرئيسة المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا في 19/12/2024، أيّ بعد بضعة أيام من سقوط نظام بشار الأسد (8/12/2024). وكنّا راضين بهذه النتيجة بعد أنّ اطلعنا على ملفاتها ومقالاتها، وأيقنّا أنّها الشخص المناسب لهذا المنصب. وبالفعل، بعدما قابلتها شخصيّا تأكّدت من ذلك. فهي شخصية لطيفة ومتواضعة وحضنتني قبل أن أعرّف عن نفسي حتى في لقائنا الأوّل في سورية. وذلك عدا عن طريقتها في التعامل مع العائلات. وأعتقد أنّ ما سهّل هذا التواصل هي العادات الشبيهة في المسكيك مع عاداتنا خاصّة ما يتعلّق بمفهوم العائلة، ما ساعدها بالوصول لقلوب العائلات.
المفكرة القانونية: هل ساهمتم في تعريف المؤسسة على العائلات؟
المشعان: كنت حريصة بشكل خاصّ على ردم الهوة بين العائلات وأي مسؤول من الأمم المتحدة بفعل فشل المنظمة الأممية في وقف حمام الدم في سورية وكنت بصراحة خائفة من رفض العائلات لها لهذا السبب، وبخاصة أن اللقاء الأول يرسم خطّ تعاملها معهم في المستقبل. قبل ذلك بأسابيع، كنا رأينا جميعا الفتاة التي رفعت حذاءها بوجه المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، أثناء زيارته لسجن صيدنايا.
أمّا كينتانا فقد أثبتت جدارتها في التعامل مع العائلات، فهي استمعت أوّلا للجميع من دون مقاطعة، وثانيا قالت لهم أنا أم وأعرف أنّه إذا تأذّت ابنتي “ممكن أحرق الدنيا”. وحصل ذلك في سياق اجتماع أول نظّمناه للمؤسسة مع سبعة وعشرين عائلة. أمّا الاجتماع الثاني، فكان في داريا مع عائلات أخرى، زارت المؤسسة خلاله بيت إحدى العائلات وجلسوا على الأرض معهم حول الصوبيا. وقد شكّل ذلك مشهدية تطمئن عائلات الضحايا.
زيارة كارلا كينتانا والعاملين في المؤسسة المستقلة إلى منزل إحدى عائلات المفقودين في داريا
المفكرة القانونية: بعد أن باشر عاملون في المؤسّسة زياراتهم إلى دمشق، كيف تقيمون لقاءاتهم مع المسؤولين الجدد ومدى تعاونهم معهم؟ هل تتوقّعون أيّة عراقيل في عمل هذه المؤسسة اليوم؟
المشعان: التقى العاملون في المؤسسة مع وزيريْ العدل والخارجية. وحسبما ذكروا لي، وهذا صحيح، أنّهما لم يكونا على اطلاع كاف على وجود المؤسسة ودورها. وهم بعد اطلاعهم على ذلك، وعدوا بدرس الأمر بإيجابية ولا سيما أن من شأن المؤسسة أن تخفف عن السلطة عبء هذا الملف الضخم وأن تتحمل تكاليف التعرف إلى هويات الضحايا في المقابر الجماعية وأن تساهم ببناء قدرات وطنية.
أعتقد الخوف من التعاون مع المؤسسة لا ينبع من الحكومة، إنما من بعض المنظمات التي من الممكن أن تؤثر عليها، بالأخصّ تلك التي لم ما تكن مرحبة بالمؤسسة كونها ستفقد دورها ومشاريعها.
أمّا بالنسبة للفصائل العسكرية وبخاصة المتورطة في ملف المفقودين، فنحن لا نعرف فعليّا مواقفها ومدى تأثيرها على السلطة، علما أننا وضحنا أن المؤسسة منهجها إنساني، وهدفها كشف المصير فقط دون المساءلة.
المفكرة القانونية: أي أمور أخرى تودّين لفت النظر إليها.
المشعان: من المهم أن أشير إلى شعور ينتابنا أنّ مبدأ مشاركة الضحايا يضعف، وهو غير واضح بالنسبة للسلطة الجديدة، وحتى بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني التي تحاول أن تقصي دورنا انطلاقا من مواقف نخبوية فوقيّة. نحن نطالب هذه المنظمات بأن تتعامل معنا كشركاء وليس فقط كضحايا، وبخاصة أن الشعب السوري كله ضحايا. وبالواقع، نحن نشعر اليوم أنّنا في أضعف نقطة، بالرغم من أنّ أدبيات العدالة الانتقالية الحديثة تؤكد على ضرورة مشاركة الضحايا. وقد تجّلى ذلك بالأمس عند الإعلان عن تأسيس لجنة الإعداد للمؤتمر الوطني، في ظلّ غياب أيّ تمثيل لروابط الضحايا. ولكن الأكيد أنّنا نطالب أن نكون جزءًا من هذا المؤتمر، ولن نتخلّى عن هذا الحق. مشكلتنا الوحيدة أنّ معظمنا في الخارج، ولا نملك بعد قاعدة شعبية متينة مبنيّة في الداخل، وهو الأمر الذي نسعى له عبر التعريف بالميثاق وبروابط الضحايا. فالناس باشرت بالتعلم بسرعة، وهي تشكّل روابط جديدة، وإن لم تكن منظمة أو ضمن استراتيجيات واضحة. نريد أن نكون جزءًا من برنامج العدالة الإنتقالية، وأن نقدّم رؤيتنا وأفكارنا. وكلّ هذا غير واضح بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني وللسلطة الجديدة.
المفكرة القانونية: شكرا ياسمين المشعان على هذه الإجابات الغنية وعلى نضالك المستمرّ من أجل جلاء حقيقة المخفيين قسرًا وإنصاف ذويهم، وكلّ الأمل بغد أفضل لسورية وشعبها. وتبقى المفكرة القانونية إلى جانبكم طبعا.
[1] مجموعة من العائلات فقدت أحبتها تحت مطرقة التعذيب، ضحايا الاختفاء القسري في معتقلات النظام السوري. وقد استطاعوا التعرف على أبنائهم ضمن الصور المسربة من معتقلات التعذيب والقتل والمسماة “صور قيصر”. وقد تواصلوا وعملوا معاً لشهور طويلة قبل أن يلتقوا في الاجتماع التأسيسي الأول في شباط 2018، في برلين لتأسيس رابطة عائلات قيصر.
وتهدف الرابطة إلى توحيد أصوات العائلات في المطالبة بالحقيقة والعدالة وإعادة الاعتبار لكل ضحايا التعذيب والاختفاء القسري في سورية.
[2] ميثاق الحقيقة والعدالة هو مبادرة سورية مشتركة أطلقتها في 10/2/2021 منظمات ومجموعات تمثل عائلات ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وناجين و ناجيات من الاعتقال، بهدف وضع قضية المعتقلين والمفقودين في قلب الجهود لتحقيق العدالة في سوريا. يعكس الميثاق رؤية موحدة لسبل مواجهة هذه الانتهاكات الممنهجة عبر توثيق الجرائم، ضمان حق العائلات في معرفة مصير أحبائها، والعمل على كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين. يركز الميثاق على تعزيز مبادئ العدالة الانتقالية وحماية حقوق الضحايا وعائلاتهم، مع التأكيد على أن العدالة المستدامة شرط أساسي لتحقيق السلام في سوريا المستقبل.
[3] هي حركة تضم حصرا النساء اللواتي عانيْن من الإخفاء القسري لأحبتهم إن كانوا آباء أو أبناء أو أزواجا أو أخوة، بهدف المطالبة بكشف مصائر أحبّتهم وإطلاق سراح الموقوفين الذين لا يزالون على قيد الحياة
[4] تحالف أُسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية داعش “مسار” وهم من يعملون على ملف الأشخاص المفقودين لدى التنظيم
[5] في 21 كانون الأول/ديسمبر 2016، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار A/71/248، الذي ينص على إنشاء آلية دولية محايدة مستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/مارس 2011.
[6]من أبرز ما جاء في البيان: “إن مأساتنا المستمرة منذ سنين، والتي أملنا بانتهائها منذ اللحظات الأولى لفتح أبواب السجون والمعتقلات، لم تستمر وحسب لأننا لم نرى وجوه أحبتنا بين المفرج عنهم، ولكنها تعاظمت ونحن نشاهد الإهمال والفوضى اللذين لحقا سقوط نظام الطاغية، حيث تركت مسارح الجرائم المتمثلة بالسجون والأفرع الأمنية والمستشفيات العسكرية، وغيرها من المرافق المتعلقة بالملف والتي تحوي على الوثائق والأدلة المرتبطة بمصائر أحبتنا، عرضة للعبث والسرقة والإتلاف، سواء من قبل الأهالي الباحثين عن أي معلومة تدل على أبنائهم، أو من قبل إعلاميين ومؤثرين، أو من قبل فضوليين غير مدركين لفداحة سلوكهم، أو حتى من قبل مخربين يريدون طمس الحقائق وإخفاء الأدلة عمداً. لقد كان ولا يزال التعامل غير الحساس مع حرمة هذه الأماكن ومن مرّ فيها مخزياً، ومع استمرار الإهمال وغياب الحماية، وصل الأمر اليوم بالبعض إلى القيام بطلاء الزنازين وطمس معالمها، مما يشكل بالنسبة لنا إمعاناً فاضحاً وتنكيلاً صارخاً بحق مفقودينا. إلى حين كتابة هذا البيان لم تكلّف الإدارة الجديدة نفسها بالقيام بواجبها بالتواصل أو توفير معلومات أو توجيه خطاب مباشر لنا كعائلات المعتقلين-ات والمغيبين-ات، بل تُركنا لوحدنا لنبحث عن أي معلومة عن أحبابنا عبر وسائل التواصل أو في الوثائق التي تُركت مرمية على أرض السجون وخارج فروع الأمن في دمشق وسواها، مما جعل العديد منا عرضة للمعاناة والاستغلال وانتشار الإشاعات والأخبار المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي زادت من حجم الضياع والألم الهائل الذي عشناه لسنوات طويلة.”
[7] صدر تقرير الأمين العام في تاريخ 1/12/2023 بشأن تنفيذ القرار المتعلّق بإنشاء المؤسّسة المستقلّة المعنيّة بالمفقودين في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، وارفق به اختصاصات المؤسّسة المستقلّة المعنيّة بالمفقودين.
[8] كينتانا خبيرة في مجال حقوق الإنسان وباحثة قانونية ذات خبرة واسعة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، والعدالة الانتقالية، والقانون الدستوري. بصفتها المفوضة الوطنية السابقة للبحث عن الأشخاص المفقودين في المكسيك، قادت الجهود لمعالجة أكثر من 100,000 حالة اختفاء وأكثر من 70,000 جثة مجهولة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.