“هم يعلمون أن أقوالهم ضعيفة ومشكوك فيها…لا بل هم يسعون إلى التّلاعب بالكلمات لأنهم يهدفون بحججهم الفكاهية إلى التشكيك في جدّية محاوريهم …فالمسألة بالنسبة إليهم ليست الإقناع، بل التشويش وإشاعة الذعر”.
هذا ما كَتَبه سارتر في معرض تحليله للخطاب العنصري المُعادي للسامية[1]وهي المقاربة عينها التي تفرض نفسها لفهم الموجة العنصرية الهوجاء ضد المهاجرين وطالبي اللجوء السّود في تونس التي لا تعبأ بالحقائق ولا تهمّها الإحصائيات ولا التداعيات اللاإنسانية على ضحاياها، رغم سعيها المحموم للتجييش ونشر الافتراءات وإشاعة الخوف.
يكتنف الغموض الظروف التي حفّت بانتشار هذه الموجة والجهات الواقفة وراءها أو الفاعلة فيها. ولكن ظاهريا على الأقل يمكن رصد بداياتها من خلال وثيقة نشرهَا ما يسمّى بالحزب القومي التونسي في أواخر السنة الماضية -وهو حزب حائز على الاعتراف القانوني منذ سنة 2018 ومساند لترشح قيس سعيد للرئاسة سنة 2019 ولم يكن يُعرف له أي نشاط ذو شأن سابقا- حول “مشروع الاستيطان الاجصي[2] وإزالة تونس من الوجود” التي وجّهَها إلى جهات رسمية عدة بما فيها رئاسة الجمهورية، وأطلق كذلك عريضة تٌطالب بترحيل المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بوصفهم رافعة لهذا المشروع الذي تقوده قوى خارجية، إضافة إلى المطالبة بتعديل قانون مناهضة الميز العنصري الذي أقرّه المجلس التشريعي سنة 2018. لم تحظَ هذه العريضة في أسابيعها الأولى سوى باهتمام بعض العشرات من متابعي صفحة الحزب على الفايسبوك، الذين لم يتعدَّ عددهم إلى أواخر شهر جانفي 3200 مشترك. لكنّها تزامنت مع تصريحات إذاعية لوجوه إعلامية ووزير أملاك دولة سابق بدأت بدورها تروّج أفكارًا عرقية فظّة حول التزايد المشط ” للأفارقة في تونس” وخطر “الاستبدال العظيم”.
ومع منتصف شهر جانفي، توسّعَ صدى الحملة في غضون إعلان الحزب القومي التونسي عن بداية العمل “الميداني” عبر انخراط عنصرين منه في تجميع الإمضاءات للعريضة في منطقة رواد التابعة لولاية أريانة وسط العاصمة. واكتسبت هذه الحملة مرئية متصاعدة على شبكات التواصل الاجتماعي وبالخصوص “التيك توك”، ووسائل الإعلام الخاصة والوطنية، وتعدّدت أشكالها (فيديوهات، مقالات…)
وبلغت هذه الحملة ذروتها إثر تصريحات رئيس الجمهورية غداة دعوته إلى انعقاد مجلس الأمن القومي في 21 فيفري 2023 الذي أعلن فيه تبنّيه مقولة “الاستبدال الكبير” المؤامراتية وضلوع مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء فيها متّهما “جحافل المهاجرين الغير نظاميين” بـضلوعهم في “العنف وجرائم وممارسات غير مقبولة”. نجم عن هذه التصريحات ما كان متوقعا، إذ شاعت الشهادات عن اعتداءات استهدفت السود الأجانب، وحتى التونسيين الذين يمثلون بحسب بعض تقديرات المجتمع المدني التونسي ما بين 10 و15% من مجمل السكان[3]: عنف، إيقافات عشوائية على لون البشرة، إذلال، اعتداءات على الممتلكات، طرد من العمل، طرد من محلات السكن، تحريض على العنف. وانتشر الخوف في صفوف المهاجرين من جنوب الصحراء، وسط أجواء تذكّر بالهوس الكولونيالي للرجل الأبيض من السود.
هكذا وفي غضون بضعة أسابيع تحوّل المهاجرون وطالبو اللّجوء من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس إلى “القضية” السياسية المركزية في بلد لا يمثّلون فيه بحسب الإحصاءات الرسمية غير 36,4% من مجمل الأجانب المقيمين، والذين بدورهم لا تتجاوز نسبتهم 0,5% من مجموع السكّان[4]. إضافة إلى أن أكثر من 65% منهم، مثلما تشير إلى ذلك الأرقام الرسمية منذ سنتين، لم تكن لهم قط نية الاستقرار في تونس.
في فوائد” الطاّبور الخامس”
من الصّعب التسليم بعفوية هذه الحَملة وتلقائية نسقها التصاعدي والحال أنها استفادت منذ انطلاقها من تغاضي السلطة عنها في مخالفة واضحة للقانون المُجرّم للعنصرية في تونس، ثم فتحت لها منابر إعلامية، لا بل تم استقبال أحد نشطائها من قبل والي أريانة لينتهي الأمر بتزكية أطروحتها حول المؤامرة الاستيطانية من قبل رئاسة الجمهورية. إن مقولة خطر الاستيطان، الذي يمثله المهاجرون بوصفهم طابورا خامسا والتي دأب سياسيون وحكومات من أقصى اليمين أو اليمين المحافظ في أصقاع عديدة من العالم على الترويج لها، تخفي مرام سياسية هدفها ترميم شرعية هؤلاء المهتزة وكسب الاعتراف السياسي بهم.
على سبيل المثال في عام 2019، حين تدهورت الأوضاع الاقتصادية في الهند وبلغت نسبة البطالة أعلى درجاتها ولاقى ذلك انتقادا شديدا من المعارضة، لم يتوّرع ناردرا مودي في حملته الانتخابية الجديدة من تأجيج هجمة مسعورة ضد المهاجرين الوافدين من بنجلادش واتهامهم بتهديد الأمن في البلاد ليُسدي لنفسه دور المنقذ لوطنه. وفي فرنسا اعتمدت الاستراتيجية الإعلامية لليميني المتطرف أريك زمور على مقولة “الاستبدال الكبير”، وهو المعتز باسلاموفبيته والمبرر للاستعمار، ليتحول بذلك من مجرد وجه اعلامي مجادل إلى مرشّح رئاسي مُعتبر.
“الاستبدال الكبير” في نسخته التونسية كما يروّج لها الحزب القومي التونسي ويتبنّاها رئيس الدولة لا تختلف كثيرا عن الأصل، مثلما ظهرت في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر ثم نظّر لها الكاتب موريس باراس أحد أهم مفكري أقصى اليمين الفرنسي الشوفيني في فترة ما بين الحربين، ثم روّجَ لها منذ 2010 الكاتب الفرنسي اليميني المتطرف رونو كامو الذي أدين قضائيا من أجل الحث على الكراهية. فالمقولة التي فرَضت نفسها اليوم في الدول الغربية، التي نخرتها تيارات أقصى اليمين العنصرية والإسلاموفوبيا، تعتقد في وجود مؤامرة تقف وراءها نخب معولمة تهدف إلى تغيير البنية الديموغرافية للسكان البيض المسيحيين الأصليين وتعويضهم التدريجي بسكان أجانب بالأساس سود ومسلمين منحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء وبلدان المغرب [5]. أما نسختها التونسية فقد اكتفت بإسقاط المغاربة واستهداف السود واتّهامهم تباعا بالسعي إلى الإجهاز على الهوية العربية الإسلامية لتونس. وفي كلتا الحالتين، فإنّ المتّهم بالضلوع في مؤامرات الاستبدال هو نفسه، أي الحلقة الأضعف في هذه المجتمعات، تلك الفئة الواقعة في أسفل السلّم الاجتماعي والمنبوذة اجتماعيا والتي لا حرج في استلاب كرامتها والتأليب ضدّها وتعريضها للهرسلة الأمنية والاستبعاد الاقتصادي.
المنبوذون القادمون بالأساس من ساحل العاج والكونغو الديموقراطية وغينيا ومالي والذين تستهدفهم الحملة العنصرية اليوم في تونس هم من أكثر المجموعات هشاشة في مجتمعنا، يُمثّلون معدل السن الأصغر ضمن مجموع الأجانب المقيمين في تونس (26،6 سنة) ويضمّون النسبة الأضعف من حيث التحصيل على شهادة جامعية. وهم في غالبيتهم الساحقة عمّال (أكثر من 98%) يشتغلون في القطاعات الأقل تخصّصا وبالتالي الأكثر عطوبة ومكابدة واستغلالا: 60% منهم في الخدمات، 20,5 % في البناء 21,5% عَمَلة منزليون[6]. أي أن عطوبتهم ورفض الدولة تسوية وضعياتهم جعل منهم لقمة سائغة في أيدي مشغليهم. كلّهم منحدرون مثلنا من دول عرفت الاستعمار، تعيش أزمات اقتصادية خانقة، بعضها خرّبته النزاعات المسلحة والنهب الممنهج لثرواته.
اعتماد خطاب المؤامرة واستحضار صورة “العدو الداخلي”، التي شاعت زمن الحرب الباردة، ضدّ المجموعة الأقل قدرة اليوم في تونس على الدفاع عن نفسها وعن حقوقها لا يمكن فصله عن وظائفه السياسية. فالنتيجة البديهية الأولى “للمؤامرة” هي شرعنة حالة الاستثناء، لأن”المؤامرة” تنزع أي شرعية عن التشابك والاختلاف والنقاش في المجال العام. “المؤامرة” تقتل السياسة على مذبح الأمن، وتعطي الحاكم وأجهزته الأمنية كل الصلوحية لإقصاء المختلفين وعقاب المنتقدين وتخوين الرافضين و تطويع وترويض كل الأجسام التي تُعتبر مارقة. “المؤامرة” باعتمادها على “عدو داخلي” يُستعار في تمثّله المخيال الاستعماري الذي حرّض دائما على توحيش السود، تُشيع الخوف و تؤجج التوتر الإثني وتفسح المجال لغلبة الانتماء العرقي على حساب الانتماء الإنساني والتضحية بالهوية الطبقية لصالح الهوية القطرية والتنازل عن الفعل الاحتجاجي على حساب الفعل الفردي الغوغائي. “المؤامرة” توظّف الخوف من الآخر كأداة سياسيّة، ليصبح مبرّرا للسيطرة والإخضاع والتحكّم والرقابة الداخلية. و”المؤامرة” تسمح أيضا بتحويل وجهة الرؤية عن غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار ونفاذ المواد الأساسية واستفحال الفقر والتهميش وغياب أي تصور لسياسة اقتصادية واجتماعية بديلة عن تلك التي اتبعتها الحكومات السابقة. وفي وضعنا الحالي الذي تبحث فيه الحكومة عن إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي تلتزم فيه بتطبيق “إصلاحات موجعة”، فإن “المؤامرة” تُتيح الفرصة للتغطية على استكمال الانقضاض على الدولة الراعية.
و”المؤامرة” التي تتماهى مع أطروحات أقصى اليمين الأوربي لها فوائد خارجية أيضا، فهي من جهة تخفّف بعضا من الضغط الذي تمارسه الحكومة الإيطالية على تونس لحثها على مزيد تكثيف “جهودها لمكافحة ظاهرة الهجرة غير النظامية”،[7] إذ نجحت حالة الرعب التي خلقَتها في صفوف المهاجرين من جنوب الصحراء على دفع الكثير منهم إلى البحث عن مغادرة التراب التونسي وحملهم على قبول الترحيل، وهي بالمحصلة نتيجة لا يمكن أن تستسيغها سوى إيطاليا برئاسة يمينة متطرفة جعلت من الترحيل القصري أحد أولوياتها. و”المؤامرة” من جهة ثانية تَجلب الاعتراف السياسي الأوروبي بالسلطة من خلال تأكيد ثباتها في اختيار المقاربة الأمنية في إدارة ملف الهجرة وقدرتها على مواصلة لعب دور الحارس للحدود الأوروبية[8].
“المؤامرة” تُتيح الفرصة للتغطية على استكمال الانقضاض على الدولة الراعية
تابو العنصرية ضد السود
بمعزل عمّا يجسّده انتشار الاعتداءات الجماعية والفردية على المهاجرين وطالبي اللجوء السود والتحريض ضدهم من “أعراض مرضية” تحدّثَ عنها غرامشي في معرض تعريفه للأزمة البنيوية والتي لم تزد إلا استفحالا في الحالة التونسية منذ 25 جويلية 2021، فإنها ترفع من جديد الستار عن تابو العنصرية المؤسساتية والإقصاء البنيوي الذي يعاني منه السود في البلاد والذي يستمدّ جذوره من مؤسسة العبودية[9].
الموجة العنصرية القبيحة اليوم تخترق السردية المهيمنة عن مجتمع التسامح و”الدولة العربية الأولى التي ألغت العبودية” وتذكّر بمعطيات تاريخية واجتماعية سعى باحثون وناشطون بفضل زخم الثورة إلى تعريتها وتفكيك الإنكار التاريخي لها[10]. فمخلّفات مؤسسة العبودية ورواسبها لا فقط في الوعي الجمعي بل خصوصا في البنى السلطوية والسياسية هو من الماضي الذي لم يمض في تونس. خلافا للخطاب السائد لم تنتهِ العبودية بمرسوم سنة 1846 الذي صدر في عهد أحمد باي، بل اقتضى الأمر إصدار مرسوم جديد ضدها سنة 1890. ورغم ذلك لم يُوضع حد لاستعباد المعتوقين الذين وإن تطورت أوضاعهم تدريجيا وتخلصوا من “العبودية التقليدية” إلا أنهم ظلّوا مدينين لأسيادهم القُدامى بقدر من ثمرة عملهم وبجزء من وقتهم للعمل المجاني عند الأسياد.
لم تمحُ دولة الاستقلال العنصرية والوصم تجاه أحفاد العبيد السود، إذ حافظت على بقايا من أشكال استعبادهم عبر مؤسسات اجتماعية مثل “الخُمس” أو”المروبين”. [11]وظل الزواج المختلط محظورا وألحِقت بأوراق هوياتهم إشارات متعددة لاستعبادهم القديم، ودُفنوا في مقبرة منفصلة في مدينة جربة وظلوا غير مرئيين، وبقي سواد المجتمع الأبيض التونسي في حالة إنكار للعنصرية و”تمّ فسخ العبودية من الذاكرة الجماعية باستثناء الإشارة إلى قانون إلغائها”.
ورغم ما أتاحته الثورة من مساحة للتنظيم الذاتي لناشطات ونشطاء سود وحشد الدعم لتبنّي القانون المناهض للعنصرية فإن التشريع لم تعقبه إجراءات عملية وبقيت الدولة على سلبيتها في معالجة العنف المادي والمعنوي ضد السود وحمايتهم من الاعتداءات العنصرية. لا بل إن الإمعان في لعب دور حارس حدود أوروبا لم يزد إلا من إنتاج المآسي بيننا وعلى الحدود، ولم يحمنا من سجلّ عنصريّ عنيف من التمثلات التحقيرية والمجردة من كل انسانية للسود والتي شرعنت فيما مضى الحملات العدوانية الاستعمارية الأوروبية ومنظومة امتيازاتها.
تمّ فسخ العبودية من الذاكرة الجماعية باستثناء الإشارة إلى قانون إلغائها
نشر هذا المقال في العدد 26 من مجلة المفكرة القانونية-تونس.
[4] على سبيل المقارنة يحتضن بلد مثل لبنان مليون ونصف لاجئ سوري وهو ما يمثل حوالي 30% من مجمل سكانه حسب أرقام الاتحاد الاوروبي.
[5] نتذكر جميعا على سبيل المثال ما قام به سنة 2019 نيوزلندي بعد أن شرح في بيان خطر انتشار الإسلام في نيوزلندا في إبادة البيض، من اغتيال لـ 51 مسلما وجرح 49 آخرين في هجوم مسلح على مسجديْن.
[6] كل هذه الأرقام متأتّية من تقرير المسح الوطني للهجرة الصادر عن المرصد الوطني للهجرة والمعهد الوطني للإحصاء.
[7] كما أعاد التأكيد عليه وزيرا الداخلية والخارجية الإيطاليّين خلال زيارتهما إلى تونس في جانفي الماضي.
[8] وهو ما يؤكده كل المتابعين الجديين لملف الهجرة مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومجدي الكرباعي.
[9] Houda Mzioudet, “Breaking the racial taboo : Black Tunisian activism as transnational Justice” in Tansitional Justice in Tunisia. Innovations, Continuities, Challenges. Edited by Simon Robins and Paul Gready, Routledge, 2022.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.