لم تبدِ السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة على مدار السنوات العشرين الأخيرة أدنى اهتمام بسوق العمل. فالعمّال يواجهون مصاعب كبيرة وأساسية تحول دون تمكينهم من الاستمرار في العيش بمستوى لائق. وأبرز هذه المصاعب هي تعرّضهم للصرف التعسّفي.
يستقبل “المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين” شكاوى عديدة من العمال لدى تعرّضهم لانتهاك في مكان العمل ويقدّم المشورة لهم. وقد بلغت نسبة الاستشارات التي قدمها “المرصد” إلى العمال حول قضايا الصرف التعسّفي 43% و47% من مجمل الاستشارات التي قدّمها خلال عامي 2017 و2018 على التوالي. وإذا كان العمال يسارعون إلى طلب الاستشارة القانونية عند تعرّضهم للصرف، فذلك لا يعني أن الصرف هو المشكلة الوحيدة التي يعانون منها. فغالبية العمال يغضّون النظر عن الانتهاكات التي يتعرضون لها مقابل الاستمرار في العمل في ظل أزمة التشغيل التي يعاني منها سوق العمل اللبناني.
وبالرغم من الحماية الخجولة التي تقدمها القوانين للعمال، لا يتورّع أصحاب العمل عموماً عن توسيع مروحة انتهاكاتهم، كلما استطاعوا. والانتهاك الأكثر انتشاراً في هذا الإطار يتعلّق بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فبحسب الإحصاء المركزي للعام 2007 يتمتّع 55.9% من الأجراء فقط بحماية صحية واجتماعية دائمة. ولا تقتصر الانتهاكات في هذا السياق على عدم تصريح جزء كبير من أرباب العمل عن العاملين لديهم، بل تشمل انتهاكات أخرى. ففي تقرير يعدّه المرصد حالياً عن الانتهاكات في سوق العمل واستناداً إلى عيّنة من العمال الذين تم فعلاً التصريح عنهم للضمان، تبيّن أن 45% منهم لم يتم التصريح عنهم خلال الأشهر الستة الأولى من العمل، وذلك خلافاً للقانون الذي يلزم بالتصريح خلال 10 أيام من بدء العمل. و50% من العيّنة نفسها تم التصريح عنها بأجر أقل من أجرها الحقيقي.
وتواجه فئات أخرى انتهاكات واسعة أيضاً تحتاج إلى اهتمام كالتمييز الذي تتعرض له النساء، وعمالة الأطفال، والانتهاكات التي يتعرض لها العمال من مجتمع الميم والعمال المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة (HIV)، والعمال غير اللبنانيين إضافة إلى نظام الكفالة وغيرها.
غياب الرقابة الحكومية وضعف أداء النقابات العمالية
يعود تفشّي ظاهرة الانتهاكات واللانظامية بشكل رئيسي إلى تقاعس الحكومات المتعاقبة عن القيام بدورها في حماية الفئات الاجتماعية الأكثر تهميشاً، وإضعافها الجهازين الرقابي والتفتيشي. وبدلاً من وضع سياسات حماية عادلة والعمل على تنفيذ أحكام القوانين المرعية الإجراء، دأبت الحكومات اللبنانية المتعاقبة على رفع هذه المسؤولية عنها وتحميلها لعوامل خارجية عبر كلام أقل ما يقال عنه إنه غوغائي، مثل لوم الفلسطينيين تارة والسوريين تارة أخرى، معززة بذلك خطاب الكراهية والعنصرية الذي يستند أساساً إلى فكرة التشغيل واتهام العمال غير اللبنانيين بـ”سرقة” فرص العمل من اللبنانيين.
ويُشار هنا إلى أن سوق العمل اللبناني يوفر سنوياً حوالي 11 ألف فرصة عمل فقط، بينما هناك 45 ألف وافد جديد إلى سوق العمل منهم 30 ألف من حملة الشهادات التعليمية العليا. وبالتالي فإن خطة وزارة العمل الهادفة إلى تقليص العمالة غير اللبنانية لا تستطيع أن توفر فرص العمل للبنانيين ولن تساهم سوى في تعزيز خطاب الكراهية والعنصرية وما ينتج عنه من آثار أمنية واجتماعية، تحوّل الأنظار عن المشكلة الأساسية، وهي مسؤولية الحكومة في وضع خطة تنموية للعمل من أجل تحسين نوعية حياة السكان والمقيمين على أراضيها.
ومن الأسباب الأساسية لهشاشة وضع العاملين في سوق العمل، هو التغييب الكلّي للاتحاد العمالي العام عن ساحة الصراع الاجتماعي نتيجة هيمنة القوى السياسية الطائفية على أجهزة النقابات والاتحاد وتالياً تغليب الهوية الحزبية والمصالح المرتبطة بها على الهوية والمصالح العمالية. وقد أطاحت هذه الهيمنة بإمكانية قيام حوار اجتماعي حقيقي بين أطراف الإنتاج وسمحت بتفشي ظاهرة القهر الاقتصادي والاجتماعي، وتهشيم الاقتصاد الوطني. فلو أخذنا على سبيل المثال قضية الأجور، نجد أن التعديل الأخير للحد الأدنى حصل في العام 2012 وكان تعديلاً هزيلاً. ولغاية اليوم لم تطرح مجدداً قضية الأجور جدياً حتى بعد تغيير قيادة الاتحاد. ويبلغ معدّل الأجور من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني 30% في حين أن معدل الأجور من الناتج المحلي في اليونان – التي سبق أن أعلنت إفلاسها – وصل إلى 50% ومعدل الأجور نسبة إلى الناتج المحلي في سويسرا تجاوز 60%.
توضح مسألة الأجور مدى أهمية دور النقابات ليس على مستوى حماية الفئات العمالية فحسب، بل أيضاً على مستوى دفع الاقتصاد الوطني قدماً حيث يساهم إرساء معدلات عادلة للحد الأدنى للأجور ودعم القطاعات الإنتاجية المولّدة لفرص العمل في تعزيز الاقتصاد المنتج كبديل للاقتصاد الريعي الحالي الذي لا يساهم سوى في توسيع الهوة بين الأكثر ثراءً والأكثر فقراً. وتنتج هذه الهوة الآخذة في التوسّع عن غياب العمل النقابي الذي أحدث فراغاً كبيراً في جسم قوى الاعتراض الاجتماعي التي تتخذ شكلين مختلفين. قوى الاعتراض التي تدافع عن المصالح القطاعية المحددة وقوى الاعتراض التي تدافع عن المصالح العامة.
أولاً: قوى الاعتراض التي تدافع عن المصالح القطاعية المحددة
أكبر هذه القوى هم الموظفون في القطاع العام الذين بدأوا سلسلة تحركات للدفاع عن قضايا محددة ومرتبطة بالقطاع العام وافتتحت هذه القوى نشاطاتها في معركة سلسلة الرتب والرواتب. وبحسب تقارير رصد التحركات والاحتجاجات التي يصدرها “المرصد” سنوياً، تنطلق أغلبية التحركات المطلبية التي تشهدها الساحة اللبنانية من قضايا متعلّقة بالقطاع العام نفسه، حيث تشكّل 60% من مجمل التحركات سنوياً – باستثناء فترة حراك المجتمع المدني – ومع ذلك يمكن ملاحظة “هدوء” الحركة المطلبية الاحتجاجية التي يقودها القطاع العام مع إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب. (ولا نزال نشهد بعض التحركات المبعثرة التي تحتج على بعض جوانب الإخلال في تطبيق هذا القانون).
وتنطلق التحركات التي يشهدها القطاع الخاص، رغم ندرتها، أيضاً من خلفية الدعوة إلى تطبيق القانون وتصحيح الأجور وعدم الصرف من العمل، ولم نشهد أية مطالبة بتحسين ظروف العمل أو تحركات عامة في مواجهة السياسات العامة وغياب دور الدولة في الرعاية الاجتماعية.
ثانياً: قوى الاعتراض التي تدافع عن مصالح عامة
يُفترض أن تقوم النقابات والاتحادات النقابية بهذا الدور باعتبارها أحد أطراف الحوار الاجتماعي. ولكن تغييب دورها قاد إلى هذا الخلل الكبير في بنية وقدرة المجتمع المحلي على إطلاق حملات مواجهة والضغط لتغيير السياسات، وأدى إلى غياب الرقابة الاجتماعية والسياسية وضعف التأثير على صانعي القرار.
وأتاح هذا التغييب الكلي للدور النقابي المجال للحركات الاجتماعية المعاصرة لملء الفراغ حيث خاض الحراك المدني أول تجاربه في مسألة النفايات. وحلّ أزمة النفايات يعبر عن مصلحة عامة يستفيد منها جميع اللبنانيين. وبمعزل عن أداء الحراك الاجتماعي والآراء التي يمكن الإدلاء بها عن طريقة عمله ومدى نجاحه أو فشله، إلا أن ذلك يؤشّر بشكل لا يختلف عليه اثنان على أنّ النقابات والاتحادات النقابية لم تعد الوحيدة المعنية بالقضايا العامة، وأن المجتمع المدني لا بد أن يكون طرفاً في الحوار الاجتماعي نظراً لقدرته على الحشد والتأييد، لا بل هو مطالب – في ظل اهتراء الجسم النقابي – بأن يقوم بدور أساسي في الصراع الاجتماعي.
لقد آن لمنظمات المجتمع المدني أن تتخلى عن جزء من دورها التقني والخدمي وتفسح مجالاً لدور جديد يجب أن تضطلع به، ألا وهو الاهتمام بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية وجعلها محور عجلة أنشطتها لأن قضية الحماية الاجتماعية هي قضية كل الفئات الاجتماعية. إنها قضية النساء، والأطفال، وكبار السن، واللاجئين -النازحين، وأفراد مجتمع الميم، والمعوقين حركياً… هؤلاء جميعاً بحاجة إلى حمايات على مستوى الصحة والسكن، والغذاء، وجزء كبير منهم يحتاج إلى حماية على مستوى توفير التعليم بجودة عالية، وتوفير فرص عمل لائق.
وربما تشكل شبكة “عملي، حقوقي” خطوة أولى على مستوى الدفع باتجاه تبنّي منظمات المجتمع المدني لخطاب الحماية الاجتماعية المعبّر عن مصلحة أغلبية المجتمع المحلّي يكون بديلاً عن خطاب الكراهية والعنصرية الذي يتم نشره بشكل وقح مؤخراً في محاولة لرفع المسؤولية عن أصحاب القرار الذين قادوا البلاد إلى هذا المستوى من التردّي الاجتماعي والاقتصادي. و”عملي، حقوقي” هي عبارة عن سلّة متنوعة من الجمعيات التي تهتم بقضايا مختلفة، مثل القوانين، والعمال، واللاجئين، والعاملات المنزليات، والمعوقين حركياً ويشمل عملها فئات وشرائح اجتماعية مختلفة مثل أفراد مجتمع الميم، وغير اللبنانيين، والنساء، والفلسطينيين إلخ. وتحاول 10 منظمات تهتم بقضايا مختلفة أن تتعاون من أجل قضية موحّدة هي قضية الحماية والعدالة الاجتماعية.
- نشر هذا المقال في العدد | 61 | تموز 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة