في 2020، منح مجلس نوّاب الشعب التونسي ثقته لحكومتين. اختار رئيس الحكومة الأولى إلياس الفخفاخ لها اسم “حكومة الوضوح واستعادة الثقة”، وكانت سياسية يساندها حزام برلماني قيل حينها إنّه يمثّل الخط الثوري. وقد انتهت مدّة عمل هذه الحكومة بعد خمسة أشهر فقط من بدايتها بسبب خلافات بين الأحزاب المكوِّنة لها وشُبهة تضارب المصالح التي لاحقت رئيسها وأجبرته على الاستقالة. أمّا الحكومة الثانية فكانت في توصيفها حكومة تكنوقراط ولم يكن لديها برنامج عمل مسبَق الإعداد ولا التزام سياسي غير التنسيق مع حزامها النيابي. ورغم تمايز الحكومتين في خطَّيْهما وتوجُّهَيْهِما ساد الحديث عن تطابق في تعاطيهما مع استحقاقات ملفّ العدالة الانتقالية وتمسّكهما بإنفاذها، وهو تعاطٍ يقطع مع لامبالاة الحكومات السابقة. وعليه، يُذكر لحكومة الفخفاخ أنّها نشرت التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة في الجريدة الرسمية، فيما يُذكر للحكومة الثانية أنّها تولّت فتح صندوق الكرامة وإيجاد مخرج يسمح لاحقاً بنشر قوائم شهداء الثورة وجرحاها.
نشر تقرير هيئة الحقيقة والكرامة النهائي
يوجب الفصل 67 من قانون العدالة الانتقالية على هيئة الحقيقة صياغة تقرير يتضمّن أهمّ أعمالها من تاريخ إنشائها حتّى انتهاء مهامّها وأن تقدمّه إلى رئيس الجمهوريّة ورئيس المجلس المكلَّف بالتشريع ورئيس الحكومة، ويُلزم الأخيرَ بنشره في الجريدة الرسمية. وفي هذا الإطار سلّمت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين تقرير هيئتها النهائي إلى رئيس الجمهوريّة في تاريخ 30 ديسمبر 2018، وبعد ثلاثة أشهر، سلّمته إلى بقيّة الرئاسات ونشرته على موقعها الرسمي، غير أنّه لم يوجَّه للنشر. عرفت سنة 2020 في بدايتها حراكاً حقوقياً هامّاً قاده ائتلاف كبير بين جمعيّات المجتمع المدني، كان مطلبه الأساسي نشر التقرير الذي عُدّ عنوان التزام السلطة بإنفاذ قانون العدالة الانتقالية ومدخلاً إلى تنفيذ توصيات الهيئة، أدّى بالحكومة إلى نشر التقرير في 24 جوان 2020.
فتح حساب صندوق الكرامة وردّ الاعتبار
ينصّ الفصل 41 من قانون العدالة الانتقالية على إحداث صندوق الكرامة وردّ الاعتبار الذي سيتولّى مسؤوليّة تنفيذ برنامج التعويض الفردي الشامل والجماعي لضحايا الاستبداد. وتولّى المشرّع بموجب الفصل 93 من قانون الماليّة لسنة 2014 استحداث حساب خاصّ في موازنة الدولة لهذا الصندوق.
أصدرت رئاسة الحكومة التونسية، لاحقاً، الأمر الحكومي المحدِّث له والمحدِّد لمصادر تمويله. في المقابل، وبسبب ما أُثير من جدل مجتمعي حول الحقّ في التعويض لضحايا الحقبة الاستبدادية والحديث عن عدم قدرة الموازنة العامّة على تحمّل هذا العبء، تعطّل فتح الحساب الجاري للصندوق وتركيز الإدارة المشرفة على عمله ما فرض حراكاً قادته الجمعيّات المدافِعة عن حقوق الضحايا انتهى بفرض فتح الحساب في الأسبوع الأخير من سنة 2020.
نشر قوائم شهداء الثورة وجرحاها
يعرّف الفصل السادس من المرسوم عدد 97 لسنة 2011 “شهداء الثورة ومصابيها” بأنّهم “الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم من أجل تحقيق الثورة ونجاحها واستشهدوا أو أُصيبوا بسقوط بدني من جرّاء ذلك ابتداء من 17 ديسمبر 2010 إلى 19 فيفري 2011”. وأسند مسؤولية إعداد القائمة النهائية التي تحصيهم إلى لجنة لدى الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحرّياّت الأساسية تسمّى “لجنة شهداء الثورة”. وقد بدأت هذه اللجنة، فعليّاً، عملها في 23 جويلية 2013.
في نهاية سنة 2015، وجّه رئيس تلك اللجنة توفيق بودربالة إلى الحكومة ما ذكر أنّه قائمة “شهداء الثورة” طالباً منها نشرها في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية. إلّا أنّ الحكومة رفضت ذلك وتمسّكت بضرورة أن تشمل القائمة “مصابي الثورة” وطلبت من اللجنة ضمان أن تكون القائمة التي تصدر عنها نهائية ولا خلاف عليها. عاودت، إثر ذلك، اللجنة العمل لتعلن في 02 أفريل 2018 اختتام عملها وترفع تقريرها النهائي إلى الرؤساء الثلاثة، أي رؤساء الجمهوريّة والحكومة ومجلس نوّاب الشعب. كما وجّهت قائمة أسماء شهداء الثورة ومصابيها التي أعدّتها إلى رئاسة الحكومة طلباً لنشرها في الجريدة الرسمية. وهنا رفضت الحكومة النشر مرّة أخرى، وبرّرت موقفها بكون “اللجنة” لم تُطلع المعنيين، أي أهل الشهداء ومَن قدّموا ملفّاتهم بصفتهم جرحى ثورة، والرأي العامّ على نتائج عملها في أيّ مرحلة منه ولم تحترم بالتالي حقّ هؤلاء في الاعتراض على القائمة التي تطلب نشرها. وعليه برّرت الحكومة رفضها نشر القائمة بأنّها غير نهائية وقابلة للاعتراض والمراجعة وأنّه لا يمكن الاستناد إليها لترتيب الحقوق أو كتابة التاريخ الوطني. وكان موقف الحكومة في هذا الخصوص مبرَّراً موضوعياً، خصوصاً في ظلّ تأكُّد وجود منازعات جدّية حول الأسماء التي أُسقطت منها. وقد اعتمدت الحكومة الحالية في نهاية 2020 الاجتهاد التالي مَخرجاً لإنهاء هذه الأزمة: تُنشر القائمة، بصورة أوّلية، على صفحات التواصل الاجتماعي يعقب ذلك تلقّي اعتراضات عليها ثمّ تُنشر في الجريدة الرسمية قبل 20 مارس 2021.
إشكاليّات ما بعد إنفاذ القانون: الصمت الرسمي عن الأسئلة المحرجة
بمجرّد نشر التقرير الختامي لهيئة الحقيقة، تبيّن أنّه أضفى صبغة رسمية على جميع حجج المجموعة الاستثماريّة ABCI في نزاعها مع الدولة التونسية الذي تتعهّد به لجنة التحكيم التابعة للبنك الدولي. في حين لم يكن هذا الموقف مُدرجاً في النسخة الأصلية التي توصّلت إليها رئاسة الجمهوريّة، كما أنّ جانباً من أعضاء هيئة الحقيقة ينكرون اطّلاعهم عليه أو مصادقتهم على مضمونه، فقد بات التقرير كوثيقة محلَّ سؤالٍ في ما يتعلّق بما تضمّنه من معطيات ومنهجيّة تحريره.
في السياق ذاته، يطرح فتح حساب الكرامة السؤال حول كيفيّة توفير موارده المالية. وتبدو هنا الحكومة عاجزة عن تقديم جواب عن هذا السؤال خصوصاً أنّها لا زالت تتمسّك برفض تنفيذ مقرّرات التحكيم والمصالَحة التي صدرت عن الهيئة ولا تملك موارد ذاتية يمكن أن ترصدها لتوفير تعويضات الضحايا.
خلاصة
يتبيّن ممّا سلف أنّ أداء الحكومة في 2020 تميّز بما عُدّ توجّهاً نحو إنفاذ قانون العدالة الانتقالية. وهو اختيار يساهم اليوم في تطوير النقاش العامّ حول العدالة الانتقالية بعيداً عن فكرة الصراع بين أنصارها ومعارضيها.
نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة