ثلاثة وثلاثون، هذا هو عدد الفائزين في مباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية- قسم القضاء العدلي, و التي كان مجلس القضاء الأعلى قد أعلن نتائجها في الثامن والعشرين من شهر أيار 2015 تحت عنوان:
« الناجحين اليوم للاشتراك بعدالة الغد».
ولكن, يبدو أن «الغد» المقصود ليس بقريب. ففي حين كان من المفترض أن يعيّن هؤلاء قضاة متدرجين فور صدور النتائج، أو مع بدء السنة القضائية في أيلول 2015 كحدّ أقصى، يسجّل حتى يومنا هذا إنقضاء أكثر من تسعة أشهر دون أن يبصر مرسوم تعيينهم النور.
وبالعودة سريعاً إلى إجراءات المباراة، كانت قد انطلقت في أيلول العام 2014 حين أعلن مجلس القضاء الأعلى عن إجراء مباراة لتعيين 40 قاضياً متدرجاً، يلحقون بمعهد الدروس القضائية في بيروت لمدة ثلاث سنوات قبل أن ينضموا إلى القضاء الأصيل في المحاكم العدلية على صعيد الوطن.
ولا بد من الإشارة إلى اختلاف شروط تلك المباراة عن سابقاتها. فقد تعددت فيها المراحل، بدءاً بما عرف لأول مرة بالاختبار «النفسي» (وهو أقرب منه إلى اختبار للقدرات الذهنية ودقة الملاحظة), تبعه اختبار خطي باللغة الأجنبية، حدد أهلية المرشحين لمقابلة مجلس القضاء الأعلى. بعدئذ، تولى المجلس مجتمعاً إجراء المقابلات مع المرشحين (طوال شهر شباط 2015)، من دون المرور بلجنة فرعية معيّنة لهذه الغاية كما كان يحصل في السابق.
وبنتيجة تلك المقابلات، تقلّص عدد المرشحين بمقدار الثلث تقريباً، بحيث انتقل 205 مشتركاً إلى المرحلة الأبرز وهي مرحلة الإختبارات الخطية والشفهية في مواد القانون. واللافت أن أسبوعاً واحداً فقط فصل بين إجراء الاختبارات الخطية (في الأسبوع الأخير من شهر آذار 2015) ومباشرة الاختبارات الشفهية (في الثامن من نيسان 2015) أمام مجلس القضاء الأعلى. وقد أشّر قصر المدة الفاصلة بين الإختبار الخطي والإختبار الشفهي على طابع «العجلة» الذي اتّسم به نشاط مجلس القضاء الأعلى في كل ما يتعلق بالمباراة الأخيرة. فقد نجح في إنجاز كافة المراحل في مدة زمنية قياسية هي ستة أشهر، رغم ضخامة عدد المرشحين، حيث تم الاعلان عن النتائج ولائحة الفائزين بعد يومين فقط من انتهاء الاختبارات الشفهية, في 28 أيار 2015.
ويفسّر كثيرون هذا الأمر بأنه نابع عن رغبة مجلس القضاء الأعلى قطع الطريق أمام «الواسطة» أو أية تدخلات شخصية أخرى قد تحدث لدعم بعض المرشحين أو التلاعب بنتائج المباراة قبل إعلانها.
فبمعزل عن مرحلة المقابلة التي تتسم ببعض الغموض لجهة المعايير التي كان يتبعها المجلس في اختيار المرشحين أو إبعادهم، لاقت السياسة التي اعتمدت في وضع مسائل الإختبارات نهار الإمتحان ترحيباً واسعاً. فقد شكلت ضمانة لعدم تسريبها خصوصاً وأن اختيار أسئلة الاختبار الشفهي قد جرى بسحب القرعة من قبل كلّ مرشح على حدة، من دون تمييز أو مفاضلة.
وبالتالي, تدفعنا كل هذه المعطيات إلى التساؤل حول الأسباب الجدية التي حالت دون أن تقترن هذه السرعة والفعالية المسجلتين في أداء مجلس القضاء الأعلى بالملاحقة الإدارية الضرورية لترجمة نتائج المباراة على أرض الواقع, في مهلة زمنية معقولة.
في الواقع, تشير العديد من المصادر المطّلعة إلى حصول بعض التقصير في المراحل الأولى من إعداد مشروع مرسوم التعيين لدى وزارة العدل. وفي التفاصيل أنه في خلال الأشهر اللاحقة لإعلان نتائج المباراة، سعى وزير العدل أشرف ريفي، وبشكلٍ معلن, إلى ضم ستة مرشحين راسبين في المباراة المذكورة إلى معهد الدروس القضائية بصفة «طلاب مستمعين»، سنداً لمرسوم تنظيم معهد الدروس القضائية للعام 1962. إلا أن المواقف الرافضة للمسؤولين المعنيين بهذا الإقتراح في المعهد قد آلت إلى ردّه، كونه يتعارض مع المهمة الموكلة للمعهد حسب قانون القضاء العدلي الصادر عام 1983. فبموجب هذا القانون، باتت مهمة المعهد تقتصر على «التهيئة لتولي القضاة المتدرجين العمل القضائي» و«تنظيم دورات تدريبية للأجهزة المساعدة للقضاء والمساعدين القضائيين والكتاب العدل والخبراء وغيرهم ممن يقرر وزير العدل اخضاعهم لدورات تدريبية» و«تهيئة قضاة غير لبنانيين لتولي العمل القضائي في بلدانهم«. وبما أن قرار الردّ هذا جاء متأخراً، بعد انتهاء العطلة القضائية، يكون بحث هذه المسألة المفتعلة قد دام حوالي الثلاثة أشهر داخل أروقة الوزارة.
عملياً, إن الخطوة الأولى في مسار مرسوم تعيين القضاة المتدرجين الجدد بدأت في أواخر أيلول 2015، مع تمكّن وزارة العدل من إعداد مشروع المرسوم المذكور وإحالته إلى وزارة المالية طبقاً لإجراءات التعيين القانونية وما ينتج عنها من إلتزامات مالية على الخزينة العامة.
ولكن البطء الشديد الذي خيّم على هذه المرحلة أيضاً خالف كل التوقعات. فمن المفترض أنها مرحلةً روتينية, تمرّ بها جميع المراسيم التي تتطلب نقل اعتمادات مالية من احتياطي الموازنة العامة إلى الموازنات الخاصة بوزارات الدولة. فهل من المعقول أن تستغرق عملية نقل الإعتماد وحدها شهرين ونيف قبل أن تحال في 3 كانون الأول 2015 إلى رئاسة مجلس الوزراء؟
وإذ انتهت السنة المالية 2015 من دون إقراره، أعادت الأمانة العامة لمجلس الوزراء المشروع إلى وزارتي العدل والمالية في كانون الثاني 2016 لمعاودة تحضير المرسوم من جديد. فقبع هناك لأكثر من شهر. وما زاد الأمر تعقيداً هو الإستقالة المفاجئة لوزير العدل أشرف ريفي في شباط الفائت والتي أثارت العديد من الهواجس حول إمكانية إقرار التعيينات القضائية المعلّقة والسير بها بعد تنحّي الوزير الأصيل.
في المقابل، وبمعزل عما مرّ به مشروع التعيين من تعقيدات إدارية، تطرح إشكالية هامة تتعلق بمدى استمرار الأخذ بنتيجة المباراة بعد مضي فترة معينة من الزمن، خصوصاً وأن مجلس القضاء الأعلى قد أعلن رسمياً في الثامن من شباط الماضي إفتتاح مباراة جديدة للدخول إلى معهد الدروس القضائية، في ذات قسم القضاء العدلي. فبحسب نظام الموظفين (المادة 8 من المرسوم 59 /112)، الذي يحيل إليه قانون القضاء العدلي صراحةً (المادة 132 من المرسوم الاشتراعي 50/83)، يعمل بلائحة الناجحين في المباراة لمدة سنتين فقط من تاريخ إعلانها وتكون لهذه اللائحة أفضلية خلال سنتين على اللائحة التي تليها.
ومن المستغرب جداً شروع مجلس القضاء الأعلى في استقبال طلبات المتقدّمين إلى المباراة الجديدة دون التريث حتى إتمام تعيين الفائزين في المباراة السابقة. ويعلّق البعض على هذا الإجراء بالقول: «إن التأخير لم يكن في مصلحة من فازوا في المباراة السابقة، و تعيينهم اليوم أصبح ضرورةً ماسة، قطعاً لمرور الزمن المهدد جدياً لمستقبلهم المهني. ولكان من الأجدر على المجلس أن يوصل هؤلاء إلى برّ الأمان أولاً، أقله احتراماً للمسؤولية الأخلاقية تجاههم». ويؤكد المصدر نفسه: «إن المباراة السابقة اتسمت بالكثير من التجرّد والمهنية في التعامل مع المرشحين, والعديد ممّن أعلنت أهليتهم للانخراط في المعهد عمدوا إلى ترك أعمالهم السابقة والبعض الآخر رجع عن متابعة دراساته الحقوقية العليا في لبنان أو الخارج، رغبةً في عدم الإنشغال عن دروس المعهد إذا ما انطلقت. فهل يكافؤون جميعاً بنسيانهم بهذه الطريقة؟».
أخيراً, علمت «المفكرة القانونية» أن مشروع مرسوم تعيين ال33 قاضٍ وإلحاقهم بمعهد الدروس القضائية قد وضع حديثاً على جدول أعمال مجلس الوزراء، حيث كان من المفترض إقراره في جلسة الخميس الماضي في الثالث من آذار. إلا أن «ضيق الوقت» وانشغال المجلس بملفات أخرى أكثر «إلحاحا» حالا دون ذلك. وبالطبع، يخشى مع تعاقب الأزمات السياسية والبيئية وتشابكها في أروقة مجلس الوزراء، وتلويح رئيس الحكومة تمام سلام بالاستقالة بين لحظة وأخرى إن لم تحلّ أزمة النفايات في القريب العاجل، أن يتعرقل أكثر فأكثر إصدار مرسوم التعيينات.
من المؤسف حقيقةً أن يواجه ثلاثةُ وثلاثون شاباً و شابةً من قضاة الغد المشهد التالي: سلّة المهملات تقابلها سلّة التعيينات الخاصة بهم. فهل من يكترث لمصيرهم المعلّق، في وقتٍ تؤكد فيه السلطة القضائية الحاجة إلى تعويض النقص في الملاك العدلي كحلّ لظاهرة الاختناق القضائي المزمن في مختلف المحاكم اللبنانية؟