قرّر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 14/8/2024 عدم عرض معاملات الشراء بواسطة طلب عروض الأسعار التي لا تقل قيمتها عن 5 مليارات ليرة لبنانية (حوالي 56 ألف دولار أميركي) على ديوان المحاسبة للحصول على موافقته المسبقة، وذلك بناء على اقتراح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. ومؤدى ذلك هو أن الحكومة حررت نفسها ومجمل الإدارات الخاضعة لرقابة الديوان من موجب الحصول على موافقته المسبقة في المعاملات التي تقلّ عن المبلغ المذكور، وذلك خلافا لأحكام قانون تنظيم ديوان المحاسبة التي تفرض الحصول على موافقته المسبقة في الصفقات اللوازم والأشغال التي تتجاوز قيمتها 75 مليون ليرة أو الخدمات إذا تجاوزت 25 مليون ليرة وشراء العقارات إذا تجاوزت 100 مليون.
وقد برر مجلس الوزراء قراره بالأمور الآتية:
. انهيار قيمة العملة الوطنية بحيث لم تعد العتبة المعتمدة للحصول على الموافقة المسبقة في هذه المعاملات واقعية،
. أن المادة 44 من قانون الشراء العام أجازت الشراء عن طريق عروض الأسعار إذا قلّت قيمة الصفقة عن 5 مليارات ليرة، وأن العتبة المعتمدة في قانون تنظيم ديوان المحاسبة لم تعد منسجمة مع هذا القانون،
. أن رفع عتبة الموافقة المسبقة على المعاملات المذكورة إنما ينسجم مع اقتراح القانون الذي كان تقدم به في تاريخ 23/7/2024 نواب من كتل عدّة وهم ابراهيم كنعان وحسن فضل الله ومحمد خواجة وبلال عبدالله وعلي حسن خليل وجهاد الصمد. واللافت أن القرار استند إلى هذا الاقتراح رغم تأكيده أنه لم يبت به بعد،
. المذكّرة التي سبق أن أصدرها رئيس ديوان المحاسبة في تاريخ 20/2/2024 والتي تُفيد بعدم عرض معاملات الشراء بالفاتورة على موافقة ديوان المحاسبة المسبقة في حال قلّت قيمتها عن 500 مليون ليرة.
. أن الغاية الأساسية من قانون المحاسبة العمومية هي تأمين احتياجات الإدارة بالسرعة اللازمة من دون اتّباع التعقيدات الإدارية، ولأن السقوف المنخفضة تغرق ديوان المحاسبة يملفّات تؤخّر البتّ فيها ما يُعرقل تاليا البدء بالمشاريع في المهل المحدّدة.
إنّ هذا القرار يستدعي الملاحظات التالية:
الحكومة تتفلت من القانون ورقابة ديوان المحاسبة
أول ما نلحظه هو أن الحكومة (أي السلطة التنفيذية) قد عمدت إلى إعفاء مجمل الخاضعين لرقابة ديوان المحاسبة وضمنا الإدارات العامة التابعة لها، من الرقابة المسبقة على المعاملات المذكورة أعلاه. وهذا الإعفاء إنما يشكل انتهاكا مزدوجا لكلا السلطتين العامتين: فهو أولا انتهاك للسلطة التشريعية طالما أنها عمدت إلى تعديل شروط الموافقة المسبقة المحددة قانونا بقرار حكومي، في مخالفة ساطعة لمبدأ تسلسل القواعد القانونية. وهو ثانيا انتهاك للسلطة القضائية الممثلة بديوان المحاسبة بفعل تجريده من صلاحياته.
ولا يخفف من هذا الانتهاك قط وجود اقتراح قانون بهذا المعنى. فعدا عن أن ليس لاقتراح القانون أي مفعول قبل إقراره، فإن الحكومة أوقعت نفسها بالاستناد إليه في تناقض فاضح طالما أنها عمدت إلى تعديل العتبة رغم تسليمها بضرورة إقرار قانون لهذه الغاية.
كما لا يخفف من هذا الانتهاك قط وجود مذكرة من رئيس ديوان المحاسبة بوجوب رفع عتبة الموافقة المسبقة إلى 500 مليون ليرة. فعدا عن عدم صلاحية رئيس الديوان إصدار مذكرة كهذه، فإن الحكومة لم تجد حرجا في سياق الاستناد إليها إلى رفع العتبة إلى عشرة أضعاف العتبة المقترحة من الديوان.
إذ مع التسليم بضرورة تعديل المبالغ التي تُفرض رقابة ديوان المحاسبة المسبقة على أساسها تبعا لانهيار الليرة، إلّا أنّ ذلك لا يبرر إطلاقا للحكومة تحديد حدود وموضوع الرقابة التي تمارس عليها. كما لا يبرر أبدا أن يتم مخالفة أبسط القواعد القانونية، وبخاصة أنّ هذا القرار يأتي بعد 5 سنوات من الانهيار، من دون إثبات أي ضرورة أو عجلة.
الحكومة تضرب مبدأ الاستقرار القانوني
فضلا عما تقدم، يؤدي قرار الحكومة إلى ضرب مبدأ الاستقرار القانوني للأعمال الإدارية والعقود. يتأتى هذا الأمر من قانون تنظيم ديوان المحاسبة الذي وضع صراحة أن رقابة الديوان المسبقة تشكل معاملة جوهرية، بحيث تعتبر “كل معاملة لا تجري عليها هذه الرقابة غير نافذة ويحظر على الموظف المختص وضعها في التنفيذ تحت طائلة العقوبة”.
وعليه، فإن أي عقد يتم تهريبه بفعل هذا القرار من الرقابة المسبقة إنما يصبح عقدا هشا بحكم الباطل لغياب معاملة جوهرية فيه، ويجوز لأي متضرر منه الطعن فيه. كما يضع إبرام عقود مماثلة الموظفين المعنيين بها أمام معضلة كبيرة: فهل يمتنعون عن تنفيذ هذه العقود لعدم نفاذها وعدم قانونيتها، أم يعمدون إلى تنفيذها على نحو يجعلهم عرضة للعقوبات المحددة في قانون تنظيم ديوان المحاسبة؟
وعليه، فإن الحكومة تكون بحجة الرغبة في تأمين احتياجات الإدارة بالسرعة اللازمة (وهي حجة لا تستقيم بالنظر إلى المهل القصيرة لبت معاملات الموافقة المسبقة)، قد أغرقتها في كمّ من المتاهات القانونية والفوضى بدل سلوك الطرق السليمة لهذه الغاية.
تحوير للسلطة؟
أخيرا، يجدر طرح السؤال حول الدوافع الحقيقية لإصدار هذا القرار في هذا التوقيت. فهل هو ينبني على أسباب عامة أم على إرادة تهريب صفقات معينة من رقابة ديوان المحاسبة أو عقدها رغم رفض الديوان لها؟ لا نملك معطيات كافية اليوم للإجابة على هذا السؤال. لكن الأمر يجدر التوسع في التحقيق فيه تمهيدا لتحديد حجم الانتهاك وخطورته.
للاطّلاع على القرار رقم 23: الرقابة الإدارية المُسبقة لديوان المُحاسبة على صفقات اللوازم والأشغال
[1] هدف الاقتراح إلى رفع الحد الأدنى لعتبرة الرقابة الادارية المسبقة للمعاملات المتعلّقة بالواردات من 5 ملايين ليرة كما هو معمول به حاليا إلى 5 مليارات ليرة، ورفع الحد الأدنى المصالحات الحبية على دعاوى أو خلافات اذا كان المبلغ موضوع النزاع من 15 مليون ليرة إلى 5 مليارات ليرة. مقابل رفع الحد الأدنى للنفقات التي تخضع للرقابة المسبقة على الشكل التالي: 1) من 75 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بصفقات اللوازم والأشغال، 2) من 25 مليون ليرة إلى 10 مليارات ليرة فيما يتعلّق بصفقات الخدمات، 3) من 50 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بالاتفاقات الرضائية بما فيها عقود الإيجار، 4) من 100 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بمعاملات شراء العقارات، 5) من 15 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بالمنح والمساعدات والمساهمات. بالمقابل، يرفع الاقتراح من الغرامات على الموظفين (وضمنا الوزراء) الذين يخالفون أحكام تنظيم ديوان المحاسبة من حدّ أدنى وقدره 150 ألف ليرة إلى 10 ملايين ليرة، وحدّ أقصى وقدره مليون ونصف ليرة إلى 100 مليون ليرة.