لم يكنْ مهمّاً بالنسبة للحكومة ورئيسها التقيّد بالقانون. المهمّ الاستمرار بالصرف حتى لو من دون إجازة من مجلس النواب (عبر إقرار موازنة أو عبر إقرار اعتمادات إضافية). ولم يكن مهمّاً بالنسبة للحكومة ورئيسها كيفية الحصول على الأموال، فوجدت بإقرار سلف الخزينة ضالّتها. وهنا أيضاً لم يكن مهماً التقيّد بأصول إعطاء سلف الخزينة، المُحدّدة في قانون المحاسبة العمومية. فكانت النتيجة إصدار 197 مرسوماً و4 قرارات، خلال سنوات 2020 إلى 2023، أعطت الحكومة فيها سلف خزينة بشكل غير قانوني، بقيمة إجماليّة بلغتْ 98 ألف مليار ليرة (دُفع منها 51 ألف مليار ليرة)، بالرغم من إدراكها أن هذه السّلف لن تردّ، وبالرغم من إدراكها أن هذه السّلف هي في الحقيقة نفقات فعليّة صُرفت من دون سند قانوني. أما الحل لهذه المخالفات المتمادية فتمثّلت بالنسبة للحكومة بتقديم مشروع قانون من مادة وحيدة (19/1/2024) يدعو إلى:
- فتح اعتماد إضافي استثنائي في الموازنة لعام 2023 قبل تصديقها، يدوّن فيها وفقاً لما تنصّ عليه المادة 12 من قانون المحاسبة العمومية. وذلك لتغطية المبالغ المدفوعة عن سلف الخزينة التي لم تُسدّد والمُعطاة اعتباراً من العام 2020.
- تدوين الاعتمادات المعقودة والمصفّاة والمصروفة والمدفوعة من أصل المبلغ المخصّص في قطع حساب الموازنة العام وحسابات المهمة للعام 2023.
- تغطية الاعتماد المفتوح بزيادة تقدير واردات موازنة 2023.
هكذا ببساطة تريد الحكومة من المجلس النيابي إعطاءها صكّ براءة عمّا ارتكبته من مخالفات، مع ضمان عدم إمكانية التحقّق من كيفية صرف هذه الأموال ولا التأكّد من وجهة صرفها.
تجدر الإشارة هنا إلى أن سلفات الخزينة للعام 2023 وحدها بلغت قيمتها 83 ألف مليار ليرة. وهذا المبلغ الضخم تُبرّره الحكومة بعدم إقرار موازنة 2023، وعدم القدرة على تأمين كل متطلّبات إدارة القطاع العام على القاعدة الاثني عشرية والمقدرة بنحو 40 ألف مليار ليرة (مجموع الإنفاق المقدر في موازنة 2022)، بسبب انهيار سعر الليرة. وعليه، وجدتْ أن الطريق الأسهل هو الإنفاق بموجب سلف الخزينة حتى لو بلغت قيمتها ضعفيْ القدرة الإنفاقية المتاحة. لكن ألم تكن إمكانية قوننة الصرف متاحة أمامها؟ قانون المحاسبة العمومية، عبر المادة 12 نفسها، أتاح المجال أمام السلطة التنفيذية للحصول من السلطة التشريعية على إذن بالإنفاق، من خارج الموازنة، من خلال إقرار اعتمادات إضافية مهما كانت قيمتها. ولو قامت الحكومة بدورها بطلب اعتماد في الوقت المناسب، أي بعدما أيقنتْ أن إعمال القاعدة الاثني عشرية لن تكفي لتسديد متطلبات العام 2023، لكانت عالجت مشكلة الصرف من دون موازنة. أما اللجوء اليوم إلى طلب الاعتماد لتغطيّة إنفاق محقّق، فذلك يصبّ في إطار التحايل على القانون لتغطية مخالفات ارتُكبت. أمّا التحجّج بالظروف السياسيّة وصعوبة انعقاد مجلس النواب، فلا يمكن أن يُبرّر مخالفة القانون. علماً أنّه حتى لو رفض المجلس النيابيّ إقرار الاعتماد الإضافي، وحتى لو فشلتْ الحكومة في تأمين رواتب الموظّفين بطريقة قانونيّة، لا يمكن اللجوء إلى سلف الخزينة. فالتوقف عن الدفع بسبب عدم الحصول على إجازة نيابية هو أمر يتكرر حدوثه في دول العالم. حتى الإدارة الأميركية لا تتردد في إغلاق القطاع العام في حال تأخر مجلس النواب في إقرار الميزانية، ما يشكل ضغطاً على المجلس النيابي لتسريع إقرارها.
الحكومة تبني مشروعها على مادة قانونية خالفتها
بعد إقرار قانون موازنة 2024، ظهر مشروع القانون الجديد، الذي يدعو إلى تدوين الاعتمادات المعقودة والمصروفة من أصل المبلغ لتغطية سلف الخزينة المدفوعة منذ العام 2020. تلك الجملة التي تبرر فيها الحكومة إقرارها صرف 98 ألف مليار ليرة عبر سلف خزينة، تتضمن مخالفات قانونية.
أولاً، لا يمكن إعطاء سلف خزينة إلا في حالات محددة هي:
1- لتموين مستودعات الإدارات العامة بلوازم مشتركة بين أكثر من ادارة واحدة.
2- لشراء مواد قابلة الخزن ومعدّة للاستعمال في سنة مالية جارية أو لاحقة.
3- لتغذية صناديق المؤسسات العامة والبلديات وكذلك الصناديق المستقلة المنشأة بقانون.
وفيما يتّضح أن هذه المادة، في الفقرتين الأولى والثانية، تُحدد بشكل دقيق الحالات التي يمكن للإدارات الحصول فيها على السلف، إلا أنه يتبين أن الحكومة لم تراع هذه الحالات لا بل على العكس أسهبت في إعطاء سلف خزينة للإدارات والوزارات لتغذية نفقات مثل دفع رواتب وأجور أو تنفيذ أشغال أو تسديد التزامات مالية أو شراء محروقات وحتى تسديد نفقات سفر وتمثيل…
ثانياً، تبيّن أن الحكومة لم تلتزم بالفقرة الثالثة المتعلقة بإمكانية إعطاء سلف خزينة للمؤسسات العامة، فهذه الإمكانية مشروطة، بحسب المادة 204، بتثبّت وزير المالية من إمكان الجهة المستلفة إعادة السلفة نقداً في المهلة المحددة لتسديدها، تعهّد الجهة المستلفة بأن ترصد في موازنتها إجبارياً الاعتمادات اللازمة لتسديد السلفة في المهلة المحددة”، وموافقة السلطة التشريعية إذا كانت مهلة تسديدها تتجاوز الإثني عشر شهراً. وكلها شروط لم تتوفر في هذه الحالة.
ثالثاً، حتى الإشارة في الأسباب الموجبة للمشروع الحكومي إلى أن سلف الخزينة جاءتْ لتلبّي احتياجات ونفقات الوزارات والإدارات العامة الطارئة والملحّة، جاءت مخالفة للقانون، إلا إذا كانت الحكومة تظنّ أنها تعيش في العام 1990. فالمشرع كان عدّل قانون المحاسبة العمومية في العام 1989 (القانون رقم 5/1989) بما يسمح للحكومة بإعطاء سلف خزينة “في حالات استثنائية طارئة”، لكن هذا التعديل عاد وألغي في العام 1991 (القانون رقم 41/1991)، فسحبت من الحكومة صلاحية إعطاء سلف خزينة في الحالات الطارئة. وعليه، فإن تبرير الحكومة لصرفها سلفات الخزينة بتلبية حاجات طارئة لا يمكن وصفه في الوقت الراهن سوى بأنه لا قيمة قانونية له.
رابعاً، المثير للسخرية أيضاً أنه حتى المادة التي استعانتْ بها الحكومة لتبرير فعلتها خالفتها أيضاً، إذ أنّ المادة 12 تجيز فتح اعتماد بصورة استثنائيّة في موازنة ما قبل تصديقها شرط أن يدوّن فيها، لكنها لا تجيز بأي حال أن يكون الاعتماد مخصصاً لتسديد أموال سبق أن صرفت عبر سلف خزينة أعطيت بشكل غير قانوني، وأعطيت لجهات غير مستحقة ولجهات يفترض أن تسدد السلفة نقداً لا أن تسدد سلفتها من المال العام. والأغرب أنّ الحكومة استسهلتْ طلب زيادة تقديرات واردات مشروع موازنة 2023، بالرغم من أن هذا المشروع صار بلا قيمة مع انقضاء السنة المالية، وبالرغم من إقرار موازنة 2024.
لجنة المال: لا تشريع للمخالفات
هذه المخالفات كانت لجنة المال والموازنة تنبّهت لها أثناء مناقشة مشروع موازنة 2024، الذي تضمّن لحظ اعتمادات لتسديد سلفات خزينة تبلغ قيمتها الإجمالية 3.5 ألف مليار ليرة. وعلى الأثر، طلبت اللجنة من وزارة المالية بياناً بسلفات الخزينة أظهرت إقرار سلفات خزينة بقيمة 31.9 ألف مليار ليرة. حينها رجّحت اللجنة، على ما ورد في تقريرها، أن مبلغ السلفات الصحيح يفوق هذا الرقم بكثير، مما دعاها لطلب التدقيق بالسلفات والقروض والهبات. وهو ما ثبتت صحته فعلاً مع طرح مشروع القانون الراهن، متضمّناً سلف الخزينة التي تبلغ قيمتها 83 ألف مليار ليرة للعام 2023 وحده.
كما أن تقييم ما ارتكبته الحكومة من مخالفات كان ورد في التقرير الصادر عن اللجنة حول موازنة 2024، الذي جاء فيه إن الحكومة:
- لم تحترم الضوابط التي حدّدتها أحكام قانون المحاسبة العمومية.
- منحت سلفات خزينة لإدارات عامة لغير الغايات المحددة بموجب الفقرتين الأولى والثانية من المادة 203.
- منحت سلفات خزينة لمؤسسات عامة وصناديق مستقلّة مع علمها بعدم قدرتها على التسديد لا ضمن مهلة السنة المُحدّدة لتسديد السلفة، ولا في أي وقت لاحق، والدليل على ذلك لحظ تسديدها باعتماد في الموازنة (كذلك تطرح تسديدها في مشروع القانون المقدّم).
- منحت سلفات خزينة بمراسيم متخذة في مجلس الوزراء في الحالات الطارئة والاستثنائية بعد إلغاء هذه الصلاحية بموجب القانون رقم 41/91.
- أهملت إطلاع المجلس النيابي على السلفات المقررة خلال شهر من تاريخ إعطائها، كما ينص قانون المحاسبة العمومية.
- أرادت تسديد السلفة باعتماد يُرصد في الموازنة (عبر اعتماد استثنائي في الحالة الراهنة) ما يحول دون التأكد من إنفاق السلفة في الغاية المحدّدة لها، وتوفير المستندات الثبوتية للتسديد.
وذكّرت اللجنة بتجاوزات الـ11 مليار دولار ما بعد ال2005 وبالتدقيق البرلماني الذي قامت به من العام 2010 إلى العام 2019 والذي أظهر أن 27 مليار دولار صُرفت من دون إثباتت قانونية. وعليه يتوقع أن يتم التعامل مع المشروع الجديد كما تم التعامل مع مشروع موازنة 2023، فإذا كانت الموازنة بمثابة إجازة للحكومة للجباية والإنفاق، فإن الاعتماد الإضافي هو بمثابة إجازة لها بالإنفاق. وبالتالي، “ما الفائدة منهما عندما تكون الحكومة قد أنفقت من دون هذه الإجازة”. وهذا يؤكد أنها لا تبحث عن آلية قانونية للصرف بل “تريد من المجلس النيابي تشريع ما قامت به من دون أي حسابات مالية”.
وكما كانت رفضت لجنة المال مناقشة مشروع موازنة 2023، انطلاقاً من أنه لا يمكن الاستمرار بإقرار الموازنات في نهاية السنة المالية لأن ذلك سيكون بمثابة تشريع للمخالفات، فقد علمت “المفكرة القانونية” أن اللجنة رفضت درس مشروع قانون الاعتماد الإضافي، الذي أحيل إليها في 25 كانون الثاني الماضي.
ديوان المحاسبة: التمادي بإعطاء السلف هدر للمال العام
تجدر الاشارة إلى أن المخالفة الحكومية الراهنة ليست جديدة، إذ لطالما أقرّت الحكومات المتعاقبة سلف خزينة بشكل غير قانوني، وصل في العام 2012، على السبيل المثال، إلى حدّ إصدار سلفة خزينة بالقيمة الإجمالية للنفقات التي كانت مقدرة في مشروع الموازنة. علماً أن ديوان المحاسبة كان وضع يده على هذا الملف من خلال إصدار تقرير في العام 2021 تناول فيه مسألة التمادي في إعطاء سلف الخزينة ما بين 1995 و2018، مصدراً عدداً من التوصيات التي لم تعنِ شيئاً للحكومات المتعاقبة ومنها الحكومة الحالية.
فالديوان كان أشار إلى أن:
- تأمين الانتظام المالي العام للدولة لاسيما لجهة ضبط الهدر في المال العام يستدعي ضبط وكبح التمادي في إعطاء سلف الخزينة التي تشكّل أحد أبواب الهدر غير المباشرة، لاسيّما أن القسم الأكبر المبالغ التي أعطيت كسلفات من خزينة الدولة لم يتمّ تسديدها.
- إعطاء سلفات خزينة لتغطية نفقات عامة من المفترض إدراجها ضمن اعتمادات الموازنات أدى إلى إخفاء الحجم الفعلي للنفقات العامة.
كما دعا الديوان إلى التقيّد بالأحكام القانونية لإعطاء السلف ووقف كافة التجاوزات ذات الصلة.
للاطلاع على مشروع القانون المعجل لفتح فتح اعتماد إضافي استثنائي في الموازنة لعام 2023