طلبت الحكومة بتاريخ 9 أيار 2025 عبر مشروع قانون معجل من مجلس النواب منحها حق تعديل قيمة غرامات السير المنصوص عليها في قانون السير الجديد الصادر سنة 2012 لمدة خمس سنوات على أن يتم ذلك بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزيري المالية والداخلية.
وقد بررت الحكومة طلبها هذا في الأسباب الموجبة إذ اعتبرت أن تشديد غرامات السير “باتت حاجة ملحة لضمان الالتزام بالقوانين لا سيما لتخفيف العدد المتزايد من القتلى والجرحى التي تحصدهم حوادث الطرقات في لبنان سنويا”. وتضيف الأسباب الموجبة أن تعديل الغرامات المفروضة بالسرعة المطلوبة “يكتسي أهمية قصوى نظرا لضرورة الحد من استنزاف حياة المواطنين على الطرقات، وهو أمر متعذر بسبب الوقت الطويل التي تطلبه العملية التشريعية، ما يستدعي تفويضا تشريعيا خاصا للحكومة بهذا الشأن”.
إن هذا المشروع يستوجب الملاحظات التالية:
وجوب تحديد طبيعة العجلة
من اللافت أن مرسوم الإحالة أشار في عنوانه إلى طبيعة مشروع القانون واصفا إياه بالمعجل من دون تحديد السند الدستوري لهذه العجلة. فهل كانت الحكومة تريد القول إن هذا المشروع اتخذته عملا بالمادة 58 من الدستور التي تسمح لرئيس الجمهورية بمرسوم أن يضع موضع التنفيذ كل مشروع قانون تقرر الحكومة أنه مستعجل من دون أن يبت به مجلس النواب خلال مهلة أربعين يوما ضمن شروط معينة؟ ففي هذه الحالة كان يتوجب الإشارة بشكل واضح في بناءات مرسوم الاحالة أن مشروع القانون تم إقراره بناء على المادة 58 من الدستور، وهو الأمر الذي كان يحدث دائما عندما تقرر الحكومة العجلة من أجل تنبيه المجلس إلى نيتها بنشر القانون بمرسوم في حال توفرت الشروط الدستورية لذلك.
ولا شك أن تعديل المادة 58 عملا بوثيقة الوفاق الوطني التي أدخلت على الدستور سنة 1990 وعدم صدور أي قانون بمرسوم منذ عقود طويلة ساهم في إفقاد تحديد طبيعة العجلة في مرسوم الإحالة جدواه كون المشاريع العادية والمعجلة باتت تلقى المصير ذاته. وقد شرحت المفكرة القانونية في ورقة بحثية إشكاليات تطبيق المادة 58 من الدستور اليوم والغموض في النظام الداخلي لمجلس النواب حول فئة مشاريع القوانين المعجلة التي لا يمكن فهمها إلا انطلاقا من المادة 58 من الدستور. لذلك على الحكومة أن تحدد بشكل واضح ما هو هدفها القانوني من إقرار صفة العجلة للقانون والإشارة بشكل واضح إلى المادة 58 من الدستور كي تتمكن من تطبيقها بشكل لا لبس فيه عند توفر شروطها.
دستورية التفويض التشريعي
تطلب الحكومة وبشكل صريح الحصول على تفويض تشريعيّ أي الحقّ بتعديل القانون من خارج مجلس النواب عبر مراسيم تتّخذ في مجلس الوزراء. ولا شكّ أن هذا الطلب يعيد التذكير بالمراسيم الاشتراعية التي كانت مشهدا مألوفا في الحياة الدستورية اللبنانية ولكنها توقفت لأسباب سياسية بعد 1990 إذ كان رئيس مجلس النواب يرفض دائما منح الحكومة صلاحيات استثنائية كون ذلك يعتبر وفقا له مسا بصلاحيات البرلمان.
لكن غياب المراسيم الاشتراعية بعد اتفاق الطائف لم يكن كاملا كون مجلس النواب كان دائما يقرّ قوانين يمنح بموجبها الحكومة حق التشريع في الحقل الجمركي. وهكذا يتبين أن مشروع الحكومة الحالي حول تعديل غرامات السير بمراسيم يدخل ضمن المنطق ذاته المتعلق بتعديل التعرفة الجمركية لجهة تخويل السلطة التنفيذية تعديل الالتزامات المالية المترتبة على الأفراد من تلقاء نفسها من دون انتظار صدور قانون بذلك. لكن هذا التشابه يقف عند هذه الحدود كون السرعة في تعديل التعرفة الجمركية هي من الشروط الضرورية للحفاظ على استقرار الأسعار ومنع تخزين البضائع ترقبا لرفع سعرها. فالمسار التشريعي الطويل من أجل تعديل التعرفة الجمركية قد يؤدي إلى استغلال بعض التجار للوقت من أجل احتكار سلعة معينة بهدف بيعها بأسعار مضاعفة عند دخول التعرفة الجديدة حيز النفاذ. لكن هذا المنطق لا يمكن تطبيقه على غرامات السير كون السرعة لا تنبع من طبيعة الغرامة بحد ذاتها لكن بسبب انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية وعدم الاستقرار الذي شهدته هذه الأخيرة لا سيما بين 2019 و2023.
وعلى الرغم من استقرار سعر الصرف اليوم، لكن هذا الاستقرار لا يستند إلى قواعد اقتصادية سليمة ما يعني أنه مرشح للتدهور في أية لحظة. فالمسكوت عنه في مشروع القانون هو إقرار ضمني بإمكانية انهيار الليرة في المستقبل ما يوجب تعديل غرامات السير بسرعة كي تتمكّن من المحافظة على طابعها الردعي، وهو ما يبرّر طلب الحكومة الحصول على تفويض تشريعي بهذا الخصوص.
والأغرب من ذلك أن طلب الحكومة يأتي بعد مضاعفة غرامات السير بموجب المادة 42 من قانون الموازنة العامة لسنة 2024 التي نصت على التالي: “تُضاعف قيمة الغرامات المنصوص عليها في القانون رقم 243 تاريخ 22/10/2012 (قانون السير الجديد)، بحيث تُضرب كل من المبالغ المحدّدة لهذه الغرامات بعشرة أضعاف على ألا تقلّ قيمة الغرامة في مطلق الأحوال عن /250.000/ل.ل”. ما يعني أن الحكومة تعتبر أن رفع الغرامات لم يكن كافيا على الرغم من استقرار سعر صرف الليرة طوال السنة الماضية. لذلك لو كانت الحكومة تعتقد أن هذا الاستقرار سيطول كان بإمكانها الاكتفاء بالطلب من مجلس النواب رفع الغرامات مجدّدا من دون حصولها على تفويض تشريعي بذلك لفترة طويلة.
من جهة أخرى، اعتبر المجلس الدستوري في أكثر من قرار له أن مجلس النواب لا يحق له تفويض صلاحياته التشريعية في الأمور التي حجزها الدستور له صراحة إذ أعلن مثلا التالي: “وحيث أنه سبق للمجلس الدستوري أن أشار إلى أن الدستور قد اعتبر، في عدد من مواده، ان مواضيع مختلفة هي محجوزة للقانون، ولا يجوز التفويض بشأنها، وذلك لأهمية هذه المواضيع، ولحرص المشرع الدستوري على الضمانات التي يوفرها القانون، إن لجهة الثبات والقوة، أو لجهة التعبير عن إرادة الشعب، مصدر السلطات، أو لجهة الحفاظ على المال العام. وحيث إنه من بين هذه المواضيع التي يعتبرها الدستور صراحة في حمى القانون، ويحفظها حصرا له، فرض الضرائب والرسوم وجبايتها (المادتان 81 و82)، وحيث إنّه يستفاد من صراحة المادتين المذكورتين أعلاه، أن مجلس النواب هو الذي أناط به الدستور، دون سواه من السلطات، اختصاص فرض الضرائب وإحداثها والترخيص بجبايتها في الجمهورية اللبنانية، وذلك بموجب قوانين شاملة تطبق أحكامها على جميع الأراضي اللبنانية” (قرار رقم 1 تاريخ 1/5/2023).
وقد كرّر المجلس الدستوري موقفه هذا في آخر قرار له حول إصدار موازنة عام 2025 بمرسوم إذ اعتبر التالي: “وحيث إنّ الإجازة المعطاة للحكومة، بموجب المادة 5 المطعون فيها، بالاقتراض عن طريق سندات الخزينة، من دون تحديد الحدّ الأقصى لقيمة المبلغ المجاز اقتراضه، ومن دون تحديد آجال الاستحقاق، يعتبر من قبيل التفويض المطلق المعطى للحكومة بإصدار سندات خزينة، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذه المادة بإجازتها اصدار تلك السندات “بقرارات تصدر عن وزير المالية”، تكون قد، فوّضت بشكل غير مباشر وزير المالية أمر إصدار سندات خزينة غير محدّدة الآجال، ومن دون تحديد حد أقصى لقيمة الإصدار، بموجب قرار يصدر عنه ويكون بالتالي هذا التفويض مخالفاً لأحكام المادة 88 من الدستور التي حجزت أمر عقد القروض العمومية حصراً لدائرة القانون، ويقتضي معه إبطال المادة 5 من الموازنة المعمول بها بموجب المرسوم المطعون فيه لهذا السبب” (قرار رقم 3 تاريخ 2/5/2025).
وهكذا يتبيّن أن طلب الحكومة الحصول على تفويضٍ تشريعيّ من أجل تعديل غرامات السير قد يعتبر مخالفا لما ذهب إليه المجلس الدستوري لناحية منع مجلس النواب من تفويض صلاحياته التي حجزها الدستور صراحة له، علمًا أن هذا المفهوم (المواضيع المحجوزة للسلطة التشريعية بموجب نص دستوري) قد يكون مبهما إذ يمكن تفسيره بحيث تصبح غالبية المواضيع التي قد يتم تفويضها للحكومة داخلة في المنع.
وفي النهاية لا بد من الإضاءة على الواقع المستجد بعد قرار المجلس الدستوري بقبوله النظر بمرسوم إصدار الموازنة إذ اعتبر وبشكل مستغرب أن المراسيم التي تضمن مضمونا تشريعيا تدخل من ضمن صلاحياته ما يعني أن المراسيم التي بموجبها تقوم بتعديل التعرفة الجمركية وكذلك المراسيم بتعديل غرامات السير في حال إقرار مشروع القانون تصبح قابلة للطعن أمام المجلس الدستوري لاحتوائها على “مضمون تشريعيّ” وهو أمر أقلّ ما يقال فيه أنه مثير للدهشة.
العقاب كحل وحيد
يغيب عن مشروع القانون أي دراسة تشرح مقدار المبالغ التي جرى تحصيلها كغرامات سير وكيفية تطورها خلال السنوات الماضية وهل كان من نتيجتها الحد من المخالفات. فالمشروع يأتي من الحكومة التي من المفترض أنها تملك كافة المعطيات التي تسمح بتبرير طلبها ويتيح لمجلس النواب تكوين صورة دقيقة عن الواقع. لذلك من المستغرب أن يكون المشروع قد اكتفى ليس فقط بالعموميّات لكن أيضًا باعتماد مقاربةٍ قائمة على العقوبة من أجل منع المخالفات، فيما تجاهل كليا ضرورة تبني مقاربة شاملة تقوم على توعية المواطنين وتطوير شبكة المواصلات وصيانة الطرقات كي تصبح آمنة. فالعقوبة تنطلق من فكرة مفادها أن المسؤولية تقع فقط على المواطنين بسبب تصرفاتهم الهوجاء ما يوجب إصلاحهم عبر تأديبهم بالغرامات وغيرها من العقوبات. لكن التمعن في حقيقة الأمور يظهر أن غياب الإنماء وترهل الطرقات وضعف النقل المشترك المنظم من قبل الدولة جميعها عوامل تساهم في مفاقمة حوادث السير وتهديد حياة المواطنين.
في الخلاصة، لا شك أن هكذا مشروع يتسم بالجرأة الدستورية إذ انه لا يوارب في طلبه الحصول على تفويض تشريعي وهو أمر يجدر التوقف عنده حتى لو كان في مجال محدود كغرامات السير فقط، إذ ربما يشكل إقرار هذا المشروع حافزا كي تقدم الحكومة على طلب صلاحيات استثنائية في مواضيع أكثر أهمية تتعلق بالإصلاح المنشود والمرتقب في لبنان منذ سنوات طويلة.