بإمكان الحكومة أن تضمن خطابها الرسمي اقرارا بحق المعرفة، وبامكانها أيضا أن تتنكر لهذا الحق كلما طولبت باتخاذ إجراءات عملية لانفاذه. وهي لا تجد حرجا في كل ذلك بأن تكذب، بأن تحور الوقائع، وبأن تقول الشيء ونقيضه. وهذا ما يخلص اليه أي قارئ موضوعي عند التدقيق في تصريحات الدولة في متن القضية التي أقامتها جمعيتان ممثلتان لذوي المفقودين (لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وجمعية دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين) ضدها أمام مجلس شورى الدولة والتي انتهت الى اصدار قرار تاريخي في 4-3-2014 بالزام الدولة بتسليم كامل ملف تحقيقات اللجنة الرسمية للاستقصاء عن مصير المخطوفين والمفقودين في لبنان والمعينة من رئيس الوزراء السابق سليم الحص في كانون الثاني 2000.
وهذا ما نتبينه بشكل واضح عند مقارنة أقوالها الجوابية الأولى (لائحة 9-7-2010)، بالاستدعاء المقدم منها في 6-5-2014 لاعادة المحاكمة في القضية نفسها. ففي لائحتها الجوابية الأولى تلك، صرحت الدولة أنها تؤيد حق المعرفة لذوي المفقودين، ولكنها رغم ذلك، طلبت رد الدعوى لانتفاء موضوعها على خلفية أنها سلمت تلك الجمعيات جميع مستندات الملف في معرض قضية أخرى (قضية المقبرة الجماعية لمار متر). فاذا أصدر المجلس قرارا بالزامها بتسليم ملف تحقيقات اللجنة الرسمية للاستقصاء عن مصير المخطوفين والمفقودين في لبنان كاملا، بدت وكأنها تقلب أقوالها بالكامل في استدعاء إعادة المحاكمة: ففجأة، لم تجد الدولة حرجا في مناقضة نفسها والقول بأن خطرا أمنيا يحول دون تنفيذ القرار (تسليم المستندات) مما يستوجب وقف تنفيذه، متناسية ما كانت صرحت به سابقا لجهة أنها سلمت جميع المستندات عملا بحق المعرفة.
وردا على ذلك، أبدت الجهة الممثلة لذوي المفقودين ملاحظات تمهيدية ثلاث هي الآتية:
أولا، أن طلب إعادة المحاكمة المقدم ليس اجراء عاديا بل هو يشكل بحد ذاته انتهاكا جسيما لحقوق ذوي المفقودين، وتعذيبا لهم من خلال تأخير انفاذ حقهم بالمعرفة والتنكر له،
ثانيا، أن الدولة استهانت الطعن بقرار المجلس التاريخي الذي يضع لبنان في انسجام مع منظومة القانون الدولي ويسهم في تكوين وتعزيز مبدأ دولي عالمي في هذا الشأن، هو حق ذوي المفقودين في المعرفة، بدل المفاخرة به. وفي موقفها هذا، تعبر الدولة بالواقع الى حد كبير عن ضيق صدرها إزاء أي اجتهاد قضائي يسمح للمجتمع بتطوير منظومته القانونية.
ثالثا، أن الدولة أخلت من خلال هذا الطلب بمبدأ الخصم الشريف. وهذا ما نتبينه، ليس فقط من خلال الامعان في تعذيب ذوي المفقودين وسوء تقدير أهمية الحكم، انما أيضا من خلال قولها الشيء ونقيضه خلافا للمبدأ القانوني estoppel. فلا يختلف اثنان على القول أن الدولة قد ناقضت نفسها مرتين، أولا بما يتصل بادعائها عن قيامها بابراز الملف كاملا، وأيضا فيما يتصل بخطورة ابراز الملف، من دون أن تجد حرجا في ذلك.
وبعدما رأت الجهة الممثلة لذوي المفقودين أن الخروج عن مبدأ الخصم الشريف يشكل سببا كافيا لرد الاستدعاء برمته، فانها سعت في لائحتها الى نقض جميع الحجج الواردة في الاستدعاء، والتي تهدف الى المماطلة والتسويف ليس الا. كما ردت هذه الجهة على مزاعم الدولة بوجود خطر في تنفيذ القرار، بقولها ان الخطر يكمن في عدم تنفيذ القرار أو في أي تأخر في تنفيذه مما قد يحرم ذوي المفقودين من حق المعرفة والمفقودين من حق الحياة في حال بقائهم على قيد الحياة، وليس في تنفيذه.
وفي موازاة ذلك، تقدمت هذه الجهة بكتاب رسمي لرئيس مجلس الوزراء السيد تمام سلام في 2-6-2014 داعية اليه الى الايعاز فورا لهيئة القضايا بالرجوع عن طلب إعادة المحاكمة، تحت طائلة اعتباره مسؤولا مباشرة عن التعذيب المتمادي بحق ذوي المفقودين.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.