يبدو أن مجلس الوزراء يمضي في سياسة صمّ الآذان عن الاعتراضات المتتالية من منظمات حقوقية وبيئية وناشطين ونواب، والتي تتفاقم وتستمرّ في مواجهة قراره الصادر في 29 أيار المنصرم الذي مدّد بموجبه الترخيص “بشكل استثنائي” لأربع شركات ترابة لاستخراج المواد الأولية اللازمة لصناعة الترابة تلبية لحاجات السوق المحلي لمدة سنة، في إحياء غير قانوني للقرار الرقم 5 الصادر في 15 شباط 2022 والذي سبق أن أبطله مجلس شورى الدولة بتاريخ 20/4/2023 لمخالفته أحكام المرسوم رقم 8803/2002 الخاص بتنظيم المقالع والكسارات.
هذا التجاهل لرفض القرار الحكومي ثبتته جلسة مجلس الوزراء التي عُقدت اليوم، خصوصا أنها تأتي بعد اجتماع عقدته لجنة البيئة النيابية، أول من أمس، ونتج عنه طلب واضح بالتراجع عن هذا القرار. وكانت لجنة البيئة عقدت اجتماعا بطلب من النائبة نجاة عون صليبا، التي أكدت في مؤتمر صحافي، في إثر الاجتماع، على طلبها بالرجوع عن القرار الحكومي، مفنّدة بالمعطيات العلمية المقتلة الصحية والبيئية المتأتيّة عنه. وكذلك فعل رئيس اللجنة النائب غيّاث يزبك الذي ذهب في معارضته للقرار إلى حدّ التلويح بالطعن به في حال لم يتراجع مجلس الوزراء عن القرار، كما أكد للمفكرة القانونية. وفي مؤتمر صحافي عقده يزبك أمس الخميس في مجلس النواب، أكّد أن لجنة البيئة النيابية طلبت خلال اجتماعها من وزيريْ البيئة ناصر ياسين والصناعة جورج بوشكيان، الّلذين ورد في القرار أنه صدر بناء على اقتراحهما، (وحضرا اجتماع اللجنة بناء على طلبها)، نقل طلب اللجنة إلى مجلس الوزراء بالتراجع عن قراره المذكور.
لكن رياح مجلس الوزراء لم تجرِ وفق ما اشتهت سفن لجنة البيئة النيابية، ومعها اعتراضات الناشطين والمنظمات وأهالي منطقة الكورة المقتولين بسموم معامل شركات الإسمنت ومحارقها ومقالعها وكساراتها، وكذلك الأرقام التي قدمها النائب جميل السيد في اجتماع لجنة البيئة حول الأسعار الأعلى للإسمنت في لبنان مقارنة بكل المنطقة، وتهرب شركاته من دفع الرسوم والضرائب رغم أرباحها الهائلة وحماية احتكارها للقطاع.
وردا على سؤال المفكرة حول كيفيّة تعاطي مجلس الوزراء مع ارتفاع كلّ هذه الأصوات المعارضة، أكّد وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين للمفكرة أن الحديث في الجلسة تركّز على ما عرضه أمام مجلس الوزراء لناحية “موضوع مستحقات الخزينة على كامل قطاع المقالع والكسارات والبالغة أكثر من 3 مليارات دولار وفق مسح الجيش اللبناني، ومعه كل القاعدة البيانية “Database” التي عملت عليها وزارة البيئة ليتم المضي بتحصيل هذه الأموال لخزينة الدولة اللبنانية”. وبعد إشارته إلى أنه لم يتم ذكر موضوع اجتماع لجنة البيئة حيث كان “جدول الأعمال مزدحماً”، أبلغ المفكرة أنه تم تشكيل لجنة خاصة مهمتها متابعة تحصيل هذه المستحقات برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي وعضوية وزراء البيئة والأشغال (تنظيم مدني) والداخلية (بلديات وضابطة عدلية) والعدل (النيابات العامة والقضاء) والصناعة (المعامل والمحارق) وكذلك ممثل عن الجيش اللبناني، لافتاً إلى “أنه لا شيء يمنع هذه اللجنة، وفي أول اجتماع يدعو إليه الرئيس ميقاتي أن تبحث بالاعتراضات أيضا وفي طلب لجنة البيئة النيابية”.
وعلمت المفكرة أن اجتماع لجنة البيئة النيابية ضجّ باعتراضات بعض النواب المشاركين، وبدفاع مبطّن لآخرين عن شركات الإسمنت، حيث شددت النائبة نجاة عون صليبا على الأضرار البيئية الصحية للقرار، مشيرةً إلى أن ارتفاع الحرارة في لبنان والعالم ينتج في 75% منه من انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن محارق معامل الإسمنت وعمل الكسارات والمقالع ومصانع الإسمنت التي تستعمل مادة فحم الكوك البترولي، وهي أخطر أنواع الفيول الذي يمكن استعماله في المحارق. وتنبعث من وتنبعث من وقود فحم الكوك البترولي موادّ سامة، عدا عن الغبار والبودرة السوداء والغيوم البيضاء الخاصة بالمقالع والكسارات. وردّت عون صليبا على جواب وزير البيئة ناصر ياسين عن الضوابط المتمثلة بوضع معايير صارمة لعمل المقالع والشركات بالقول “هيدي تدابير للمستقبل، واليوم ماذا نفعل؟” وسألت عبر المفكرة “بسنة التمديد بناء على قرار مجلس الوزراء كم شخص رح يموت بالسرطان؟ كم جبل وقمة رح ياكلوا؟ وكم نبع مي بدو يوقف؟ مين عم يسأل عن الناس وبيئة البلد وجباله وموارده الطبيعية؟ مين عم يحاسب؟ وكيف تصدر الحكومة قرارا مماثلا لتمنحهم الإذن باستكمال الدمار الصحّي والبيئي الذي يمارسونه منذ عشرات السنين. وفي مؤتمرها الصحافي إثر جلسة اجتماع لجنة البيئة، أكدت عون صليبا أنها تعلم “صعوبة هذه المعركة الكبيرة كون هؤلاء المنتهكين محميين من متسلطين وواصلين لمراكز عالية”، مشددة على إصرارها على المضي بها “كون صحة الناس وحياتهم وبيئة لبنان وموارده هي هدفي الأساسي والأهم”.
وردا على كلام النائبة صليبا، أكّد ياسين للمفكرة أن الشركات لم تبدأ العمل بعد قرار مجلس الوزراء “وهذا لن يحصل إلا بعد صدور المعايير التي تحدّد كيفية العمل وإعادة التأهيل والمراقبة البيئية وخفض الانبعاثات وفق القرار 16/1 والقرارّين 202 و 203 الصادريّن عن وزارة البيئة، وحال نشرهما في الجريدة الرسمية”. وأشار إلى أن استئناف العمل سيحصل بعد التزام الشركات بالمعايير عبر بروتوكول مكتوب واتفاق خطيّ بمشاركة بلديات المنطقة التي ستكون شريكة في المراقبة اللصيقة مع شركة خاصة تُلّزم المراقبة، وبعد ذلك نبدأ بمنحهم أذونات شهرية أو فصلية للعمل وتتجدد وفقا لالتزامهم بهذه المعايير.
وأكد ياسين أن تنظيم هذا القطاع ضمن معايير صارمة “أفضل من الفوضى الحاصلة حاليا حيث بتنا أمام عشرات المقالع الصغيرة التي تُفتّح وتحفر تحت غطاء تراخيص ذرائع البناء لتبيع إنتاجها لشركات الترابة والإسمنت مع ما يستوردونه من الخارج”.
مافيا محمية من الدولة
وجاء تداخل النائب جميل السيد في اجتماع لجنة البيئة ليضع النقاط على الخلفية الاقتصادية والمالية للقرار ومعه المواطن المستهلك الذي يدفع أعلى سعر لطنّ الإسمنت في كل المنطقة، إضافة إلى الأضرار البيئية المتأتية عنه. ووفق ما علمت المفكرة، اعتبر السيد القرار يثبّت الاحتكار الذي تنعم به هذه الشركات، حيث أن الدولة تفرض رسوما تتراوح ما بين 36 إلى 86% على أي مركّبات تدخل على المواد الخام والأولية في صناعة الإسمنت لمنع المضاربة على الشركات المحتكرة. أما بالنسبة للأسعار، فالاتفاق أن تتناغم الأخيرة مع أسعار الإسمنت في المنطقة المحيطة بلبنان وهذا ما لا يحصل وفق جردة المقارنة التي أبلغ النائب السيد المجتمعين بنتائجها. شملت الجردة أسعار الإسمنت في كلا من مصر والأردن وسوريا والعراق وتركيا حيث وجد أن المعدل الوسطي لمبيع طن الاسمنت في هذه الدول يدور حول 45 إلى 55 دولارا للطن الواحد فيما لا يقل سعر طن الإسمنت واصلا إلى المستهلك في لبنان عن 95 دولارا. وقال السيد أن وزير الصناعة يُصدر تسعيرة ب 7 ملايين و300 ألف ليرة لبنانية لطن الإسمنت ما يساوي نحو 80 دولارا، ولكن الشركات تمنح قسائم الشراء للسماسرة من بين حُماتها ليقوموا بدورهم ببيعها للناس. وهذا يؤدي إلى دفع المستهلك اللبناني ما يقارب ضعفي سعر الإسمنت في الدول المحيطة. ورغم كل هذه التجاوزات لشركات الإسمنت، واحتكارها المحمي من الدولة للقطاع، لا تدفع الأخيرة (أي الشركات) ما يتوجب عليها من رسوم وضرائب للدولة، والبالغة 386.3 مليون دولار، بينما، ودائما وفق ما قاله النائب السيد في اجتماع لجنة البيئة النيابية، تضاعفت أرباح هذه الشركات 300% من 2019 لغاية اليوم. وتتركز هذه الأرباح في الشركات الثلاث المعروفة من السبع (الترابة الوطنية) إلى هولسيم وسبلين. وشدد السيد أنه يمكن للبنان أن يؤمن للمواطن طنّ الإسمنت المستورد، بناء على أسعار المنطقة، ب 55 دولارا من دون أن نتسبب بموت الناس بسبب انبعاثات الشركات ومعها المقالع والكسّارات ومن دون أن ندّمر بيئة لبنان ونقضم جباله وقممه ونجفّف ينابيعه ونقضي على موارده الطبيعية ومعها تلويث الهواء. وتساءل كيف لشركات الإسمنت ومقالعها الواقعة خارج المخطط التوجيهي للمقالع والكسارات أن تحفر 12 مليون متر مربع وتستخرج منها 30 مليون طن من المواد الأولية لصناعاتها، وتتصرف خارج القانون، ليؤكد أننا أمام مافيا محمية من الدولة.
وفي هذا الإطار، أكد وزير البيئة ناصر ياسين للمفكرة أنه يؤيد فتح باب الاستيراد لكل ما يتعلق بالإسمنت، وأن المضي في استيفاء المستحقات يشمل كل لبنان وليس شركات الترابة فقط، وأن وزارة البيئة لن تتنازل عن إعادة تأهيل هذه المقالع المفتوحة وإنهائها مع حفرياتها، وأن تحصيل أموال الخزينة سيتم ضمن العمل القضائي. وأعلن أنه “يجب على هؤلاء أن يعلموا أن هذا القطاع لم يعد سائبا بعدما امتلكنا اليوم قاعدة بيانات دقيقة مبنية على مسح الجيش اللبناني تشكل محطة انطلاق قد تستغرق سنوات ولكنها يجب أن تصل إلى خواتيمها في النهاية”.
“يجب إيقاف هذه البدعة”
من جهته أشار النائب غياث يزبك في حديث مع المفكرة القانونية أنه طالب وزيري البيئة والصناعة، خلال اجتماع لجنة البيئة النيابية التي يترأسها، بالعمل على تراجع مجلس الوزراء الفوري عن قرار التمديد سنة كاملة “لأن شركات الإسمنت في الكورة وكل أصحاب المقالع والكسارات على مساحة لبنان يستغلون قرارات مماثلة للتوسّع في مساحات مقالعهم وتعزيز الستوكات مستفيدين أيضاً من المهل الإدارية التي تمنح تحت غطاء تصريف الأخيرة (الستوكات)، وهذه بدعة يجب إيقافها. وأكد يزبك للمفكرة أنه سيطعن بالقرار في حال عدم تراجع الحكومة عنه، موضحا في مؤتمر صحافي عقده أمس الخميس في المجلس النيابي أن هناك “1230 مقلعا وكسارة ومرمل في لبنان يعملون بشكل غير شرعي، ويلحقون الضرر بالبيئة التي لم تعد تحتمل المزيد وكذلك بصحة الناس”. ورأى أنه لا يمكن لمجلس الوزراء التذرع بالمرسوم 8803 الصادر في 2002 أو بانتظار تعديله وتحديثه أو حتى تصويبه، ليربط بين قرار التمديد للمقالع في الكورة وسحب اقتراح القانون الذي تقدمت به كتلة الجمهورية القوية النيابية التي ينتمي إليها عن جدول أعمال اللجان النيابية المشتركة. ويرمي الاقتراح الذي قَدمه نواب القوات اللبنانية في 6 أيلول 2023 إلى تنظيم عمل المقالع والمرامل والكسارات في لبنان، وهو اقتراح وضع المرصد البرلماني في المفكرة ملاحظاته عليه. وطالب يزبك بـ”إستعادة اقتراح قانوننا كتكتل لإجراء التعديلات والتحديث على قانون المرامل والكسارات بما يعدّل أوتوماتيكيا المرسوم 8803 ويحدّث القانون 444، ونجبر من خلاله كل من يتعاطى مع البيئة والمرامل والكسارات على الالتزام بالقانون ونحمي البيئة، وهو اقتراح وضعناه بالشراكة مع نقابة المهندسين والتنظيم المدني ونُلزم عبّره المرتكبين بإصلاح ما دمروه وكذلك التعويض عن الأضرار”. واعتبر أن أي حماية للبيئة في لبنان وللناس لا تحصل “من دون تفعيل آليات عمل الدولة وإداراتها ومؤسساتها من عمل مأموري الأحراج وصولا إلى النيابة العامة وما بينهما لممارسة كل آليات عملية المحاسبة والرقابة”. ويلحظ أن أبرز ما يعدله هذا الاقتراح هو تعديل المخطط التوجيهي للمقالع بحيث يشمل الكورة وأي جبل آخر بشروط معينة.
“صار لهم 80 سنة موجودين”
بعدما يطالب نائب منطقة الكورة في المجلس النيابي أديب عبد المسيح ب خطة متكاملة ومستدامة في ملف المقالع والكسارات “حيث أن المهل ليست قانونية، وهي أيضا من الناحية الصناعية لا تناسب أعمال البيزنس”، يقول في حديث مع المفكرة أنه “صحيح أن الكورة مستثناة من المخطط التوجيهي للمقالع والكسارات ولكن شركات الترابة موجودة فيها منذ 80 عاما وتعمل وتدفع ضرائب للدولة فكيف تكون مش قانونية كل هذا الوقت؟”.
ويرى عبد المسيح أن أمامنا حليّن: “إذا كان هناك طريقة لقوننتها بشكل يراعي القانون فلتتقونن، وإذا لا لسبب من الأسباب، فلا حول ولا قوة بدنا نقلهم إنه عملكم خارج المخطط التوجيهي، ويجب أن نعطي وقتا لإنهاء العمل، أي ما يسمى End Of Life Project وهذا معتمد في كل دول العالم، ويعطى 10 سنوات أو 20 عاماً. وأكد أنه ضد المهل الشهريّة والسنويّة والفصليّة “لأنهم بيعملوا لـ بدهم اياه خارج الرقابة”، ولذا هو يريد أن يكون هناك “رخص متكاملة قانونيا أو لا يكون العمل حتى ضمن المهل السنوية، وأنا أعلنت موقفي هذا في اجتماع اللجنة، كوني مع الحلول المستدامة ومع الترخيص القانوني”.