تضع بعض منظّمات المجتمع المدني ومجموعات ثورة 17 تشرين 2019 الحكومة أمام امتحان مهم لا يعني مدينة بيروت، عاصمة البلاد فقط، بل كيفية تعاطي السلطة التنفيذية في القضايا الحساسة المهمة ومنها قضية التمديد لمحافظ بيروت القاضي زياد شبيب، عبر نقله من ملاك القضاء الإداري إلى ملاك وزارة الداخلية وتثبيته في مركزه، وسط اعتراض كبير من قبل محموعات الثورة التي طالبت بمحاسبته بسبب ملفات عدة، وليس مكافأته. وشددت المجموعات نفسها على عدم استبدال شبيب بمستشاري السلطة والمقربين منها، بل اعتماد مبدأي الكفاءة والنزاهة في تعيين رئيس السلطة التنفيذية للعاصمة. ومن المعلوم أن شبيب قاضٍ في مجلس شورى الدولة انتدب في 2014 لوظيفة محافظ بيروت وانقضت المدة الأقصى (والتي هي ست سنوات) لانتدابه. وعليه، بات يتعين إما أن يعود لوظيفته الأصلية في مجلس شورى الدولة (وهو أمر إشكالي بعد كل الضجيج الذي أحاط بشخصه خلال السنوات السابقة) وإما أن ينقل من ملاك مجلس شورى الدولة إلى ملاك وزارة الداخلية، بما يجيز إذ ذاك تمديد ولايته في محافظة بيروت إلى بلوغه سن التقاعد.
ويكرس توجه مجموعات الثورة في المؤتمر الصحافي الذي عقدته قبل ظهر الثلاثاء 5 أيار 2020 تزامنا مع انعقاد جلسة مجلس الوزراء التي كان من المقرر بت بعض التعيينات فيها وعلى رأسها مصير محافظ بيروت. لكن الجلسة الحكومية انتهت بتأجيل البت وسط معطييْن أحدهما اعتراض مجموعات الثورة التي استنكرت إعادة التجديد لشبيب “في ضوء كل الدعاوى المقامة بحقّه” وما يعتريها من شبهة فساد وهدر المال العام، فيما قد يكون تداعي الفعاليات الأرثوذكسية للإجتماع عند مطران بيروت الياس عودة تزامنا مع ما يشهده تعيين محافظ بيروت من أخذ ورد هو المعطى الثاني الذي دفع مجلس الوزراء إلى تأجيل البت بالقضية. وتداعى رموز الأرثوذكس للدفاع عن مواقعهم وحصتهم في الدولة ومواجهة ما يعتبرونه اعتداء على مناصبهم ومواقعهم (غامزين من قناة استثنائهم في المراكز ألأمنية الأساسية في البلاد)، من دون أن يسموا المحافظ كموقع أو شبيب كشخص بالإسم. وفيما يعرف الجميع أن المطران عودة هو راعي شبيب لدى تعيينه وولايته، فقد أشيع أن التداول في إسم بديل عنه لم يشمل استمزاج رأي مطران بيروت، خصوصا مع طرح إسم مستشارة رئيس الحكومة بترا خوري (المقربة من التيار الوطني الحرّ) لخلافته في حال عدم تثبيته في مركزه. وعلمت المفكرة أن تأجيل البت بمصير شبيب تم لفتح المجال أمام المشاورات التي ما زالت سارية وآخرها اجتماع عقد مساء اليوم الثلاثاء، لإيجاد مخرج “يقف عند خاطر الأرثوذكس”، بما يشي ب “تطييب خاطر المطران عودة”. وكان تردّد أن عودة محرج من الإصرار على المحافظ شبيب في ظل كل الارتياب الحاصل حول شخصه.
ويكتسب موقع محافظ بيروت أهمية كبيرة لتمتّعه بصلاحيات مختلفة عن بقية المحافظين في لبنان. فبالإضافة إلى أن بيروت كمحافظة هي الوحيدة التي تتشكل من مدينة واحدة وقضاء واحد، فإن محافظها هو فعلياً رئيس الجهاز الإداري لبلديتها ورئيس السلطة التنفيذية فيها وتتشعب صلاحياته إلى حد موافقته حتى على تعيين حراس مبنى البلدية نفسها. ويعود تخصيص محافظ بيروت بهذه الصلاحيات الإستثنائية إلى تقليد موروث من الفرنسيين، الذين كانوا أخضعوا بلدية باريس لإشراف السلطة التنفيذية “خشية من يساريتها وثوريتها بعد عامية 1870 حتى العام 1977″(سمير قصير، بيروت مدينة العالم)، طبعاً إضافة إلى حفظ مكانة الطائفة الأرثوذكسية التي كانت تتمتع بغالبية ديموغرافية مسيحية في بيروت الإدارية. نحن نتحدث عن بلدية العاصمة ورمزيتها حيث تحوي الغالبية الساحقة من الدوائر الرسمية الأساسية ومقري مجلسي النواب والوزراء ومعهما معظم الوزارات، كما تلامس ميزانيتها المليار دولار.
مجموعات الثورة: لرفع الحصانة عن شبيب ومحاسبته
وتزامنا مع انعقاد جلسة لمجلس الوزراء إذاً، عقدت مجموعات* من ثورة 17 تشرين قبل ظهر الثلاثاء 5 أيّار 2020 مؤتمرا صحافيّا “حول تمرير تثبيت محافظ بيروت القاضي زياد شبيب أو تعيين خلفاً له من مستشاري السلطة”، خاصّة أنّه كان من المفترض إقرار تعيين شبيب محافظا لبيروت بالأصالة، أي حتى تقاعده، قبل أن يؤجّل الأمر في آخر لحظة.
واستنكرت هذه المجموعات في بيانها احتمال إعادة التجديد لشبيب في ضوء كل الدعاوى بحقّه واعتبرته “استهتاراً بالناس وبثوّار 17 تشرين”. وذكّرت في بيان قرأته المهندسة ناهدة خليل من بيروت مدينتي، الحكومة بالبديهيّ وهو تعيين الموظّفين على أساس الكفاءة والنزاهة، لا المحسوبيّة، مؤكدة رفض المجموعات لتدخّل السلطات الدينيّة بالمراكز الإداريّة بشكل عامّ، وحمايتها للمشتبه بهم في قضايا الفساد بشكل خاصّ”.
وفنّدت خليل في البيان، المخالفات التي قام بها المحافظ والمناقصات التي مرّرها “كرمى لعيون المسؤولين في السلطة”، في الوقت الذي كان بإمكانه “أن يتمسّك بالقانون ويعتمد الشفافيّة ويردّ القرارات المضرّة بالمصلحة العامّة لمدينة بيروت، كونه محافظا وقاضيا في الوقت عينه”.
وذكّر البيان بفضيحة تمرير صفقة “الإيدن باي” التي تعدّت على الأملاك العامّة رغم “اعتراض الناس والإضاءة على المخالفات القانونيّة”، وبفضيحة غرق بيروت بمياه الصرف الصحّي بعدما انفجرت في الرملة البيضاء وشارع “بليس” في الحمرا، وذلك من أجل “خاطر المشاريع السياحيّة”. وكانت المفكّرة القانونيّة قد نشرت مقالا يتناول مواقف المحافظ زياد شبيب المتناقضة بما يخصّ التعدّي على دالية الروشة و”إيدن باي”.
تجاوزات عديدة أخرى ذكرها بيان المجموعات، مثل قيام المحافظ بتوقيع عقود بالتراضي مع كلّ من شاشتي الLBC والMTV، مقابل بثّ تقارير دعائيّة عن المحافظة بحدود 30 ألف دولار للتقرير (من دقيقة واحدة). وكذلك مرّر المحافظ صفقات أخرى كتركيب كاميرات في شوارع بيروت، معظمها لم يعمل، وكصفقة تركيب إشارات سير جديدة، في حين أنّ الإشارات الموجودة في حال جيّدة، وصفقة صيانة أنفاق بيروت، وهو ما وصفه البيان ب “أشغال غير واقعيّة”، ولكن تمّ تجميد الصفقة بضغط من الشارع ورفض من بعض أعضاء البلديّة.
ومن ضمن الأعمال التي حصلت خلال ولاية المحافظ شبيب، والتي هدرت المال العام، ذكر البيان قسائم البنزين التي وزّعها المحافظ بشكل استنسابيّ بقيمة 345 مليون ليرة في العام 2019، والإستمرار بالدفع لشركة الPark Meter حوالي 130 مليون دولار سنويّا بالرغم من إنهاء عقدها منذ أكثر من 6 سنوات. وأضاف البيان أنّ المحافظ قام بصرف الأموال من “خلال اعتماد تجزئة المبالغ إلى سلف”، وهو ما اعتبرته المجموعات التي وقّعت على البيان “مخالفا لأبسط قوانين المحاسبة العموميّة”.
لم ينج حرج بيروت من مخالفات المحافظ، فقال البيان إنّ المحافظ ومجالس البلديّة المتعاقبين شرّعوا التعديات عليه، “إن كان ببناء مركز لكشافة الرسالة أو لبناء مستشفى ميدانيّ مصريّ “مؤّقت”، ادّعت المحافظة أنّها مجبورة على القيام به كونه هبة مصريّة. وأضاف البيان أنّ “البلديّة دفعت مليون و200 ألف دولار أميركيّ بعقد بالتراضي مع شركة محسوبة على متعهّد مقرّب من البلديّة، علما أنّ وزارات الدفاع والصحّة والبيئة أجمعت على عدم الحاجة إلى المستشفى ولم توقّع على تراخيض تشغيله”. ورغم ذلك، تمّ إنشاء المستشفى (ويفترض أنّهم أنهوا بناءه في عام 2019)، ولكن أشار البيان إلى أنّه ما زال مغلقا فيما أنّه كان من الممكن استخدامه في زمن الكورونا.
ومن المشاريع الأخرى المذكورة أيضا، مشروع توسيع كورنيش المنارة والذي كلّفت دراسته مليون و700 ألف دولار أميركيّ من أموال سكّان البلديّة، بالرغم من عدم وقوعه في دائرة أولويّات مدينة بيروت، وكاد أن يتعدّى المشروع على صخور الشاطىء والبحر لولا تجميده تحت الضغط.
لكلّ تلك المخالفات التي ثبتت على المحافظ الحالي لبيروت أو التي حصلت خلال فترة ولايته، طالب البيان ب”رفع الحصانة عن شبيب ومحاسبته على سوء أدائه وفساده”، ورفض تعيين محافظ آخر غير نزيه وغير ملمّ بالشأن العامّ. وأكّد البيان أنّ صراع أحزاب السلطة لتقوية مواقعها في الدولة لن يمرّ على حساب الناس. وطالبت المجموعات الموقّعة بالعمل على مراجعة جذريّة لنظام الحكومة وإقرار قانون اللامركزيّة الإداريّة وتفعيل الرقابة، وأكّدت أنّ غيابها ليس مبرّرا لكلّ ما فعله زياد شبيب.
وإذ تؤكد المفكرة على وجوب عزل شبيب عن مركزه كمحافظ بيروت، فإنها ترى ضرورة في مباشرة تحقيقات فورية معه يحدد على ضوئها مصيره. فالإرتياب المشروع الذي ولّدته سلوكياته كمحافظ إنما باتت تشكل شبهة تمنعه من باب أولى ممن ممارسة وظيفة القضاء بما تتطلبه من نبل وتجرّد ومصداقية.
* المجموعات التي وقّعت على البيان هي:
بيروت مدينتي، المفكّرة القانونيّة، الجمهورية الثالثة، مجموعة شباب المصرف، تكتّل أوع، ثوّار 17 Rebels، مجموعة لبنان ينتفض، الحركة الشبابية للتغيير، جمعيّة سيدرز للعناية، جمعية حملة الأزرق الكبير، بيروت الثورة، ثورة لبنان، تحالف وطنيّ، ستريت، منتشرين، أنا المواطن، المرصد الشعبيّ لمحاربة الفساد، تجمع الشبيبة الديمقراطيّ، هوا تشرين، المرصد اللبنانيّ للعمّال والموظّفين، الحملة الأهليّة للمحافظة على دالية الروشة، مجموعة القنطاري، موطني.