أصدرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت عبير صفا، في 28/3/2025 حكمها في القضية التي عُرفت بـ”غرافيتي الخارجية“، فقرّرت إبطال التعقّبات في حق الناشط خضر أنور عن جرائم الشغب والتخريب والقدح والذم بوزارة الخارجية اللبنانية. وجاء ادّعاء النيابة العامّة الاستئنافية في بيروت على أنور إثر قيامه في 20/10/2023 بكتابة شعارات “الصهاينة غير مرحّب بهم” و”وزارة الانبطاح” على جدار مبنى تابع للوزارة في بيروت، وذلك احتجاجًا على زيارة وزيرة خارجية ألمانيا إلى لبنان، في ظلّ دعمها حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
وكانت النيابة العامّة، التمييزية (القاضي صبّوح سليمان) ثمّ الاستئنافية في بيروت (القاضي زياد أبو حيدر)، قد أبقت أنور محتجزًا في هذه القضية لمدة أسبوع، قبل إخلاء سبيله من قبل قاضي التحقيق الأول في بيروت (بلال حلاوي) الذي أصدر قرارًا ظنّيًا أيّد فيه مواد الادعاء وأحال أنور إلى المحاكمة. وجاء حينها توقيفه بهدف “تأديبه” لثنيه عن الاحتجاج، بعد أن أوقف أنور لأكثر من 10 مرّات خلال العقد الأخير وتعدّدت الملاحقات في حقّه على خلفية مشاركته في تظاهرات احتجاجية مختلفة.
وبعد جلسة المحاكمة التي استجوبت خلالها القاضية صفا، أنور، واستمعت إلى مرافعة وكيلته المحامية فداء عبد الفتاح، خلصت القاضية إلى إبطال التعقّبات في حقه لكون الأفعال التي قام بها لا تُشكّل جرمًا معاقبًا عليه في القانون. ولم تتعامل المحكمة مع الأفعال الاحتجاجية التي قام بها أنور كأحداث مجرّدة منقطعة من سياقها وزمانها، بل وضعتها في السياق والزمان اللذين حدثت فيهما، مشيرةً إلى أنّ الاحتجاج والتظاهر قد حدث خلال بداية حرب الإبادة على غزة وبعد أيام قليلة من ارتكاب إسرائيل مجزرة مستشفى المعمداني.
وللوصول إلى هذه النتيجة، اعتمد الحكم تعليلًا تضمّن تكريس مبادئ قانونية هامّة، ليُضاف إلى مجموعة من الأحكام القضائية التي تعزز الحماية القانونية لحرية التعبير والتظاهر والاحتجاج السلمي، ومن ضمنها الأحكام الصادرة سابقًا عن القاضية صفا والقاضية ندى جدايل.
عدم توافر النية في جرائم القدح والذم
اعتبر الحكم أنّ الركن المعنوي في جريمتي القدح والذم يتوفّر فقط عندما يكون القصد الجرمي واضحًا. وأشار إلى أنّه لكي تُعطى الأفعال صفة جرمية، يجب أن تكون الإرادة الصريحة متوافرة للنيل من شرف وكرامة الشخص الواقع عليه الفعل الجرمي، أو القصد في ازدرائه.
وفي هذه القضية، اعتبرت المحكمة أنّ النية الجرمية غير متوفرة في العبارات التي قام أنور برشّها بواسطة البخّاخ على مبنى المصادقات التابع لوزارة الخارجية، ومنها “الصهاينة غير مرحّب بهم” والأخرى “وزارة الانبطاح”، مستندة إلى المعطيات التالية:
– الهدف من العبارات هو التعبير عن الاستياء: وجدت المحكمة أنّ العبارات المكتوبة “وإنْ كانت تنطوي في ظاهرها على قساوة ما ولا يتّصف استخدامها بأدبيات التخاطب واللياقة، إلّا أنّها جاءت لتعبّر عن استياء من استقبال وزارة الخارجية اللبنانية لممثلي دول داعمة للكيان الإسرائيلي من هجمات همجية تجاه سكان مدينة غزة وعدم إدانتها تلك الأعمال”.
– العبارات تتّصل بالاهتمام العام والنشاط المطلبي: وجدت المحكمة أنّ هذه التعابير تدخل ضمن الاهتمام اليومي العام لأنور وهو ناشط في مجال الاتحاد الطلابي والنضال المطلبي والاجتماعي، وأنّ الهدف هو التعبير عن تقديم الدعم المعنوي وإظهار الاستياء لما يتعرّض له شعب بكامله من إبادة وتنكيل من دون أن يتعدّاه إلى النيل من هيبة إحدى مؤسسات الدولة.
– البُعد الإنساني: رأت المحكمة أنّ مسألة الاعتراض على ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني تحمل أبعادًا إنسانية وأخلاقية وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالكرامة والحق.
فخلصت المحكمة إلى نفي العنصر المعنوي لجرمي القدح والذم، لعدم توافر قصد النيل من هيبة إحدى مؤسسات الدولة. وهذا التوجّه يتماشى مع النهج الذي اتبعته المحكمة نفسها في أكثر من قرار أصدرته في قضايا تتعلق بالاشتراك في الحراك المطلبي احتجاجًا على أزمة النفايات في العام 2015.
نيّة التخريب منتفية في رش الغرافيتي
فيما يتعلّق بجرم التخريب المنصوص عليه في المادة 733 من قانون العقوبات، والذي ادعي به على الناشط أنور بسبب رشّه بالسبراي غرافيتي بالعبارات المذكورة على جدارين في المبنى الذي يقع فيه قسم المصادقات في وزارة الخارجية، فقد وجدت المحكمة أنّ العنصر المعنوي للجرم غير متوفّر أيضًا. وقد وصلت إلى هذه النتيجة من خلال تحرّي الغاية التي لأجلها تمّت الكتابة.
وعليه، اعتبرت المحكمة أنّ الغاية من كتابة العبارتين كانت إيصال رسالة معينة إلى المسؤولين في وزارة الخارجية، ولم يكن الهدف تعييب أو إتلاف أو تشويه الجدارين أو إلحاق الضرر بهما لأجل تخريبهما. وبالتالي فإن ما قام به يتنافى مع المفهوم القانوني للتخريب المعاقب عليه، مما يقتضي معه إبطال التعقبات في حقّه.
هنا أيضًا ينسجم الحكم الصادر عن القاضية صفا مع قرارات سابقة صادرة عنها وعن محكمة الاستئناف في بيروت والتي رفضت جميعها معاقبة ممارسات الغرافيتي ووضعتها تحت حماية حرية التعبير.
لا جريمة شغب من دون اكتمال الشروط القانونية
فيما ادّعت النيابة العامّة على أنور بالمادة 346 من قانون العقوبات التي تعاقب جريمة الشغب، دققت القاضية صفا في مدى توفر الشروط القانونية لجرم الشغب، لتجد أنّها غير متوافرة. فالمدّعى عليه كان برفقة 4 أشخاص فقط، ولم يكن أحد منهم مسلّحًا، كما لم يهدف التجمع إلى ارتكاب جناية أو جنحة، ولم يكن احتجاجًا على صدور أي قرار أو اتخاذ أي تدبير من قبل السلطة بهدف الضغط عليها.
ولم يتوقف الحكم على البحث في مدى توّفر العناصر المادية لهذا الجرم، بل أسهب في البحث في نية المدعى عليه. فوجد أن هدف التظاهر السلمي كان دعما للقضية الفلسطينية وتنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة. واعتبر أن حمل اللافتات الورقية المنددة بهذا العدوان لم يترافق مع أناشيد الشغب أو إبراز أي إشارة أو القيام بما يتصف بأعمال الشغب وفق المفهوم القانوني له أو أي عمل من شأنه تعكير الأمن العام واضطرابه. لذا، خلصت المحكمة إلى أن هذه الأفعال ليست ضمن إطار التعداد “الحصري” الوارد في المادة 346 من قانون العقوبات ولا تنطبق على مفهوم أعمال الشغب الواردة في المادة 345 منه.
التظاهر السلمي ممارسة لحق
على غرار القرارات السابقة أصدرتها القاضية عبير صفا لصالح متظاهرين شاركوا في الحراك الشعبي في العام 2015، لم يكتفِ الحكم الراهن بنفي وصف الشغب والقدح والذم والتخريب عن أفعال المدعى عليه أنور، بل اعتبر أنّه يشكّل ممارسة لحق. فالتظاهر تعبيرًا عن رفض المجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني من قبل الكيان الإسرائيلي هو بحسب القرار “ممارسة لحق مطلبي يتصف بطابع سلمي”، خصوصًأ أن القضية هي “قضية قومية، إنسانية، أخلاقية وحياتية تعبر عن واقع شعب يتعرّض للاضطهاد والتنكيل”.
كما اعتبرت المحكمة أنّ للمدعى عليه الحق في التعبير عن “وجوب التضامن لردع أي دعم للكيان الإسرائيلي ليحثّه على التوقف عن التعرض لحقوق الشعب الفلسطيني وارتكاب المجازر في حقه، وهي مسألة لا خلاف على كونها تحمل أبعادًا إنسانية وأخلاقية محض وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالكرامة والحق”. كما اعتبرت أنّ التعبير بواسطة الرش على الجدران “جاء فقط تعبيرًا سلميًا احتجاجيًا عن حالة الاستياء من استقبال ممثلي دول داعمة للكيان الإسرائيلي”.ووجدت المحكمة أنّ أفعال أنور جاءت كـ “ردة فعل عفوية” على استقبال وزارة الخارجية ممثلي دول “لم يعملوا على إدانة ما ارتكبه الكيان الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني وردعه عن التمادي في ذلك”. وتجدر الإشارة إلى أنّ ألمانيا لا تزال تخضع للمحاكمة أمام محكمة العدل الدولية للاشتراك في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل على خلفية دعمها العسكري والسياسي والمالي لها.
خلاصة
يعبّر توجّه المحكمة في هذه القضية عن استعادة البعد الإنساني والحقوقي للنصوص القانونية، والابتعاد عن التعامل معها كقوالب جامدة ومجرّدة عن أي اعتبار إنساني أو معزولة عن أي سياق اجتماعي أو زمني. وبمعنى آخر يبعث الروح الإنسانية في تلك النصوص، وفي الوظيفة القضائية باعتبارها حامية للحريات والحقوق. ومن ِشأن أحكام كهذه أنّ تًساهم في ترشيد ممارسات قضاة النيابات العامة الذين غالبًا ما يتشدّدون في وصف الأفعال ويقتطعونها عن سياقها، ويلجأون إلى الاحتجاز من دون توّفر الضرورة، ، ما يؤدّي إلى إرهاق القضاء وارتفاع الاكتظاظ في أماكن احتجاز الحرية دون طائل.
ولا أدلّ على ذلك من قضية الناشط خضر أنور الذي أوقف لمدة أسبوع رغم تلبيته الاستدعاء إلى التحقيق بعد ما يُقارب الشهرين على رشّه الغرافيتي على جدران وزارة الخارجية، ليُعلن قضاء الحكم بعد ذلك إبطال التعقبات بحقه وعدم ارتكابه أي جرم.