يضمن الحقّ في المحاكمة العادلة للمُتّهَم والضحيّة بأن تنظر في قضيّتهم محكمة “مستقلّة وحيادية”، وهو من المبادئ المتفرّعة من مبدأ فصل السلطات. ويستوجب ضمان استقلالية القضاة، بموجب ضمانات قانونية منصوص عليها في الدستور والقوانين، من أيّ ضغط سياسي أو تأثير أو تدخُّل غير مشروع قد تفرضه السلطات التنفيذية أو التشريعية أو العسكرية أو السلطات القضائية العليا على مسار التحقيق والمحاكمة، وفقًا لمبادئ الأمم المتّحدة بشأن استقلالية القضاء (المبادئ 1 إلى 7) ومبادئ ديكو (المبدآن رقم 1 و13). فهل يضمن تنظيم القضاء العسكري في لبنان مبدأ استقلالية المحاكم والقضاة؟
تشكيل المحاكم وتعيين القضاة في القضاء العسكري
يتألّف القضاء العسكري من خمس مؤسَّسات، هي: محكمة تمييز عسكرية، ومحكمة عسكرية دائمة، وقضاة منفردون عسكريون في المحافظات، بالإضافة إلى مفوّض حكومة ومعاونيه وقضاة تحقيق.[1] يجيز القانون تعيين القضاة العسكريين المنفردين من الضبّاط المجازين في الحقوق، وإذا تعذّر ذلك فمن غير المجازين[2]. وفيما يقوم قضاة مدنيون من ملاك القضاء العدلي بمهامّ النيابة العامة (مفوّض الحكومة ومعاونوه) وقضاء التحقيق حاليًّا، يسمح القانون بتعيين هؤلاء القضاة من الضبّاط المجازين في الحقوق.[3]
وتضمّ هيئة المحكمة العسكرية ومحكمة التمييز العسكرية أشخاصًا عسكريين في هيئاتها المختلفة[4]:
- في القضايا الجنائية، تتألّف المحكمة العسكرية من ضابط رئيسًا وقاضٍ عدلي وثلاثة ضبّاط دون رتبة الرئيس، وتتألّف محكمة التمييز العسكرية من قاضٍ عدلي رئيسًا وأربعة ضبّاط.
- في القضايا الجنحيّة، تتألّف المحكمة العسكرية من ضابط رئيسًا وقاضٍ عدلي وضابط دون رتبة الرئيس، وتتألّف محكمة التمييز العسكرية من قاضٍ عدلي رئيسًا وضابطَين.
تشكّل مسألة تعيين القضاة أحد أكثر المجالات المتاحة لتدخُّل السلطة التنفيذية في مجال السلطة القضائية. وفي القضاء العسكري، يتولّى وزير الدفاع تعيين الضبّاط القضاة في بدء كلّ سنة بقرار مبنيّ على اقتراح السلطة العسكرية العليا بما يتعلّق بالضبّاط التابعين للجيش، وعلى اقتراح كلّ من مدير عام قوى الأمن الداخلي ومدير عام الأمن العام بما يتعلّق بالضبّاط التابعين لقوى كلّ منهما.[5] ويُعيَّن ضبّاط قوى الأمن الداخلي والأمن العام بقرار مشترَك من وزير الدفاع ووزير الداخلية، وضبّاط المديرية العامة لأمن الدولة بقرار مشترَك من وزير الدفاع ورئيس الحكومة (بصفته نائب رئيس المجلس الأعلى للدفاع)[6].
يبقى العسكريون رؤساء المحاكم العسكرية، وكذلك أعضاؤها، في أثناء تولّيهم القضاء العسكري، تابعين مباشرة لوزير الدفاع الوطني، وخاضعين لأنظمة السلك الذي ينتمون إليه. ولا يجوز طيلة ممارستهم وظائفهم القضائية، وبسبب هذه الوظائف فقط، إحالتهم إلى هيئة تحقيق أو إلى أيّة محكمة عسكرية أو إنزال عقوبات تأديبية بهم إلّا بأمر من وزير الدفاع.[7]
بالإضافة إلى ذلك، يتوقّف تحريك دعوى الحقّ العام في بعض الجرائم المتعلّقة بأفراد الجيش على قرار قيادة الجيش الملزِم لمفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية[8]، كما يجوز لوزير الدفاع إلزام مفوّض الحكومة بتمييز القرارات الصادرة عن المحكمة العسكرية[9]، ممّا قد يشكّل تجاوزًا خطيرًا لمبدأ فصل السلطات، وتجريد النيابة العامّة من سلطتها واستقلاليتها في الملاحقة. وفي رأيها حول اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي، أشارت “اللجنة الأوروبية للديمقراطية عن طريق القانون” والمعروفة باسم “لجنة البندقية” إلى أنّ على القانون اللبناني النصّ صراحة على عدم جواز تلّقي النيابة العامّة تعليمات حول قضايا محدّدة.[10]
ويرى بعض المحامين العاملين في القضاء العسكري الذين قابلتهم “المفكّرة” أنّ التدخُّل في عمل القضاء العسكري غالبًا ما يأتي من قائد الجيش أو القوى السياسية الحاكمة، ويتّخذ طابعَين: طابع عام حيث تعتمد المحاكم العسكرية التوجُّهات السياسية لقيادة الجيش، كأن يتمّ التشدُّد أو عدم التشدُّد في التعامل مع فئات أو تنظيمات معيّنة (كالتنظيمات الفلسطينية والسورية)، وطابع خاص، كأن يتمّ البتّ في ملفّات بارزة وفقًا لرغبات القيادة، كما جرى في قضيّة المســؤول في مُعتقَــل الخيــام الســابق عامــر الفاخــوري[11]. بالإضافة إلى ذلك، يرى بعض هؤلاء المحامين أنّ حيادية المحاكم العسكرية مفقودة حكمًا نظرًا إلى انحياز معظم قضاتها إلى المؤسَّسات العسكرية والأمنية التي ينتمون إليها، ممّا يثير شكوكًا مشروعة في مدى تمكّنهم من النظر بحيادية، بخاصّة في قضايا قتل عناصر من هذه الأجهزة.
وأفاد بعض هؤلاء المحامين بأنّهم يشعرون بعدم تمكُّن القضاة الضبّاط من القانون وأصول المحاكمات، ممّا يُصعّب النقاش القانوني معهم أحيانًا، في حين أنّ القضاة المدنيين غالبًا ما يظهرون في حالة تماهٍ معهم بدلًا من المساهمة في تكريس مبادئ المحاكمة العادلة. كما يشعر بعض المحامين بأنّ القضاة الضبّاط غالبًا ما ينحازون إلى النيابات العامة من خلال الموافقة على طلباتها والسماح لممثّليها بتأدية دور أكبر خلال الجلسات بالرغم من أنّها الخصم، ممّا يخلّ في التوازن بين الادّعاء والدفاع.
عدم توافر شروط الاستقلال والحياد الظاهرَين
بناءً على ما تقدّم، يظهر أنّ القواعد المتعلّقة بتشكيل المحاكم العسكرية وآليّة تعيين قضاتها تتضمّن مؤشّرات عدّة على غياب معايير الاستقلال والحياد بشكل واسع، ومنها:
- تأليف هيئات المحاكم بأغلبية من الضبّاط.
- غياب المعايير الموضوعية لتعيين الضبّاط القضاة في المحاكم.
- عدم اشتراط الإجازة في الحقوق أو التدريب القانوني للضبّاط المعيّنين في المحاكم العسكرية.
- غياب آليّة تأهيل الضبّاط القضاة كما هي الحال في القضاء العدلي حيث يفرض القانون تهيئة القاضي المتدرّج لثلاث سنوات في معهد الدروس القضائية.
- خضوع الضّباط القضاة لأنظمة الأسلاك العسكرية والأمنية التي ينتمون إليها.
- غياب الضمانات بعدم نقل القضاة من مركزهم إلّا برضاهم.
- الارتباط الوثيق للضبّاط القضاة بالسلطة التنفيذية، العائد بشكل خاص إلى خضوع الضبّاط التابعين للجيش لسلطة وزير الدفاع، وإلى خضوع تعيينهم وإزالتهم من مركزهم لسلطة وزير الدفاع من دون رقابة، وإلى إمكانية ملاحقتهم تأديبيًّا أو قضائيًّا على خلفية وظيفتهم القضائية بأمر من وزير الدفاع. فالصلاحيات التي يتمتّع بها وزير الدفاع على قضاة المحاكم العسكرية تتجاوز الصلاحيات التي يتمتّع بها وزير العدل على القضاة العدليين.
- تأليف المحاكم العسكرية من ضبّاط أعضاء دون رتبة رئيسهم، علمًا أنّ الأسلاك العسكرية والأمنية تخضع لقواعد الهرمية والتراتبية التي قد تجعل من الصعب على العضو مخالفة رأي ضابط من رتبة أعلى.
- خضوع النيابة العامة العسكرية لسلطة قيادة الجيش ووزير الدفاع.
على ضوء هذه المؤشّرات، تشكّل هيمنة الضبّاط على تشكيل المحاكم العسكرية سببًا موضوعيًّا للشكّ في حياديتها واستقلاليتها، إن كان بالنسبة إلى عناصر الأجهزة الأمنية والعسكرية أو بالنسبة إلى المدنيين. فالاستقلالية والحيادية لا تُقاسان بناء على معايير ذاتية فقط (كالاستناد إلى آراء القاضي المسبَقة ومصالحه الشخصية في قضيّة ما)، إنّما تُقاسان بشكل موضوعيّ، أي وفق حياد المحكمة الظاهر الذي يفرض عليها أن توفّر الضمانات الموضوعية الكافية لتبديد أيّ شكّ في حيادها.
في هذا الصدد، كرّس اجتهاد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مبدأ “الاستقلالية الظاهرية”، إذ يكفي توافر أسباب موضوعية لنشوء شكوك مشروعة عند أحد الأطراف بشأن استقلال القاضي وحياديته للقول بأنّ المبدأ قد خُرق، وذلك انطلاقًا من أهمِّية إيحاء المحاكم في مجتمع ديمقراطي بالثقة العامة[12]. كذلك أكّد اجتهاد المحكمة الأوروبية أنّ الشكوك حول استقلالية المحاكم العسكرية وحيادها تكون مشروعةً في حال كان أعضاؤها من رتبة أدنى من رئيسها وخاضعين لسلطته الهرمية، وأنّه لا يمكن اعتبارها مستقلّة وحيادية في حال كان أحد أعضائها تابعًا للسلك العسكري وخاضعًا للتأديب العسكري ومُعيَّنًا من قبل رؤسائه ولا يتمتّع بالضمانات الدستورية الممنوحة للقضاة العاديين[13].
وقد أكّدت المقرِّرة الخاصّة لاستقلالية القضاة والمحامين أنّ مبدأ فصل السلطات يتطلّب أن تكون المحاكم العسكرية منفصِلة مؤسّساتيًّا عن الفرعَين التنفيذيّ والتشريعيّ للسلطة، بهدف تجنُّب أيّ تدخُّل في عمليّة إقامة العدل، بما في ذلك تدخُّل السلطات العسكرية[14]. كذلك تشير “مبادئ ديكو” إلى أنّه “يجب حماية الاستقلال القانوني للقضاة في المحاكم العسكرية من حيث علاقتهم بالتسلسل الهرمي العسكري حمايةً دقيقة، وتجنّب أيّ تبعية مباشرة أو غير مباشرة، سواء كان الأمر يتعلّق بتنظيم وسير نظام العدالة أو تطوّر الحياة المهنية للقضاة العسكريين”، مشدّدةً أنّه على ضوء “نظريّة المظهر” يجوز للمتقاضي أن يعتبر، ولأسباب وجيهة، القاضي العسكري ضابطًا يمكن أن يكون “حكمًا وخصمًا” في أيّ قضيّة تمسّ المؤسَّسة العسكرية، وليس قاضيًا متخصصًا مثل غيره (المبدأ رقم 13).
بالإضافة إلى ذلك، تنصّ مبادئ الأمم المتّحدة بشأن استقلالية القضاء على أنّه ينبغي للّذين يشغلون الوظائف القضائية أن يكونوا “من ذوي النزاهة والكفاءة، وحاصلين على تدريب أو مؤهّلات مناسبة في القانون” (المبدأ رقم 10). كما أشارت “مبادئ ديكو” إلى ضرورة تمتُّع القضاة في المحاكم العسكرية بالكفاءة والحصول على التدريب القانوني المطلوب من القضاة العاديين، معتبرة الكفاءة القانونية للقضاة العسكريين “مكوِّنًا أساسيًّا في استقلاليتهم وحيادهم” (المبدأ رقم 13).
مخالفة مبدأ القاضي الطبيعي للمدنيين
بالإضافة إلى ذلك، تُجمع المعايير والاجتهادات الدولية على عدم جواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية بشكل خاص، لما يشكّل ذلك من مسّ لمبدأ استقلال المحكمة وحيادها ولمبدأ القاضي الطبيعي (أو القاضي المشروع)[15]. ويُبنى مبدأ “القاضي الطبيعي” على المبدأ المزدوج القائل بالمساواة أمام القانون والمحاكم، وينصّ على حقّ المتقاضين في أن يُحاكَموا بطريقة متساوية، أمام المحاكم نفسها وتبعًا للقواعد الإجرائية والأحكام القانونية نفسها. وهذا ما ترجمه عددٌ من المدنيين الذين تمّت محاكمتهم أمام القضاء العسكري بأنّ “هذا ليس مكاننا الطبيعي”[16].
وقد أكّدت اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان أنّ وجود محاكم عسكرية تحاكم المدنيين في كثير من البلدان “يثير مشاكل خطيرة فيما يتعلّق بإقامة العدل بصورة منصِفة ومحايِدة ومستقِلّة”، مشدّدة على أنّ محاكمة المدنيين أمام هذه المحاكم يجب أن تكون “من باب الاستثناء”. وطالبت الدول بحصر اختصاص المحاكم العسكرية بـ”الدعاوى التي تبيّن فيها الدولة الطرف أنّ اللجوء إلى هذا النوع من المحاكمات ضروري وله ما يبرّره من أسباب موضوعية وجدِّية، وفي الحالات التي لا تتمكّن فيها المحاكم المدنية العادية من إجراء محاكمات بسبب الفئة التي ينتمي إليها الأفراد وتصنيف الجرائم”[17]. كما اعتبر المقرّر الخاص باستقلالية القضاة والمحامين[18] وفريق الأمم المتّحدة المعنيّ بالاحتجاز التعسُّفي[19] بأنّه لا يجوز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وطالبت لجنة الأمم المتّحدة لحقوق الطفل بعدم محاكمة أيّ شخص تحت سنّ الثامنة عشرة أمام المحاكم العسكرية[20].
بالإضافة إلى ذلك، أكّدت مبادئ “ديكو” عدم اختصاص المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين (المبدأ 5) والقاصرين (المبدأ 7) استنادًا إلى المادّة 14 من العهد الدولي واتّفاقية الأمم المتّحدة لحقوق الطفل التي صادق عليها لبنان، وأوصت بحصر اختصاص المحاكم العسكرية في الجرائم ذات الطابع العسكري البحت التي يرتكبها موظّفون عسكريون.
وفي ما يتعلّق بلبنان، أعربت اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان في العامَين 1979 و2018 عن قلقها إزاء افتقار قضاة المحاكم العسكرية للاستقلالية والنزاهة، وإزاء توسُّع اختصاص القضاء العسكري في لبنان إلى أبعد من المسائل التأديبية على نحو يشمل المدنيين، بمن فيهم الأطفال. وعليه، أوصتْ اللجنة لبنان بإلغاء اختصاص القضاء العسكري في جميع المحاكمات المتعلّقة بالمدنيين وبانتهاك حقوق الإنسان من جانب الأفراد العسكريين[21].
لتحميل الدراسة بصيغة PDF
[1] المادّة الأولى من قانون القضاء العسكري رقم 24 تاريخ 13/04/1968.
[2] المادّة 7 من قانون القضاء العسكري.
[3] المادّتان 11 و12 من قانون القضاء العسكري.
[4] المادّتان 5 و6 من قانون القضاء العسكري.
[5] المادّة 14 من قانون القضاء العسكري.
[6] المادّة 9 من المرسوم رقم 110 تاريخ 30/6/1977، تحديد صلاحية القضاء العسكري في الجرائم الواقعة على رجال قوى الأمن الداخلي والأمن العام والمديرية العامة لأمن الدولة والموظّفين المدنيين التابعين لقوى الأمن الداخلي والأمن العام.
[7] المادّة 14 من قانون القضاء العسكري.
[8] المادّة 36 من قانون القضاء العسكري.
[9] المادّة 79 من قانون القضاء العسكري.
[10] Venice Commission, CDL-AD(2022)020, Lebanon – Opinion on the draft law on the independence of judicial courts, para. 38.
[11] نجيب فرحات، قراءة حقوقية في قرار كفّ التعقّبات عن الفاخوري: كأنّنا لم نقرّ قانونًا حول حقوق المفقودين، المفكّرة القانونية، 21/03/2020.
[12] https://www.echr.coe.int/documents/604084/839313/Guide_Art_6_criminal_ARA.pdf الفقرات 63 إلى 65 و72 إلى 76.
[13] https://www.echr.coe.int/documents/604084/839313/Guide_Art_6_criminal_ARA.pdf الفقرة 84.
[14] A/68/285 الفقرة 38.
[15] E/CN.4/2004/60 الفقرة 60.
[16] غيدة فرنجية، أحكام بعدم الاختصاص والبراءة: القضاء العسكري يتنصّل من قمع حراك صيف 2015، المفكّرة القانونية، 19/05/2017. هيومن رايتس ووتش، “’هذا ليس مكاننا‘: محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في لبنان“، 2017.
[17] CCPR/C/GC/32 الفقرة 22.
[18] E/CN.4/1998/39/Add.1 الفقرتان 78-79.
[19] E/CN.4/1999/63 الفقرة 8.
[20] CRC/C/15/Add.15 الفقرة 75.
[21] CCPR/C/79/Add.78 الفقرة 14، CCPR/C/LBN/CO/3 الفقرتان 43-44.