الحق في مياه نظيفة يساهم في كفالة الحق في الصحة، الى جانب سلامة الغذاء وحماية الثروة السمكية. فالحفاظ على المياه العذبة نظيفة يضمن مياه شرب نظيفة للمواطن، ولري الزراعة مما من شأنه أن يؤدي الى المساهمة في ضمان صحة أفضل للمواطن وسلامة الغذاء. كذلك، الحفاظ على المياه العذبة والملحة من التلوث يساهم في حماية الثروة السمكية، ويضمن كذلك سلامة الغذاء.
ولكن، في مصر نلاحظ انتهاكا صريحا للحق في الحصول على مياه نظيفة. فتشير التقارير الى ارتفاع نسبة تلوث المياه[1]، وذلك بسبب عدة عوامل منها الملوثات الصناعية، والتلوث بنتيجة مياه الصرف الزراعية والصرف الصحي المنزلي، وغيرها من العوامل.
تلوث النيل: انتهاك الحق في المياه النظيفة والحق في الصحة
تشير التقارير أن 5.1% من اجمالي الوفيات و6.5% من مجمل الاعاقات في مصر في السنة تعود الى المياه غير الصالحة للشرب وعدم كفاية مرافق الصرف الصحي وعدم كفاية النظافة وسوء إدارة الموارد المائية[2].
– أسباب تلوث مياه النيل
ويرجع تلوث مياه النيل الى عدة أسباب منها التلوث بسبب الصناعة، التلوث بسبب مياه الصرف الصحي الزراعي والصرف الصحي المنزلي.
الصناعة مسؤولة عن جزء كبير من تلوث مياه النيل. فما يقدر ب 350 مصنع تقوم بتصريف مياه الصرف الصحي الخاصة بهم مباشرة في النيل أو من خلال نظام البلدية[3]، وقد سجل جهاز شؤون البيئة في عام 2008 مخالفات لما يقارب ال 102 منشأة صناعية [4]. بالإضافة الى عدد من المقاهي، والمطاعم المائية العائمة التي تقوم بإلقاء مخلفاتها في النيل[5]. وذلك يشكل مخالفة واضحة للقانون الخاص بحماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث، حيث تنص المادة 2 منه على حظر “صرف أو القاء المخلفات الصلبة أو السائلة أو الغازية من العقارات والمحال والمنشآت التجارية والصناعية والسياحية ومن عمليات الصرف الصحي وغيرها في مجاري المياه على كامل أطوالها ومسطحاتها الا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الري”، كما تنص المادة 5 من القانون على أنه “يلتزم ملاك العائمات السكانية والسياحية وغيرها الموجودة في مجرى النيل وفرعيه بإيجاد وسيلة لعلاج مخلفاتها أو تجميعها في أماكن محددة ونزحها والقائها في مجاري أو مجمعات الصرف الصحي ولا يجوز صرف أي من مخلفاتها على النيل أو مجاري المياه”.
وتحتوي النفايات الناتجة عن الصناعة العديد من المواد المضرة نذكر منها مواد التنظيف، المعادن الثقيلة، والمبيدات الأكثر خطورة. وتقدر الملوثات الصناعية الملقاة في قعر النيل ب 4.5 مليون طن في السنة، في حين تقدر الملوثات العضوية الصناعية بما يقارب ال 270 طن في اليوم[6]. والجدير بالذكر أن هذه الملوثات لا تختلط فقط بالمياه التي يستخدمها المواطنون للشرب، بل بالمياه التي يستخدمها الفلاحون في ري الزراعات أيضا، مما يهدد سلامة المياه وسلامة الغذاء في آن[7].
أما فيما يخص التلوث الناتج عن مياه الصرف الصحي الزراعي، فهو ينتج بصورة رئيسية من الأسمدة والمبيدات والمواد العضوية التي تستخدم في الزراعة، بالإضافة الى المبيدات الحشرية غير القانونية مثل “الدي دي تي”، فهي تتسرب الى مياه النيل مباشرة مسببة بذلك تلوث المياه، كما تؤدي الى تلوث المياه الجوفية والمجرى الى النهر[8].
بالإضافة الى ذلك، يعاني النيل من التلوث بسبب مياه الصرف الصحي والمياه العادمة الناتجة عما يقارب ال 43 بلدة و2500 قرية على طول وادي النيل بين السد العالي في اسوان والقاهرة[9]. فتشير التقارير ان 24.7% فقط من سكان الريف متصلون بنظام صرف صحي و88% من المناطق الحضرية، مما يعني انه يوجد ما يتجاوز ال 70% في الريف يقومون بالتصريف في مياه النيل أو في التربة، وما يتجاوز ال 10% في المناطق الحضرية. كذلك يشير التقرير الصادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن المتصلين بخزانات الصرف الصحي يقومون بإفراغها في النيل بالقرب من مصادر المياه العذبة، أو على الأرض مما يؤدي الى تلويث المياه من خلال التربة.
– نتائج تلوث مياه النيل
كل ما سبق يؤدي الى تلوث المياه التي يعتمد عليها المصريون في الشرب والزراعة، مما يؤدي الى رفع التكلفة الضرورية لتنقية المياه لكي تصبح صالحة للشرب قبل وصولها الى المنازل.
بالإضافة الى ذلك، فان تلوث المياه ينتهك بصورة مباشرة الحق في الصحة. فتشير التقارير أن المياه الملوثة تشكل أحد أسباب إصابة المصريين بالفشل الكلوي والسرطان[10] وفيروس التهاب الكبد الوبائي، وهو فيروس تشير التقارير الى ارتفاع نسبة المصابين به في مصر عن المعايير العالمية حيث تقدر بين 10% الى 20% من السكان[11]. بالإضافة الى ذلك، يتسبب تلوث المياه في انتشار مرض البلهارسيا بين الفلاحين، والذي ينتقل عن طريق الاتصال المباشر مع المياه؛ وينتقل كذلك عن طريق مياه الري[12].
ويقدر أن مياه الشرب غير الآمنة والتعرض للمبيدات الحشرية هي سبب أمراض الكلى لدى 72% من المرضى، حسب تصريح باحثي الصحة العامة في المنيا[13].
بالإضافة الى ذلك، تتسبب المياه الملوثة بالقضاء على الثروة السمكية بمياه النيل. فبعد ان كان نهر النيل يحتوي على 40 نوعا من الأسماك، أصبح يحتوي على 7 أنواع فقط، بالإضافة الى نفوق عدد كبير من الأسماك بلغت حوالي ال 15 طن[14].
ويؤدي ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض الناتجة عن المياه الملوثة الى ارتفاع فاتورة العلاج كذلك، مما يؤدي الى ارتفاع ثقل الأعباء المالية على المواطنين وعلى الدولة. وهي الأمور التي يمكن تجنبها إذا تم الاعتناء بالحفاظ على المياه نظيفة غير ملوثة.
جودة المياه في منازل مصر أمر يخضع للمناطقية الطبقية.
95.5% تقريبا من سكان مصر يشربون المياه غير المعالجة[15]، أي انهم معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بالأمراض التي ذكرناها أعلاه. وترجع هذه النسبة المرتفعة الى غياب العدالة في توزيع المياه الصالحة للشرب على محافظات الجمهورية، بالإضافة الى غياب البنى التحتية اللازمة لتوصيل المياه واللازمة للصرف الصحي. ف38% فقط من القرى مغطاة بمياه الشرب، و56% تصلها المياه بصورة غير كافية، و6% محرومة تماما من مياه الشرب[16]. وبالتالي نجد أن ما يقارب ال 38 مليون مصري يشربون من مياه الصرف الصحي، و4500 قرية من أصل 7000 لا يوجد فيها شبكات صرف صحي، و76% من مياه القرى مخلوطة بالصرف الصحي.
ونجد أن تلوث المياه يرتفع في القرى والمحافظات البعيدة، ويقل نسبيا في القاهرة والمحافظات القريبة منها و المحافظات السياحية، ويعود ذلك في أكثر الأحيان الى اهتمام الدولة بمناطق على حساب الأخرى. فعلى سبيل المثال، 13.3% من الاسر في المناطق الريفية يعيشون دون وصلات مياه في مقابل 1.5% في المناطق الحضرية[17].
وترتفع كمية الأخبار المتناقلة عن تلوث المياه في المحافظات البعيدة، المناطق العشوائية في المحافظات أو القرى الفقيرة والريفية عنها في المدن. فعلى سبيل المثال، انتشرت ظاهرة بيع المياه في القرى بعد اكتشافها لتلوث المياه الصادرة من محطات المعالجة، وزيادة نسب المنجنيز والحديد فيها، مما يجعلها غير صالحة للشرب[18]. كذلك الأمر في محافظة الشرقية التي يعتمد 65% من سكانها على المياه الجوفية والتي تختلط في الغالب بمياه الصرف الصحي[19].
التلوث الذي يصيب المياه في مصر، يصيب كل المحافظات، وتحتاج الكثير من محطات معالجة المياه الى الاغلاق وإعادة انشائها مرة أخرى أو تطويرها[20]، ولكن بعض المحافظات تعاني أكثر من غيرها، مما يعكس نقص العدالة في توزيع مياه الشرب النظيفة.
نقص المياه في مصر
كما أشرنا فان تلوث النيل مشكلة تهدد جودة المياه في مصر وصلاحيتها للشرب، مما يهدد الحق في المياه والحق في الصحة. ولكن تهديد الحق في المياه للمواطن المصري لا يتوقف عند ذلك. فمصر تستخدم 127% من مواردها المائية أي انها تقوم باستيراد المياه وذلك عن طريق استيراد المواد الغذائية ومواد أخرى مستوردة، وتتوقع الأمم المتحدة أن تصبح مصر دولة شحيحة المياه بحلول عام 2025[21].
وتعد الكثافة السكانية من أسباب نقص المياه في مصر، كذلك اهدار المياه والاستخدام الخاطئ لها، فمعدل استهلاك الفرد للمياه في القاهرة الكبرى والإسكندرية يقارب 400 لتر في اليوم، مقابل 200 لتر في اليوم طبقا للمعدلات العالمية، بالإضافة الى قلة انتاج مصر لمياه الشرب، فقد وصلت في عام 2009 الى 250 لتر في اليوم للمواطن[22]؛ ويؤدي سوء استخدام المياه الى اهدار المتوفر منها بطريقة أسرع من المعتاد ومن المحسوب.
بالإضافة الى ذلك، تتسبب طرق الري في اهدار الموارد المائية، حيث يتم ري اغلب الأراضي الزراعية عن طريق نظام الري السطحي والذي يؤدي الى استخدام ما يقارب 70% من المياه زيادة على الحاجة، بالإضافة الى فقدان ما يقارب ال 60% من مياه الري قبل وصولها للنبات[23].
كذلك، تتسبب شبكة الأنابيب المتهالكة في خسارة ما يقارب 34-35% من اجمالي ال 791 متر مكعب في السنة، مما يزيد الأمر سوءا.
وكانت مصر قد طالبت بزيادة حصتها في مياه النيل لتواجه مشكلة شح المياه، ولكن دول حوض النيل رفضت طلبها، بل وطالبت بعض هذه الدول بإعادة النظر في اتفاقية حوض النيل لتوزيع مياه النهر، حيث تحصل مصر على النصيب الأكبر من المياه، لتقسيم المياه بطريقة أكثر عدلا[24]، وزاد الأمر تعقيدا بعد اعلان دولة أثيوبيا قيامها بإنشاء سد على منبع من منابع النيل مما من شأنه أن يؤثر سلبا على حصة مصر من المياه.
الخلاصة
ان التعامل مع ملف المياه في مصر يعكس نوعا من التخبط من قبل الدولة. فإدارة ملف سد اثيوبيا على سبيل المثال شابه العديد من التصاريح المتغيرة والمتناقضة. كذلك الأمر بالنسبة الى انشاء العديد من محطات معالجة المياه والصرف الصحي التي افضت الى إنجازات كمية فقط لا نوعية ودون الوصول الى حل للأزمة[25].
كذلك، نتساءل عن دور المجتمع المدني في إيجاد حلول تساهم في نشر الوعي حول مشكلة المياه، والعمل على حث المواطنين على تنفيذ دورهم في سبيل الحفاظ على المياه، وكذلك رفع وعي الفلاحين.
ويهتم مركز حابي للحقوق البيئيةبمشكلة المياه في مصر ويقوم بالعمل مع الفلاحين ورفع وعيهم، بالإضافة الى اصدار تقارير حول الحق في المياه التي من شأنها الضغط على الحكومة لإيجاد الحلول. كذلك، قام المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعيةبتدشين برنامج جديد حول العدالة البيئية، وقام من خلاله بإصدار عدة أوراق حول الحق في المياه، لرفع الوعي حول الموضوع وتحفيز النقاش حوله.
ولكن الحقوق البيئية تحتاج الى اهتمام أكثر من منظمات المجتمع المدني، والتوجه الى العمل على الأرض مع المواطنين والحكومة بهدف الوصول الى انفاذ الحق في بيئة صحية سليمة المنصوص عليه في الدستور المصري.
[1] راجع “تلوث المياه قنبلة موقوتة تهدد حياة المصريين”، تقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الانسان، ديسمبر 2009.
[2] راجع “نفوق العدد الهائل من الأسماك قرب كفر الشيخ يؤثر على الحق في العيش والمياه النظيفة”، بيان صادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بتاريخ 24-1-2014.
[3] Aneesah Akbar-Uqdah, Sam Highsmith, Sara Tonsy, “Drinking water in Egypt: the effects of water on Egyptian’s healh”.
[4] راجع ايزابيل بوتومز، “تلوث المياه في مصر، الأسباب والمخاوف”، ورقة صادرة عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مارس 2014.
[5] راجع “بالفيديو..الدستور تكشف كارثة بيئية جديدة في النيل”، نشر على الموقع الالكتروني لجريدة الدستور بتاريخ 23/10/2014.
[6] راجع “تلوث المياه قنبلة موقوتة تهدد حياة المصريين”، تقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الانسان، ديسمبر 2009.
[10] راجع ايزابيل بوتومز، “تلوث المياه في مصر، الأسباب والمخاوف”، ورقة صادرة عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مارس 2014.
[11] O.G.Pybus, A.J.Drummond, T.Nakano, B.H.Roberston, and A.Rambaut,“The Epidemiology and Iatrogenic transmission of Hepatitis C virus in Egypt: A Bayesian Coalescent approach”, November 2002.
[12] Aneesah Akbar-Uqdah, Sam Highsmith, Sara Tonsy, “Drinking water in Egypt: the effects of water on Egyptian’s healh”.
[13] الورقة الصادرة عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
[14] راجع “المشرف على الثروة السمكية للشروق: التلوث الصناعي يهدد مصر بفقدان ثروتها السمكية خلال أعوام”، نشر على موقع جريدة الشروق بتاريخ 3-1-2015.
[15] الورقة الصادرة عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
[16] راجع “تلوث المياه قنبلة موقوتة تهدد حياة المصريين”، تقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الانسان، ديسمبر 2009.
[17] راجع “كيف يحصل المصريون على كوب مياه نقي”، نشر على موقع مبادرة تضامن بتاريخ 29-11-2013.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.