أفرزت انتخابات خريف 2019 برلماناً متشظّياً، لا يتجاوز حجم كتلته الأولى ربع المقاعد، على عكس المشهد البرلماني لانتخابات سنة 2014 حين احتكر حزبا “نداء تونس” و”النهضة” أكثر من ثلثي المقاعد. لكن مشهد 2014 أعاد نفسه على صعيد آخر، إذ استحال صراع ما قبل الانتخابات بين الحزبين الأقوى، “حركة النهضة” و”قلب تونس”، تحالفاً لا يزال متماسكاً، كان أوّل إنجازاته إيصال زعيم “حركة النهضة”، راشد الغنوشي، إلى كرسيّ رئاسة البرلمان. لكن لم يتمكّن هذا التحالف، المعزَّز بكتلة “ائتلاف الكرامة”، من تشكيل حكومته. بعد فشل حكومة الحبيب الجملي في نيل الثقة انتقلت الكرة إلى ملعب رئيس الجمهورية الذي فرض باختياره إلياس الفخفاخ لرئاسة الحكومة ائتلافاً يعتبره أكثر انسجاماً مع اصطفافات الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، يشمل “حركة النهضة” بدون “قلب تونس”. كانت النتيجة وجود أغلبيّتَيْن متصارعتَيْن: أغلبيّة حكومية، تتكوّن من أحزاب “النهضة” و”التيّار” و”حركة الشعب” و”تحيا تونس” وكتلة “الإصلاح”، وأغلبيّة برلمانية تضمّ “حركة النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، عمودها الأساسي مشارِك في الحكومة ويسعى لإسقاطها في الوقت ذاته. انتهى هذا المشهد باستقالة حكومة الفخفاخ ثمّ نيل حكومة الكفاءات المستقلّة برئاسة هشام المشيشي الثقة، بأغلبية هجينة انفرط عقدها بمجرّد التصويت على الحكومة. وبقي تحالف “النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، الذي أضحى يعلن عن نفسه صراحة، متماسكاً، لكن بدون أن يضمن الأغلبيّة المطلقة منفرداً. هذه الأغلبيّة نفسها التي فشلت في بلوغها الكتل المبادِرة إلى سحب الثقة من رئيس المجلس، بعد أشهر من التجاذبات الحادّة التي لم يزدها هذا الأخير، من حيث رمزيته السياسية بل أيضاً بطريقة إدارته للبرلمان، سوى احتداماً.
بدأ البرلمان سنته الأولى وسط هذا السياق السياسي المتأزِّم وبدون أغلبيّة واضحة ومستقرّة، وأمامه أولويّات تشريعية عديدة، بعضها موروث من العهدة السابقة وبعضها فرضته أزمة وبائية غير مسبوقة، إن لم يكن في عدد ضحاياها فعلى الأقلّ في تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. كانت الحصيلة دون المأمول، إذ كادت تقتصر، إذا ما استثنينا أربعة قوانين مهمّة، على المصادقة على اتّفاقيات القروض والتعاون المالي وبعض الاتّفاقيات الدولية الأخرى، والترخيص في الاكتتاب في رأس مال بعض المؤسّسات (تحديداً بهدف فتح آفاق الحصول على قروض أكثر)، بالإضافة إلى قوانين الماليّة. في المقابل، أنهت اللجان الفنّية عملها على عدد هامّ من مشاريع القوانين، معظمها أثار جدلاً أو معارضة كانت كافية ليتراجع البرلمان، على الأقلّ مؤقّتاً، عن عرضها على تصويت الجلسة العامّة.
- أهمّ القوانين المصادَق عليها: بين ما سهّله الإجماع، وما فرضته قوّة الضغط
استطاع مجلس نوّاب الشعب أن يصادق على قانونَيْن مهمَّيْن بالإجماع ومن دون إشكال يُذكر رغم الأجواء المشحونة والانقسامات الحادّة التي طبعت السنة النيابية الأولى: الأوّل، يتعلّق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني والثاني، بالتمويل التشاركي. كما صادق على قانونَيْن آخرَيْن بأغلبيّة واسعة، لا تعكس اتّفاق معظم الكتل عليهما، بل قوّة الضغط الذي مورس على البرلمان لتمريرهما. يتعلّق الأمر بالتفويض لرئيس الحكومة بإصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا، ومُقترَح القانون المتعلِّق بأحكام استثنائية للانتداب في القطاع العامّ.
قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: آمال كبيرة في انتظار التطبيق
شكّلت جلسة 17 جوان تتويجاً لمسار تشريعي طويل، بدأ سنة 2015 وجمع بالأخصّ الحكومة والاتّحاد العامّ التونسي للشغل، برعاية مموِّلين دوليين. وصل مشروع القانون في نهاية سنة 2019 إلى البرلمان، فصادقت عليه لجنة الفلاحة والتجارة والخدمات ذات الصلة ثمّ الجلسة العامّة، مع بعض التعديلات التي لم تغيّر، على أهمّيتها، فلسفتَه. فقد استقرّ الخيار التشريعي على مقاربة قائمة على إسناد “علامة مؤسّسة اقتصاد اجتماعي وتضامني”، بغضّ النظر عن الشكل القانوني للمؤسّسة، وذلك بمجرّد الالتزام بمبادئ القطاع كما حدّدها الُمشرِّع، كأولويّة الإنسان والغاية الاجتماعية على رأس المال واحترام قواعد التنمية المستدامة، والربحية المحدودة والتسيير الديمقراطي والشفّاف. تفتح هذه العلامة لأصحابها باب التمتّع بحوافز عديدة، منها امتيازات جبائية ومالية لم يحدّدها القانون، ونسبة من الطلبات العمومية، بالإضافة إلى مسالك تمويل خصوصية، أبرزها آليّة البنوك التعاضدية التي أضافها النوّاب رغم رفض وزارة الماليّة لها.
لكن لم يكن القانون طموحاً بما يكفي في ما يتعلّق بديمقراطية التسيير وتشاركيته، حيث اقتصر على قاعدة “صوت لكلّ عضو”، بدون أن يشرّك الشغّالين. وإذا كانت فكرة تشريك الشغّالين في اتخاذ القرار داخل شركاتهم أثبتت إيجابيّاتها في بلدان كألمانيا والسويد، فإنّ التأسيس للقطاع الثالث في تونس كان يمكن أن يكون فرصة لإعادة النظر في العلاقة بين رأس المال وقوّة العمل.
ويبقى أهمّ ما يعيق تنزيل أحكام هذا القانون، كالعادة، الأوامر التطبيقية التي لا يقلّ عددها عن ستّة، والتي لم يصدر أيّ منها حتّى الآن. رغم أنّ المشرِّع ضبط لأحدها أَجَلَ شهرَيْن من دخول القانون حيّز التنفيذ، وهو المتعلّق بإجراءات وشروط إسناد العلامة وسحبها. ورغم إجماع مختلف الكتل النيابية على اعتبار الاقتصاد الاجتماعي والتضامني حلّاً سحرياً لمشاكل الفقر والبطالة وضعف التنمية بالجهات الداخلية، قد تصطدم الأحلام عند التطبيق بواقع أقلّ وردية.
قانون التمويل التشاركي: حلّ بديل عن صعوبات التمويل البنكي برعاية أوروبية
حضرت إشكاليّة التمويل بقوّة عند مناقشة قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، إذ يشكو النسيج الاقتصادي في تونس، وبخاصّة المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة، من صعوبات جمّة للنفاذ إلى القروض البنكية. من هنا برز التمويل التشاركي كمنفذ جديد، أسهل وأكثر “ديمقراطية”، يقوم على جمع الأموال من العموم عبر منصّة على الإنترنت، وذلك في شكل أوراق مالية أو قروض أو هبات أو تبرّعات لصالح شركة أو مشروع. وتؤمّن هذه العمليّةَ شركاتُ إسداء خدمات التمويل التشاركي التي يجب أن تختصّ في صنف واحد من أصنافه الثلاثة، وهي الأوراق المالية، أو القروض، أو الهبات والتبرّعات.
ويندرج مشروع القانون، حسب تقرير لجنة الماليّة، ضمن توصيات دراسة أشرفت عليها المفوّضية الأوروبية وشركاء أوروبيون ودوليون، حول الإجراءات المتَّخَذة لفائدة المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة في البلدان المتوسّطية، وفي إطار البرنامج الإقليمي “تحسين مناخ الأعمال في جنوب المتوسّط”، المموَّل أيضاً من الاتّحاد الأوروبي. ظهرت هذه الرعاية الدولية كذلك، كما في مشروع قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، في الاستعانة بخبراء دوليين عند صياغة النصّ.
لم يطرح قانون التمويل التشاركي إشكاليّات مهمّة عند نقاشه، سواء في اللجنة أو في الجلسة العامّة. فقد اقتصرت تعديلات اللجنة تقريباً على تشديد الرقابة على شركات إسداء خدمات التمويل التشاركي عبر الهبات والتبرّعات، التي لا تزال تثير، كما مسألة تمويل الجمعيات، مخاوف كثيرة. ويظهر هذا الخوف مثلاً، في اشتراط الصبغة الربحية على المشاريع المعروضة للتمويل التشاركي، ممّا يُقصي مشاريع منظَّمات المجتمع المدني من الاستفادة من منصّاته. فكأنّ هنالك قناعة لدى صنّاع القرار بأنّ التمويل الدولي للجمعيّات في تونس يُغني عن اللجوء إلى آليّات حديثة كالتمويل التشاركي، وأنّ مخاطر فتح هذا الباب للمجتمع المدني أكبر من إيجابيّاته.
الانتداب المباشر لمن طالت بطالتهم: حلّ أم إبراء ذمّة؟
لم تمنع أجواء الانقسام والصراعات بين مختلف الكتل النيابية من أن يجتمع جُلُّها، في بداية شهر مارس، في قائمة الخمسة وثلاثين نائباً الموقِّعين على مقترح قانون يتعلّق بتنقيح القانون عدد 4 لسنة 2012 المؤرَّخ في 22 جوان 2012 المتعلِّق بأحكام استثنائية للانتداب في القطاع العامّ. تضمّن هذا المُقترَح أهمّ مطلب لتنسيقيّات أصحاب الشهائد العليا المعطَّلين عن العمل الذين اعتصموا أمام البرلمان منذ الأسابيع الأولى لتنصيبه، وهو التشغيل المباشِر لأصحاب الشهائد العليا الذين طالت بطالتهم أكثر من 10 سنوات. لم تنتظر لجنة الشباب والشؤون الثقافية والتربية والبحث العلمي أكثر من شهر لمناقشته. فعدّلته في اتّجاه توسيع امتياز التشغيل المباشِر ليشمل أصحاب الشهائد العليا الذين بلغوا من العمر أكثر من 35 سنة، حتّى إن لم تبلغ فترة بطالتهم 10 سنوات، وكذلك للذين ينحدرون من أُسرٍ جميع أفرادها عاطلون عن العمل، بدون اشتراط مدّة البطالة ولا السنّ ولا حتّى الشهادة العليا، استجابة لمطلب هاتين الفئتين المنتظمتين بدورهما في تنسيقيّات. تواصل ضغط الحراك لفرض تمرير مقترح القانون على تصويت الجلسة العامّة قبل نهاية الدورة البرلمانية، وهو ما تمّ يوم 29 جويلية 2020.
أثار هذا القانون جدلاً كبيراً، نظراً لضربه مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص في النفاذ للوظيفة العمومية عبر آليّة التناظر، وجعلِهِ الأقدميّة في البطالة أو تقدّم السنّ معياراً كافياً للانتداب. كما بدا لافتاً عدم استناده إلى أيّ دراسة جدوى وافتقاره إلى أيّ تقدير لعدد المستهدَفين به الذين يفرض القانون استكمال تشغيلهم في غضون أربع سنوات. هذه الهواجس التي كانت حاضرة في بعض المداخلات أثناء النقاش العامّ، لم تمنع النوّاب من التصويت عليه بأغلبيّة 159 صوتاً مقابل احتفاظ 18 نائباً وبدون أيّ معارضة. ولئن نبّهت رئاسة الحكومة، يوم التصويت في الجلسة العامّة، النوّاب إلى عدم دستورية القانون، على الأقلّ لتعارُضِهِ مع الفصل 63 الذي يحجر تقديم النوّاب مقترحات قوانين تخلّ بالتوازنات المالية للدولة، لم يطعن لا رئيس الحكومة المستقيلة آنذاك، ولا رئيس الجمهورية ولا ثلاثون نائباً في دستوريته، ليصدر في الرائد الرسمي وتتحوّل وجهة المعتصمين من قصر باردو إلى القصبة. فقد اقتلع هذا الحراك قانوناً ليبقى الأصعب، وهو تطبيقه، نظراً إلى الصعوبات المالية العمومية والتزام الحكومة بتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية. لكن المشرّع لم يهتمّ بقابلية القانون للتطبيق، بقدر ما كان المطلوب إلقاء الكرة المشتعلة في ملعب السلطة التنفيذية، وإبعاد حريقها عن البرلمان وأحزابه.
تكرّر الأمر نفسه بعد أشهر عند المصادقة على قانون الماليّة، حيث أضاف النوّاب في الجلسة العامّة فصلاً جديداً يقضي بتمويل انتداب 10 آلاف عاطل عن العمل ممّن تنطبق عليهم شروط ذلك القانون، وذلك “بالاقتصاد في بعض المهمّات و”تخصيص نسبة من اعتمادات برنامج التشغيل”. بعدما أسقطوا مقترحاً آخراً يقضي بتمويل تنفيذ أحكامه باقتطاع 0.5% من مرابيح المؤسّسات المالية ومؤسّسات التأمين والشركات النفطية وشركات الاتّصالات والفضاءات التجارية الكبرى. فسطّر النوّاب فصلاً شعبوياً آخراً، وواصلوا بيع الوهم إلى ضحايا البطالة، ما دام الضغط سيُسَلَّط في المستقبل على الحكومة، لا عليهم.
التفويض لرئيس الحكومة إصدار مراسيم: مُكرَهٌ أخوك لا بطل
في خضمّ الموجة الأولى من جائحة كورونا، صادق مجلس نوّاب الشعب بأغلبيّة 178 صوتاً على قانون فوّض بموجبه رئيس الحكومة إصدار مراسيم بغرض مجابهة تداعيات انتشار الفيروس. تكمن أهمّية هذا القانون ليس فقط في عدد المراسيم التي صدرت بناء عليه ومحتواها، إنّما أيضاً في أنّه التطبيق الأوّل من نوعه لمقتضيات الفقرة 2 من الفصل 70 من الدستور. ولئن لم يكن البرلمان التونسي الوحيد الذي لجأ لتفويض جزء من سلطته التشريعية لتسهيل مجابهة هذه الجائحة وآثارها، فإنّ الرهان في تونس كان خاصّاً. ففكرة التفويض طرحها إلياس الفخفاخ منذ نقاشات تشكيل الحكومة، وعياً منه بهشاشة الأغلبيّة البرلمانية وعدم تحكّمه فيها، لكنّها جوبهت بالرفض من “حركة النهضة” بالأخصّ. فكان نقاش مشروع قانون التفويض مع بداية انتشار فيروس كورونا من أولى تمظهرات صراع الأغلبيّات، أغلبيّة القصبة وأغلبيّة باردو. عجّلت هذه الأخيرة باعتماد إجراءات استثنائية تضمن مواصلة البرلمان أشغاله، ولو عن بُعد. كما سعى ممثّلو “حركة النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” إلى التضييق من مدّة التفويض ومجاله بشتّى السبل، وقدّموا مقترحات ليس أشدّها غرابة عرض مشاريع المراسيم على رقابة الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. في النهاية، رضخت “حركة النهضة” لتهديد الفخفاخ بسحب مشروع قانون التفويض واتّهامها علناً بتعطيل مجهود مكافحة الوباء، وحاز التفويض على أغلبيّة واسعة في الجلسة العامّة.
لم تتردّد حكومة الفخفاخ طيلة مدّة التفويض في التوسّع في استعماله، فأصدرت 34 مرسوماً في مجالات شتّى. تتعلّق المراسيم بداية بما فرضته الأزمة من إجراءات اجتماعية ظرفية واستثنائية لفائدة مؤسّسات القطاع الخاصّ وأُجَرائها ولفائدة العاملين لحسابهم الخاصّ، وإجراءات جبائية ومالية متفرّقة، وتعليق للآجال، وأحكام استثنائية للصفقات العمومية، وموافقة على قروض متّصلة بمجابهة تفشّي الفيروس وآثاره، وأحكام زجرية بخصوص مخالفة منع الجولان وتحديده والحجر الصحّي الشامل. وتتعلّق أخرى بزجر مخالفة قواعد المنافسة والأسعار، وصولاً إلى نصوص لا تتعلّق مباشرة بأزمة كورونا وإصلاحات هامّة كنظام المُبادِر الذاتي، والمُعرِّف الوحيد للمواطن، ونظام المراقبة الإلكترونية في المادّة الجزائية.
إلّا أنّ هذه المراسيم لا تزال في أدراج اللجان التشريعية لمناقشتها، فقد اختار المجلس أن يُخضِعَها لنفس المسار التشريعي المعتاد، بدل أن تُعرَضَ مباشَرةً على الجلسة العامّة. فلم يصادَق إلى الآن سوى على مرسوم واحد يتعلّق بالموافقة على قرض. كما لم تُنهِ اللجان التشريعية نظرها سوى في مرسومين اثنين، من دون أن تُدخل عليهما أيّ تعديل. لكن ضعف تقدّم اللجان التشريعية في مناقشة المراسيم لا يجعلها الحلقة الأضعف مردوداً، حيث أنّها أنهت العمل على عدد هامّ من مشاريع القوانين التي، كما تلك الموروثة من المدّة البرلمانية الفارطة، لم تُعرض على تصويت الجلسة العامّة.
- مشاريع قوانين تعطّل التصويت عليها في الجلسة العامّة: عندما يجتمع سوء اختيار الأولويّات والضعف أمام الضغوط
كان يمكن للحصيلة التشريعية أن تكون أكثر أهمّية، لولا تعطّل أعمال الجلسة العامّة في مرّات عديدة والجدل الذي أحدثته مشاريع قوانين عند برمجتها للتصويت. فأضحى التراجع عن عرضها على الجلسة العامّة الحلّ الأقلّ كلفة لبرلمان أضعف من أن يقاوم أيّ ضغط. بعض مشاريع القوانين تلك كانت جاهزة منذ العهدة النيابية الفارطة وبعضها اشتغلت عليه اللجان الجديدة، أحياناً بتسرّع لافت ساهم في إضعاف حظوظ مرورها.
جوازات السفر الدبلوماسية للنوّاب: أولويّة النوّاب امتيازاتهم؟
جلسة واحدة لم تتجاوز مدّتها ساعة ونصف، كانت كافية لتناقش لجنة الحقوق والحرّيّات وتمرّر مقترح القانون الرامي إلى إتمام القانون عدد 40 لسنة 1975 المؤرَّخ في 14 ماي 1975 المتعلّق بجوازات السفر ووثائق السفر، بعد عشرة أيّام فقط من إيداعه من قِبل 25 نائباً يمثّلون جُلّ الكتل النيابية، وَطَلَبِ مكتب المجلس استعجال النظر فيه. يأتي هذا المقترح الذي يقتصر على إعطاء كلّ النوّاب المباشِرين الحقّ في الحصول على جوازات سفر ديبلوماسية، بعدما رفض رئيس الجمهورية قيس سعيّد الإذن لوزارة الخارجية إصدار مثل هذه الجوازات للنوّاب الجدد، كما كان يحصل عادة، نظراً إلى غياب سند قانوني لذلك. أثار مقترح القانون جدلاً واسعاً، إذ جاء ليرسّخ فكرة منتشرة بقوّة تعتبر العمل السياسي وسيلة لتحصيل منافع وامتيازات شخصية، وليفاقم الصورة السلبية التي ارتبطت بالبرلمان. ولئن أدّى الجدل إلى التراجع عن برمجة مقترح القانون لتصويت الجلسة العامّة، فقد أضاع نوّاب الشعب فرصتين، فرصة طرح قضيّة ضعف وسائل العمل البرلماني، وفرصة مناقشة مسألة جوازات السفر الديبلوماسية والخاصّة وطريقة إسنادها، التي لا تزال تحمل بعض رواسب الديكتاتورية.
تنقيح القانون الانتخابي ورقة في مفاوضات تشكيل الحكومة
رغم أنّ نظام الاقتراع أصبح، منذ سنوات، من أكثر المواضيع إثارة للجدل السياسي، لم تحتجْ لجنة النظام الداخلي والقوانين الانتخابية أكثر من جلستين، دامتا خمس ساعات ونيّف، لدراسة مقترح إضافة عتبة انتخابية على مستوى الدوائر بـ5%. والاستماع إلى رأي الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بخصوصه والتصويت عليه. دون أن ننسى مناقشة مآل تنقيح القانون الانتخابي الذي لم يختمه رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي. تُفسَّر السرعة القصوى هذه في تناول موضوع بمثل هذه الحساسية بالسياق السياسي. حيث أودعته كتلة “النهضة” مباشَرةً بعد سقوط حكومة الجملي في امتحان نيل الثقة وتكليف إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة، ومُرّر داخل اللجنة تزامناً مع مشاورات التأليف التي شهدت خلافاً بين النهضة والفخفاخ حول تشريك “قلب تونس”. فكان المقترح ورقة لإظهار أنّ “حركة النهضة” جاهزة لسيناريو حلّ البرلمان وإجراء انتخابات سابقة لأوانها، ستعزّز بفضل العتبة وزنها البرلماني على حساب بقيّة الأحزاب التي تشاركها طاولة المشاورات. عُرض مقترح القانون على الجلسة العامّة في 4 مارس، بعد نيل حكومة الفخفاخ الثقة بأيّام. فقرّرت إرجاعه إلى اللجنة، لتبقى مراجعة نظام الاقتراع ورقة للابتزاز السياسي، ولما لا، للتأثير في نتائج الانتخابات قبل إجرائها بأسابيع، عوض أن تكون جزءاً من عمليّة تقييم شاملة للمنظومة الانتخابية، ومسألة تُدرَس بتروٍّ وهدوء.
حقوق المرضى والمسؤولية الطبّية: بين لعنة الرزنامة ودور لوبيّات القطاع الخاصّ
لم تكن جلسة 4 مارس المرّة الأولى التي تصوّت فيها الجلسة العامّة لإرجاع مشروع قانون إلى نظر اللجنة. فقد قرّرت يوم 15 جانفي 2020 إرجاع مشروع قانون حقوق المرضى والمسؤولية الطبّية إلى لجنة الصحّة، بعلّة أنّ النوّاب الجدد لم يتسنّ لهم الاطّلاع عليه كفاية، بما أنّه معروض على الجلسة العامّة منذ المدّة النيابية الفارطة. كان التصويت على مشروع القانون مبرمجاً في آخر شهر جويلية 2019، لكنّ النصاب لم يتوفّر بسبب انشغال النوّاب بالاستعداد للانتخابات. دفع مشروع القانون الذي بدأ العمل عليه في وزارة الصحّة منذ نوفمبر 2015، مرّة أخرى ثمن الرزنامة. فقد تمّت برمجته على عجل تزامناً مع تصويت البرلمان على منح الثقة لحكومة الجملي، ولم يولِه النوّاب اهتمامهم. في الوقت نفسه، تجنّدت نقابتا أطبّاء القطاع الخاصّ وأطبّاء الأسنان الممارسين بصفة حرّة ضدّه، فضغطت من أجل إرجاعه إلى اللجنة. والرهان الأكبر لم يكن حقوق المرضى التي حاول مشروع القانون إقرارها، وإنّما النظام الجديد للمسؤولية الطبّية المدنية الذي يقوم على تسوية رضائية تشرف عليها لجنة تفصل الملفّات في مدّة وجيزة، ليتمّ التعويض عبر صندوق يساهم في تمويله مختلف المهنيين. وهو ما رأى فيه أطبّاء القطاع الخاصّ خطراً على مداخليهم. تعهّدت لجنة الصحّة آنذاك بالانتهاء من مناقشته في أجل شهر، فأمضت ستّة أشهر انشغلت خلالها بمتابعة تفشّي فيروس كورونا. لكن مكتب المجلس لم يبرمجه على أنظار الجلسة العامّة طيلة الأشهر الثلاثة الأولى من الدورة البرلمانية الثانية، مفضِّلاً أولويّات أخرى أثارت جدلاً كبيراً فبقيت هي الأخرى معلَّقة.
تنقيح قانون المحكمة الدستورية: محاولة تشريعية لتدارك فشل سياسي
لئن كان إرساء المحكمة الدستورية على رأس الأولويّات في الخطاب السياسي لمعظم الفاعلين، لم يُترجَم ذلك على أرض الواقع، حيث لم تشهد الدورة البرلمانية الأولى أيّ محاولة جدّية لانتخاب الأعضاء الثلاثة الباقين من الثلث الذي يختاره مجلس نوّاب الشعب. لكن المحاولة كانت على صعيد التشريع، فقد ناقشت لجنة التشريع العامّ مشروع القانون الذي كانت حكومة الشاهد قد أودعته سنة 2018، وأثار جدلاً واسعاً نظراً إلى إتاحته انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بالأغلبيّة المطلقة، وحتّى بأغلبيّة نسبية. استقرّ خيار اللجنة في النهاية على أغلبيّة الثلاثة أخماس التي تبقى أغلبيّة معزَّزة تفرض حدّاً أدنى من التوافق، لكن بلوغها أسهل من أغلبيّة الثلثين (131 عوض 145). كما أضافت اللجنة تنقيحاً ثانياً، جاء في مقترح قانون للكتلة “الديمقراطية”، يحذف لفظ “تباعاً” من الفصل العاشر، ما يسمح لكلٍّ من رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء بتعيين بقيّة الأعضاء دون انتظار البرلمان، فيزيد الضغط على هذا الأخير لاستكمال المهمّة.
لكن الجلسة العامّة قرّرت مرّة أخرى إعادة مشروع القانون إلى اللجنة بعد الجدل الذي أحدثته الأجندة التشريعية للعودة البرلمانية، التي وصفها عدد من المنظّمات الحقوقية بالمُفزِعة. لأنّها تضمّنت، بالإضافة إلى تنقيح قانون المحكمة الدستورية، مشاريع قوانين تهدّد الحقوق والحرّيّات.
زجر الاعتداء على الأمنيين: تحسينات لا تحجب فلسفة النصّ الخاطئة
يعود إيداع مشروع القانون في البرلمان إلى سنة 2015، بعد الهجوم الإرهابي على متحف باردو مباشرة. حينها، كان الخطاب السياسي يشدّد على أولويّة الأمن على الحرّيّة، وأنّ الإرهاب ترعرع لنقص في التشريعات الردعية. أثار مشروع القانون آنذاك معارضة واسعة من المجتمع الحقوقي والصحافي، نظراً إلى تعارضه الصارخ مع الحقوق والحرّيّات الدستورية، فتعطّل نقاشه داخل البرلمان ووعدت وزارة الداخلية بالعودة بنسخة معدّلة “توازن بين حماية الأمنيين واحترام الحرّيّات”، لكن ظلّ المشروع يعود إلى السطح مع كلّ هجوم إرهابي، بضغط من بعض النقابات الأمنية التي جعلت منه مطلباً أساسياً. وفي شهر فيفري 2020، عادت لجنة التشريع العامّ إلى مشروع القانون بعد طلب استعجال النظر المقدَّم من حكومة يوسف الشاهد، ونظرت في المقترحات المنبثِقة عن الجلسات التنسيقية بين وزارات الداخلية والعدل والدفاع الوطني والنقابات الأمنية. أفضى عملها إلى تعديلات كثيرة في مشروع القانون، بدءاً من عنوانه الذي أصبح “حماية قوّات الأمن الداخلي والديوانة”، وصولاً إلى حذف بعض الفصول المثيرة للجدل كالمتعلّقة “بالاعتداء على أسرار الأمن الوطني”، وتعديلات أخرى يتعلّق معظمها بتدقيق بعض الأفعال المُجرَّمة، أو بالحطّ من العقوبات. لكن هذه التعديلات لم تغيّر فلسفة المشروع، القائمة على حماية الأمنيين من المواطن وتحصينهم من التتبّع الجزائي في حالات معيّنة، في حين أنّ الحاجة هي حماية الأفراد من تعسّف الأمنيّين. دفع ضغط منظّمات المجتمع المدني، والوقفات الاحتجاجية أمام البرلمان، عدداً من الكتل التي صادقت عليه داخل اللجنة إلى التراجع عن موقفها، قبل أن يقرّر مكتب المجلس حذفه من جدول أعمال الجلسة العامّة. لكن رفض المكتب طلب الحكومة سحبه، باعتبار أنّ النظام الداخلي يمنع سحب مشاريع القوانين المعروضة على الجلسة العامّة، ليبقى مشروع القانون معلَّقاً. ربّما في انتظار هجوم إرهابي يؤثّر على مزاج الرأي العامّ، أو تغيير ما في موازين القوى.
تنظيم حالة الطوارئ: وكأنّ الخروج من لا دستورية أمر 1978 ليس أولويّة
تكرّر السيناريو مع مشروع القانون المنظِّم لحالة الطوارئ الذي صادقت عليه لجنة الحقوق والحرّيّات منذ شهر ماي من سنة 2019، فشغلت الرهانات الانتخابية النوّاب السابقين عن مناقشته في الجلسة العامّة. ولم يرَ النوّاب الجدد فائدة من برمجته خلال الدورة البرلمانية الأولى. عليه، لا تزال حالة الطوارئ، المطبَّقة بدون انقطاع في تونس منذ 2015، خاضعة لإطار قانوني مخالف للدستور شكلاً ومضموناً، وهو الأمر المؤرَّخ في 26 جانفي 1978. أثار مشروع القانون في صيغته الأولى انتقادات كبيرة، فقد استنسخ نفس فلسفة النصّ الحالي، القائمة على إطلاق يد رئيس الجمهورية في إعلان وتمديد حالة الطوارئ وأيادي كلّ من وزير الداخلية والولاة في تطبيقها، ما يشكّل تهديداً كبيراً للحقوق والحرّيّات. وكانت لجنة الحقوق والحرّيّات قد انتهت إلى صيغة مُعدَّلة تداركت فيها الكثير من هنات النسخة الأصلية، كالتقليص من مدّة حالة الطوارئ من ستّة أشهر إلى شهر واحد قابل للتجديد، وحذف بعض الصلاحيّات الخطيرة التي منحها المشروع للولاة، وتقييد أخرى بضمانات قضائية. لكنّها اكتفت في أحيان كثيرة بحلول وسط، ممّا يفسّر عدم رضا المجتمع الحقوقي على النسخة المعروضة على الجلسة العامّة، وقرار مكتب المجلس حذفه من الرزنامة التشريعية. إلّا أنّ بقاء مشروع القانون معلَّقاً وأمر 1978 نافذاً ليس حلّاً. فقد كان من الأجدى عرضه على الجلسة العامّة وتعديله في اتّجاه احترام الحقوق والحرّيّات الدستورية.
تنقيح المرسوم 116: باسم حرّيّة الإعلام، أحزاب تسعى إلى تحصين أذرعها الإعلامية
لئن تعدّدت مشاريع القوانين المثيرة للجدل إبّان العودة البرلمانية، فإنّ ما شكّل الرهان السياسي الأكبر ورسم خطّ الانقسام الأوضح كان مقترح تنقيح المرسوم 116 المنظِّم للإعلام السمعي البصري، الذي قدّمه “ائتلاف الكرامة” وسانده حزبا “النهضة” و”قلب تونس”. تنصّ هذه المبادرة على نقطتين؛ الأولى، انتخاب تركيبة جديدة للهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) من طرف البرلمان بالأغلبيّة المطلقة لتعوّض مجلس الهيئة الحالي؛ والثانية، إلغاء اشتراط الحصول على إجازة بالنسبة للقنوات الفضائية. وقد لقيت هذه المبادرة رفضاً قاطعاً من الهياكل النقابية للإعلاميين التي هدّدت باللجوء إلى الإضراب العامّ، ومن المجتمع الحقوقي بصفة عامّة، خصوصاً بالنظر إلى علاقة الأحزاب التي تساندها بقنوات تلفزية غير قانونية، وهما قناتا “نسمة” و”الزيتونة” بدرجة أولى، وكذلك قناة “حنبعل”، التي أصدرت “الهايكا” في حقّها قرارات بالغلق. يستند مقترح القانون إلى شعار حرّيّة الإعلام من جهة، وانتهاء عهدة مجلس “الهايكا” المحدَّدة بستّ سنوات في المرسوم 116 من جهة أخرى. لكن اشتغال هذه القنوات، بدرجات مختلفة، في الترويج لهذه الأحزاب، وإصرار الأخيرة على تمرير مقترح القانون بأقصى سرعة، استباقاً لإيداع مشروع القانون الحكومي الذي يُرسي إطاراً تشريعياً ومؤسّساتياً دائماً للقطاع الإعلامي السمعي البصري، كلّها عوامل غذّت الشكوك بأنّ الرهان ليس إصلاح القطاع، بقدر ما هو مشروع للسيطرة عليه. استغلّت أحزاب “الترويكا” الجديدة سيطرتها على مكتب المجلس ولجنة الحقوق والحرّيّات، رئاسة وأغلبيّة، لفرض استعجال النظر فيه، فلم تحتجْ اللجنة أكثر من عشر دقائق لمناقشة فصوله والتصويت عليها، بعد جلسة واحدة من النقاش العامّ اقتصرت على بعض الشروط الشكلية كعدم استشارة “الهايكا” وشبهات تضارب المصالح (الكثيرة) التي شابته. كما اعتبرت الكتل المعارضة “للترويكا” البرلمانية أنّ التصويت على الإجراءات الاستثنائية لعمل البرلمان في جلسة 7 أكتوبر، وتزوير نتائجه لتمريرها، كان يهدف إلى تسهيل تمرير تنقيح المرسوم 116 عبر إتاحة التصويت عن بُعد. في النهاية، أثمر ضغط الهياكل المهنية وتعهّد رئيس الجمهورية باستعمال صلاحيّة الردّ في حال تمّت المصادقة عليه، حذفه من جدول أعمال الجلسة العامّة، ليبقى هو الآخر معلَّقاً.
مشروع قانون تنشيط الاقتصاد وإدماج القطاع الموازي ومقاومة التهرّب الجبائي رهينة تعاقب الحكومات والمعارضات
أدّى موقف الكتل المعارضة ممّا شاب التصويت على الإجراءات الاستثنائية، وإصرار الأغلبيّة على صحّتها، إلى تعطّل الجلسات العامّة التشريعية إلى حين بتّ الهيئة الوقتية للرقابة على دستوريّة مشاريع القوانين في الأمر. حال ذلك دون عرض مشاريع قوانين عديدة انتهت اللجان من مناقشتها، أهمّها مشروع قانون تنشيط الاقتصاد وإدماج القطاع الموازي ومقاومة التهرّب الجبائي، الذي أودعته حكومة الفخفاخ بعد استقالتها. بدأت لجنة الماليّة مناقشته يوم 9 سبتمبر، بعد أسبوع من نيل حكومة المشيشي الثقة، بتركيبتها القديمة نفسها، أي برئاسة النائب عن حزب “قلب تونس” عيّاض اللومي، رغم انتقاله من المعارضة إلى الأغلبيّة، في حين يفرض الدستور أن تُوكَل رئاسة لجنة الماليّة إلى المعارضة. أثار ذلك احتجاج الكتلة الديمقراطيّة التي قاطعت جلساتها، بدون أن يمنع اللجنة من مواصلة أعمالها وإدخال تعديلات كبيرة عليه. فقد حذفت اللجنة أهمّ الإجراءات المقترحة لإدماج القطاع الموازي، كالتخفيض من قيمة المبالغ التي بالإمكان دفعها نقداً من 5 آلاف إلى 3 آلاف دينار؛ وإلزام البنوك بإبلاغ الإدارة الجبائية بعمليّات القبض والصرف المُنجَزة نقداً والتي تتجاوز 10 آلاف دينار؛ والضريبة التحرّرية بـ 10% على المداخيل والأرباح التي لم يسبق التصريح بها مقابل إيداعها بحساب بنكي أو بريدي؛ وكذلك الفصول المتعلّقة بإجراء “المراجعة الجبائية المحدودة” الذي كان يهدف إلى تسهيل المراقبة الجبائية. لكنّها حافظت على إجراءات أخرى، كتسوية مخالفات الصرف وبعض الامتيازات الجبائية. ولا يزال مشروع القانون معلَّقاً، في انتظار البتّ في دستوريّة الإجراءات الاستثنائية، وكذلك في طلب رئيس لجنة الماليّة الجديد إعادته إلى اللجنة لمناقشته من جديد.
كذلك، أنهت اللجان النظر في مشاريع قوانين أخرى لم تُحدِث جدلاً، كمشروع مجلّة مؤسّسات الاستثمار الجماعي، ومشروع القانون المتعلِّق بتنظيم التجارة الدولية بأصناف الحيوانات والنباتات البرّية المهدَّدة بالانقراض، ومقترح تنقيح القانون المنظِّم للجرايات والتقاعد في القطاع العامّ، لحذف إجراء الإحالة على التقاعد الوجوبي، دون أن ننسى تنقيح النظام الداخلي للبرلمان الذي أنهت اللجنة عملها بشأنه في شهر نوفمبر. لكن، جميع هذه النصوص لم تُعرض على الجلسة العامّة بعد، الأمر الذي ساهم في ضعف الحصيلة التشريعية لسنة 2020.
لا يُفسَّر هذا التباين بين الحصيلة التشريعية وما أنتجته اللجان بتعطّل أعمال الجلسة العامة جرّاء خلافات أو اعتصامات أو تنازع على صحّة الإجراءات وحسب، وإنّما هو نتاج جوّ سياسي متشنّج يصعب فيه الوصول إلى توافق، ومشهد سياسي لا وجود فيه لأغلبيّة تسمح بالمرور بقوّة في الجلسة العامّة. وهذا على عكس عمل اللجان، حيث يكون التوافق أسهل، حيث يكفي في بعض الأحيان انتماء رئيس اللجنة إلى كتلة معيّنة وحضور مكثّف لحلفائه لتمرير أيّ نصّ، حتّى من دون مناقشة، كما حصل في بعض المرّات. ساهمت عقليّة المُغالَبة السائدة في عمل بعض اللجان، على الأقلّ عند مناقشة مشاريع قوانين تحمل رهاناً ما، هي الأخرى في إضعاف فرص مرورها في الجلسة العامّة، وإضعاف موقف البرلمان أمام الضغط، أيّاً كان مأتاه.
نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة